نهاية مؤلمة


 

  

بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
 

كان حامد مضرب المثل عند أهل الحي  كان محبوباً من الجميع  قدوةً حسنةً لأقرانه بطيب أخلاقه وحسن تعامله  كان حريصاً على أداء الصلوات في أوقاتها مع الجماعة في المسجد  محباً للخير  متفوقاً في دراسته  لا أحب أن أسترسل وأعدد مزاياه وصفاته  ولكنني سأعطيه المجال ليحدثنا عن حكايته بجميع ما فيها من مفارقات وتناقضات عجيبة فهاهو يرويها لكم  :

كنت شاباً طموحاً أتطلع إلى المستقبل بتفاؤل كبير  طموحي لا يعرف المستحيل أبداً  كيف لا ؟ وأنا متفوق جداً في دراستي   ووالدي من الأغنياء ( فحالته المادية ممتازة جداً )  وأنا ابنه الوحيد  فمن الطبيعي أن يهيئ لي الجو المناسب للدراسة وأن يوفر لي جميع احتياجاتي المدرسية  وأنا سأبذل قصارى جهدي لتحقيق جميع أحلامي ورغباتي في ظل هذه الظروف المناسبة   

أنهيت المرحلة المتوسطة بتفوق كالعادة  انتقلت للمرحلة الثانوية وكلي عزيمة وإصرار لتخطي هذه المرحلة وبتفوق كسابقاتها من المراحل – الابتدائية والمتوسطة – ولكن تبقى هذه المرحلة هي الأهم فهي المرحلة التي من خلالها أستطيع أن ألتحق بالكلية التي طالما حلمت بها وسأتعب وأكافح من أجل الوصول إليها وهي كلية الطب .

 

 

بدأ العام الدراسي وأنا في قمة النشاط والحيوية º فكانت البداية رائعة º وعلى الرغم من بعض التغيرات التي طرأت – كغياب والدي المتكرر عن المنزل – إلا أنها لم تؤثر تأثيراً هاماً على سير حياتنا في بادئ الأمر º فغياب والدي كنت أجد له مبرراً º فهو مشغول بأعماله  ومشاريعه المتعددة  - فهو رجل أعمال ناجح -   فهو بالتأكيد يعمل من أجل إسعادنا وتوفير جميع متطلباتنا  

لكن  الأمر تطور فلم نعد نراه سوى ( مرّة ) واحدة في الأسبوع º وحتى في هذه ( المرّة ) يكون عصبياً جداً ومتقلب المزاج ولا يطيق الجلوس معنا أكثر من ساعة واحدة  طلباتنا الأساسية لا تلبّى إلا بعد أخذٍ, ورد º وتحقيقات تفصيلية عن المسببات والدواعي متضمنة بعض الكلمات القاسية  وكان دائماً ما يتعلل بأنه في أزمة اقتصادية ويجب علينا أن ( نشد الأحزمة ) ونقتصد كثيراً ونتنازل عن بعض الضروريات لحين انفراج أزمته !! قدّرنا ظروفه وتعوّدنا على غيابه  ولكن الأمر هذه المرّة تجاوز حدود الصبر º  مضى على غيابه أكثر من شهر º والبيت يحتاج إلى مؤونة بالإضافة إلى احتياجاتي المدرسية الهامة !!

لم يجعلنا نبحث عن أسباب غيابه كثيراً  هاهو يبعث إلى والدتي بورقة الطلاق !! هكذا وبلا مقدمات !!! كان الأمر بالنسبة للجميع صدمةً عنيفةً  لم تحتمل والدتي هذه الصاعقة º انهارت نفسياً ولم تعد قادرةً على فهم ما يدور حولها من أحداث حتى ازدادت حالتها سوء اً فلم يكن أمامي خيار سوى مستشفى الأمراض العصبية والنفسية

 

 

سمعت بعدها أن  تزوج بفتاةٍ, لم تتجاوز السابعة عشر من العمر º وأنه أنهى جميع أعماله هنا وانتقل إلى مدينة أخرى º واشترى  قصراً في أرقى الأحياء وقرر أن يعيش هناك ، وأنه سعيد جداً بزواجه الجديد º ونادم جداً على ما فات وانقضى من عمره !!!

اسودت الدنيا في عيني  وضاقت  الأرض بما رحبت عشت الحرمان بجميع أشكاله  ولكنني لا أملك سوى الصبر والدعاء قررت أن أذهب إلى المدرسة وأجد واجتهد لعلي أحقق شيئاً من أحلامي ولكن كنت دائم التفكير  شارد الذهن  لا أستطيع التركيز في الدروس º لم أكن قادراً على الوفاء بمستلزماتي المدرسية º لم أكن قادراً على تحمل نظرات العطف والشفقة من بعض التلاميذ º ولم أكن قادراً على تحمل نظرات الشماتة والتشفي من البعض الآخر   في الحقيقة بدأت أشعر باليأس والإحباط

أصبحت أواظب على الدراسة أسبوعاً  وأنقطع عنها شهراً  وهكذا إلى أن قررت الانسحاب من المدرسة وبذلك تحطمت جميع الأحلام وخبت أبسط التطلعات

أصبح الفراغ همّاً آخر أضيف إلى رصيدي السابق فقررت أن أتغلب عليه بالنوم حتى أدمنته  أنام في ساعةٍ, متأخرة من الليل ولا أصحو إلا بعد صلاة المغرب ومن ثَمَّ أصلي جميع الصلوات دفعة واحدة  وهكذا حتى بت أصلي بدون خشوع أو طمأنينة  وشيئاً فشيئاً إلى أن هجرت الصلاة نهائياً  حياتي أصبحت مملة وبلا جدوى  نوم تجاوز حدود المعقول º و صمت يكاد يفقدني صوابي في هذا البيت الذي أسدل عليه الحزن ستاره بعد رحيل والدتي وغياب  غير المبرر  إذاً لا بد لي أن أكسر هذا الروتين الكئيب ولا بد أن أخرج من هذا الصمت الرهيب  ولكن كيف السبيل إلى ذلك ؟؟ الخروج  نعم نعم إنه الخروج لكن إلى أين ؟؟ علاقاتي أصبحت محدودةً جداً بالإضافة إلى أنني لم أعتد على الخروج من قبل  فكان خروجي من البيت إما للمدرسة أو المسجد  سأحاول على كل حال لعلّي أتعرف على (  أصدقاء ) يشاركوني وأشاركهم همومهم ومشاكلهم  بحثت وبحثت حتى تعرفت على ثلاثةٍ, من الشباب وجدتهم الأقرب إلى نفسي فظروفنا متشابهة وهمومنا مشتركة  أخيراً وجدت ضالتي التي كنت أبحث عنها  هؤلاء هم الذين سينقذونني مما أنا فيه  توطدت علاقتنا  ذهبت معهم عدة مرات إلى السهر في ( المقاهى ) لم يجدوا صعوبةً في اجتذابي إلى مجموعة المدخنين  فمن ( المعسّل ) إلى الدخان إلى  حتى أصبحت صاحب ( مزاج ) على حد تعبيرهم ( فهذا هو الحل الوحيد في نظري للخروج من تلك الدوامة )

 

هذه هي حياتي الجديدة  سهرات في المقاهي والمطاعم ودام الحال على هذا المنوال أكثر من نصف شهر  في إحدى الليالي لاحظت التجهم وعدم الارتياح في وجوه أصحابي – على غير العادة – سألتهم عن السبب  فأجابني ( الزعيم ) خالد  - كنا نسميه الزعيم لأنه هو الأكبر سناً منّا وكذلك لاعتقادي بأنه هو المتكفل الوحيد بدفع تكاليف تلك السهرات التي كنا نقضيها معاً – فقال : بصراحة يا حامد لم يتبق من المبلغ الذي كنا نصرف منه سوى مبلغاً بسيطاً بالكاد يكفينا سهرة هذه الليلة فقط  

لم أشأ أن أسألهم عن مصدر المبالغ الذي كان يصرفها علينا خالد عندما تعرفت عليهم  ولكن سأسأله هذه المرّة  على فكرة يا خالد  من أين حصلت على المبلغ الذي كفانا كل هذه المدة ؟؟ أجابني بغضب : تعتقد من أين وحالنا كحالك تماماً فلا أهل ولا عمل ولم نرث سوى الهم والغم ؟؟ نسرق لنعيش يا حامد  لننسى كل همومنا ومشاكلنا بالمال الذي حرمنا منه  هدفنا الأغنياء أمثال ( والدك )  º كادت تقتلني تلك الجملة  ذكرتني بالحرمان  ذكرتني بالمفارقة العجيبة بين ( الميسور والمعسور ) على كل حال لم يكن الأمر مفاجئاً لي   حسناً حسناً يا خالد لنسهر هذه الليلة وهناك نتفق ونخطط ولك مني الولاء والإخلاص  ذهبنا إلى السهرة  خططنا واتفقنا على سرقة أحد المحلات التجارية  نفذنا الخطة بنجاح  توالت عمليات السطو والسرقة على البيوت والمحلات وجمعنا مبالغ تكفينا لسنة كاملة  دخلت هذا العالم بقلب من حديد فلا يوجد لدي ما أخسره

في أحد اجتماعاتنا خطط الزعيم لسرقة أحد البنوك التجارية  أحكم الخطة ولم يتبق علينا سوى التنفيذ  قمنا بعمل اللازم بحذر شديد ودخلنا البنك واستطاع أحد الأصدقاء ( بحرفنة ) ودقة متناهية أن يفتح الخزانة الحديدية ( التجوري ) وأثناء انهماكنا بجمع المبالغ لوضعها في الحقيبة º كانت المفاجأة  بل الطامّة الكبرى  داهمنا رجال الأمن ونحن في حالة تلبس ولم نملك سوى الاستسلام لهم  تم اقتيادنا إلى مخفر الشرطة وحققوا معنا واعترفنا بجميع سرقاتنا السابقة وصدقت اعترافاتنا شرعاً بعدها تم نقلنا إلى السجن بانتظار المحاكمة

 

تنهيدة :

 

أنت يا من قدِّر لي بأن ناديتك يوماً ( أبي ) أقسم لك بأنني لن أتفوه بهذه الكلمة مرة أخرى لأنك لا تستحقها

أنت يا من حطمت القلوب وجرحت المشاعر  هل هذا هو جزاء والدتي التي ضحت بالغالي والنفيس من أجلك ؟؟

أنت يا من حولت ذلك المستقبل المشرق إلى عالمٍ, مجهول سراجه ( العتمة ) وطريقه ( الأشواك ) ألا تعلم بأن الله يمهل ولا يهمل ؟؟

أنت يا من بعت أسرتك واشتريت الهوى  كيف ترقد على وسادتك وتنام هانئاً مطمئنّاً قرير العين ؟؟

أنت  أنت  أنت  هل أدعو لم أم أدعو عليك ؟؟

 

تمّــت وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply