أكاذيب الشائعات!!


بسم الله الرحمن الرحيم

 

علماء النفس والاجتماع يؤكدون أن الخُواء الفكري والفراغ النفسي، وإهمال التربية الصحيحة، والانسياق وراء شبهات العقل، وشهوات النفس، واعتياد الناس على اللهو وعدم الجدِّ في الأمور، كل ذلك يؤدي إلى خلل في وعي المجتمع وإدراكه يجعله فريسة للشائعات، ومرتعاً خصباً لمروِّجي الأكاذيب، ودعاة التهويل والتضليل، وتؤكد الدراسات النفسية أن الصحة النفسية للإنسان لا تتحقق بالمنصب ولا بالمال ولا بتحقيق جميع الرغبات التي يتوق إليها، وإنما تتحقق بالصفاء الروحي، والرزانة الفكرية، وأفضل طريق لتحقيق هذه الرزانة وذلك الصفاء (طريق الدين الصحيح) الذي يسمو بالنفس البشرية ويمنحها الأمان والاطمئنان والراحة والهدوء، يقول الأستاذ عبد الرحمن النحلاوي في كتابه (التربية الإسلامية والمشكلات المعاصرة): إن المبدأ التربوي الذي طرحته التربية الإسلامية منذ أكثر من أربعة عشر قرناً لا يعترف بوجود فراغ، ولا يترك للنفس الإنسانية أيَّ مجال للشعور بالفراغ، إن التربية الإسلامية تربي الناشئ على أن ينظر إلى كل ساعات الحياة ولحظاتها على أنها أمانة في عنقه) ص 159.

ولكن السؤال الذي يبرز أمامنا هنا هو: كيف نحقق مراد التربية الإسلامية الصحيحة في أنفسنا وأبنائنا ومجتمعاتنا، كيف ننتقل من مرحلة الكلام النظري إلى الواقع العملي؟

لا شك أن المجتمع المسلم في زماننا هذا بحاجة إلى جهود كبيرة لانتشاله من كثير من العادات المنحرفة المسيطرة عليه سواء أكانت عادات متوارثة قديمة كالحسد، والطمع، والحقد، والأنانية التي تنتشر بين كثير من المسلمين، وربما أصبحت إرثاً سيئاً ينتقل من الآباء إلى الأبناء، أم كانت عادات جديدة مكتسبة أفرزتها سهولة الاتصال بالآخر الذي يملك قوة التأثير، ووسائل التوصيل، ويملك أسلوب التأثير المدروس، كالتهاون بالقيم والأخلاق، والشك في ثوابتنا وأصول مبادئنا، والانسياق وراء شهوات النفس الفتاكة التي تدعو إليها وسائل الإغراء المنتشرة في هذا الزمن مما لا يخفى على أحد منا.

وهذه العادات السيئة إذا استحكمت في البشر وصاحبها قوة في الطرح والعرض من مروجيها، وضعف في الطرح والعرض من المصلحين الذين يواجهونهاº فلاشك أنها ستكون من أول أسباب تخلف المجتمع البشري وانهزاميته، وهذا هو الجو الملائم لانتشار الأكاذيب والشائعات بين الناس.

ذلك لأن ضعف الوازع الديني، وشعور الإنسان بإمكانية التفلت من أخلاقه الفاضلة، وقيمه الراسخة، وحصوله على المتعة (الوقتية) التي تتحقق للنفس حينما تمارس شهواتها وأهواءها، كل ذلك يجعل الإنسان ضعيفاً أمام الانحراف، منساقاً وراء من يزين له الهوى واللهو، وعند ذلك تعمى بصيرته، ويثقل عليه الحق والخير، فيجد نفسه منساقاً إلى محاربة الإصلاح والمصلحين، والضيق والتبرم بما يقولون، وعند هذا المنعطف تدخل المجتمعات البشرية إلى دوامة الأهواء، وسيطرة الأكاذيب والشائعات.

والمتأمل الواعي الصادق لما يجري في كثير من مجالسنا ومناسباتنا الاجتماعية من أحاديث غير موثقة تبثها وكالة أنباء (يقولون) وهي وكالة منتشرة انتشاراً عجيباً، وسبب انتشارها سهولة الإسناد إليها والرواية عنها دون ضوابط ولا رقيب ظاهر يوقف الرواة عن وكالة (يقولون) عند حدِّهم، ويكشف خطأهم، ويحذرهم من الوقوع في براثن هذه الوكالة الوهمية.

كم من مجلس من مجالسنا نقوم منه على مثل جيفة (حمار) لما كان فيه من الغيبة والنميمة والكذب الصريح، وسرد الشائعات الوهمية، وصدق رسولنا - عليه الصلاة والسلام - حين شبه هذه المائدة الخبيثة مائدة (الغيبة والنميمة) بجيفة الحمار.

الحبة تصبح قُبة، والنملة تصبح فيلاً، والحق يصبح باطلاً في هذه المجالس المتفلتة المشحونة بكل خبر مثير، أو قصة غريبة، أو أخبار ملفقة عن فلان وفلانة من الناس، فالشيخ الفلاني قال كذا والصواب كذا، ونيته فيما قال كذا، وربما أنه قد انحرف عن منهجه، ولذلك قال كذا وتستمر كذا، إلى أن يتحول ذلك الإنسان الغافل الغائب عن المجلس إلى وحش من الوحوش، والحقيقة أن كل ما سُرد في هذا المجلس لا يصمد أمام التحقيق والتأكد بل ربما تكون الحقيقة عكسه تماماً.

والمسؤول الفلاني أصدر قرار (كذا) وهدفه (كذا) وأراد به الإساءة إلى (فلان) ومجاملة (علان) ونيته (كذا)، وتفصل كل الثياب على هذا الإنسان دون أن يعلم، ويصبح مرتدياً لها دون أن يعلم، وربما كانت الحقيقة مناقضة لذلك كله.

وقس على ذلك كل المجالات، ففلان تزوج فلانة لأجل كذا، وهو لا يستحقها أو هي لا تستحقه، وفلان بالغ في حفلة زواجه فهو مسرف مبذِّر، وفلان اختصر في حفلة زواجه فهو بخيل مقتر، والتاجر فلان ربح الملايين وهو لا يستاهل، والله أعلم من أين جاءت وكيف جاءت؟ والتاجر فلان خسر الملايين وهو يستحق لأن نيته سيئة، وهو لا يحسن العمل، والله أعلم بما وراءه، ومدير المدرسة الفلانية جيد، ولكنه شديد ولا يفهم في كل الأمور الإدارية ووو... وقس على ذلك آلاف الموضوعات المشابهة والقضايا التي تشغل كثيراً من مجالسنا، والنتيجة إهدار الوقت، وإشاعة الشرّ، والخروج بمحصلة خطيرة، من إثم الغيبة والنميمة التي توعد الله، أصحابها بالعقاب الشديد، ونهى عنها نهياً واضحاً في القرآن الكريم وعلى لسان رسوله - عليه الصلاة والسلام -.

ما الفائدة يا ترى من هذه الأحاديث التي لا ضابط لها؟

ولماذا يهدر الوقت بهذه الصورة السيئة؟

وكيف يمكن العلاج؟

هنا يأتي دور (الإسلام العظيم) الذي يؤدب الإنسان بكل الآداب الفاضلة الكريمة التي تضمن له ولمجتمعه حياة حرة كريمة.

وما دمنا نحن (مسلمين) فلماذا لا نرى أثر الآداب الإسلامية واضحاً قوياً في سلوكنا وتفكيرنا وحياتنا الاجتماعية المعاصرة.

إن نصوص القرآن والسنة مليئة بالتوجيه والإرشاد إلى وسائل تكوين الإنسان السوي الفاعل الإيجابي المؤثر، وهذه النصوص الكريمة ليست نصوصاً نظرية شكلية ولكنها نصوص عملية، فقد تأدب بها السلف الصالح خير تأدب، وحققوا بالتزامهم بها أسمى درجات التعامل البشري النزيه، وأرقى أساليب الحياة الاجتماعية السليمة.

بل إن الحجة قائمة علينا نحن المسلمين المتأخرينº لأن أخطاء السلف (خاصة المجتمع المسلم في حياة الرسول - عليه الصلاة والسلام-) وتجاوزاتهم قد عُولجت بتوجيه وتعليم من الله - سبحانه وتعالى - في ما أنزل على رسوله من آيات الذكر الحكيم، وبمتابعة صادقة من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكل ذلك يُعَدٌّ حُجة قائمة علينا، وخلاصة تربوية موجودة بين يدينا، لعلاج مظاهر الانحراف والخطأ الشائعة في مجتمعاتنا المسلمة المعاصرة.

إن الانشغال بإشاعة الأخبار السيئة، وتضخيم أخطاء الناس، والحرص على تصيدها ومتابعتها والتفكه بعرضها في المجالس يشيع الاضطراب والقلق في النفوس، ويكون من باب إشاعة الشعور بالإحباط واليأس عند كثير من الناس، ومن باب نشر الفتنة، وتهوين نقلها بين الشباب، وربما قاد ذلك إلى تهوين ارتكابها في نفوسهم.

يقول الله - تعالى - في سورة النور: ((إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون)).

يقول ابن كثير - رحمه الله -: \"وهذا تأديب لمن سمع شيئاً من الكلام السيئ فقام بذهنه منه شيء وتكلم به\"، وأكثر من إذاعته وإشاعته فإن العقاب على ذلك شديد، وهو عقاب أليم في الدنيا بإقامة الحد لمن أثبت عليه الكلام، وفي الآخرة بالعذاب.

هكذا نجد أمامنا طريقاً واضحاً للعلاج، ونصوصاً واضحة للتربية والتوجيه.

ورسولنا - عليه الصلاة والسلام - يقول فيما روي عنه: (كفى بابن آدم بلاءً أن يحدِّث بكل ما سمع).

وقد مرَّ بي مواقف كثيرة ينقل إليَّ فيها أخبار تحت شعار (حدثني من أثق به) وهو شعار مضلل، ثم أكتشف فيما بعد أن تلك الأخبار غير صحيحة، أو أنها وصلت إليَّ بعد ما زاد عليها الناقلون أضعافها، وبعد أن وجَّهوها وأوَّلوها وحكموا ظلماً على نيّات أصحابها، وكل ذلك مع الأسف يأتي تحت شعار (حدثني من أثق به).

وما أروع ما روي عن الأحنف بن قيس ومعاوية - رضي الله عنهم -، حيث قال معاوية: يا أحنف حدثني عنك الثقة بكذا، وأخبره بكلام غير لائق نُقل عنه!! فقال الأحنف: يا أمير المؤمنين الثقة لا يحدِّث، ما أجملها من عبارة أضاءت قلب معاوية فضحك راضياً معجباً بها.

نعم (الثقة) ليس مغتاباً، ولا صاحب نميمة، والمجتمع الواعي الحضاري لا يسمح لمرضى النفوس من أهل الغيبة والنميمة ومروجي الشائعات أن يعبثوا به وبطمأنينته واستقراره، فلو أن كل واحد منا واجه من ينقل إليه كلاماً بكلمة: (اتق الله) لاستراح المجتمع من ضغط الشائعات وتأثيرها السلبي في النفوس. 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply