لديها عزة شماء وأنفة علياء، لا تحب أن تصبح سخرية أمام أحد، إنها تلملم جراحها وتسير في دروب حيرتها مترفلة في أثواب العزة والكبرياء.
أرجوك حاول أن تفهمها.
ابتسم أبو ضياء ابتسامة وقورة وقال: أدرك كل هذا عن ابنتي شفاء، واحترم هذه المشاعر لكن الخاطب هذه المرة ليس ككل الرجال .
ماذا؟ هل نزل من الفضاء خصيصاً لنا ؟ إن ما يرجوه الرجال من النساء أمر معروف، ولعل أبرزها أن تكون فاتنة الجمال لأجل عينيه؟ لأجل أن ينظر إليها مرات ومرات، فترتد كل نظرة منه إليها ببهجة وفرحة وابتسامات . وأين شفاء من هذا ؟
أطرق أبو ضياء منكراًَ وقال: صدقيني إن مجاهداً يريد أن ينظر إلى من تستره حقاً، لكنه أخبرني أن سروره الحقيقي يكون ببهجة القلب وفرحة الروح وإمتاع الفكر. إنه لا يبحث عن سرور سطحي. سوف يطول النقاش بيننا ويتحول إلى جدل. وربما يتصاعد إلى خصام. لم تفكر وحدنا ولا نشرك شفاء معنا؟ فهي محور تفكيرنا الآن. اذهبي وناقشيها بالأمر .
رحيث الشفاء بمناقشة والدتها وتهللت أساريرها بعد أن سمعت شروط الخاطب مجاهد، لكنها عادت إلى نفسها وقالت: ماذا لو رأى يوماً غيري تجمع بين بهجة الروح والجسد؟ حقيقة أنا أرفض الزواج . قضية فرغت منها منذ أن هاجمني هذا المرض، ثم خاطبت أمها بنبرة حزينة قائلة: أرجوك يا أمي. أنت تعرفين أكثر من غيرك أن هذه قضية لا يمكن التراجع عنها .
فردت الأم : المرض يا ابنتي يمكن أن يشفى بإذن الله . اجعلي أملك بالله كبير. ترقرت دمعتان في عيني شفاء وسحبت ورقة من درجها ، وناولتها لأمها. تذكرت أمها هذه الورقة الشاحبة الصفراء والتي أكدت أن الأطباء عاجزون عن علاج البهاق علاجاً تاماً.
وبعد طول صمت قامت شفاء وقالت لأمها :
أنا أعلم تماماً أن كل الرجال يرفضون الزواج من فتاة (مرفّعة) بشكل عشوائي، وفي أفضل الأحوال فإني أظن أن هذا خاطب لعلمي وشهادتي ربما مهنتي وراتبي ..
بدأت علائم الدهشة على وجه الأم وقالت : إلى هذه الدرجة تسيئين الظن بالرجال حتى الملتزمين منهم؟ أليس فيهم رجل رشيد؟ ثم اتكأت على كتف الشفاء وقالت: الليلة ليلة مباركة طيبة .. لم لا ؟ فصلِ فيها صلاة استخارة!
وبعد أيام، نهل الأقرباء والأصدقاء من كؤوس الفرح وابتهجت غالبية الفتيات لزفاف الشفاء إلى مجاهد. إلا أن بعضهن لم يستطعن القبض على كلماتهن، فسمعت الشفاء من تقول: إنه مجاهد حقاً . وأخرى تقول: مسكين هذا العريس الوسيم يبدو أنه أعمى..! وغيرها: إن جاء للشفاء عريس فافرحن.. سوف نزف جميعنا في القريب العاجل ولن تبقى على وجه الأرض عانس !
كانت الشفاء تلدغ من تلك العبارات، وتكتم أناتها. إلا أن ما وجدته من المحبة وحسن الخلق من زوجها مجاهد منحها القدرة على التحليق في فضاء القيم. وفي ديار الغربة كان كلاهما قريبًا إلى ربه. ساجدًا وقائمًا، عابدًا وداعيًا، مبتهلاً، وصابرًا ، مما جعلهما ينظران إلى الحياة بمنظار رباني شفاف وبقلب مؤمن مطمئن. كانا يأخذان بأسباب الشفاء وهما راضيان متوكلان محتسبان . إلا أن قلب شفاء كان ينقبض ألماً حينما تذكر بعض العبارات خاصة تلك التي كانت تخرج من أفواه المتعلمات أمثال نجوى، ولم يكن يهدئ روعها سوى صلتها الوثيقة بالله. واقتربت ساعة العودة إلى أرض الوطن، سوف يعودان ومعهما طفل يملأ الفضاء بكركراته العذبة. سوف يعودان وسحائب الرحمة تظللهما، وطرقت الشفاء باب بيتها بعد غياب طال، ذهلت أمها لمرآها . تكاد تشك في نفسها وذاكرتها، لكنها لم تنس أن تحمد ربها وسط الدموع والابتهالات.
طار الخبر كالبرق، فأقبلت الجموع مهنئة وكانت من بينهم نجوى صاحبة التعليقات اللاذعة.. يا الله إنها لم تتمالك نفسها. كانت أكثر الناس بكاء وتسبيحاً، إنها تتلمس جسد الشفاء الذي عوفي تماماً وبدل لون نوراني جميل، وتتساءل أأنت أيتها الشفاء؟ صدقيني لولا صوتك لأنكرت نفسي.. أيعقل أن تصبحي أجمل النسوة بعد أن ارتديت تاج العافية؟ أين نحن منك؟ صدقيني إن ما حدث معك لهو شبيه بمعجزة.
قالت الشفاء وعلامات السرور تكسو وجهها .
أجل يا نجوى، إن المؤمن القوي يحقق من الغايات ما يشبه المعجزات، وتذكرت صوت مجاهد العذب وهو يقرأ ، فقالت: إن مجاهد يردد الآية الكريمة دوماً:
(إن يعلم الله في قلوبكم خيرًا يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم ويغفر لكم)، ويتبعها بدعاء: اللهم اجعلنا من أهل هذه الآية .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد