المثقف ( الوطني ) .. في مواجهة ( التطرف )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تحدر من أسرة محافظة، وتلقى تعليما، معظمه تقليدي. وبالرغم من أنه لم ينتم (حركيا) لتيار بعينه، فقد كان حريصا أن يصنف، بناء على التقسيمات الحركية، على أنه منتم (فكريا).

 

التصنيف الأيدولوجي لم يكن يوائم طبيعة شخصيته، وبالتالي، فشل في أن يتقمص (دورا) فكريا محددا. البيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها، جعلت تصنيفه يقع ضمن (الوطنيين المحافظين)، ففقد بذلك أي ميزة (قيادية)، من نوع تلك التي تمنحها التيارات الفكرية، للمحسوبين عليها، وهو ما يتطلع إليه بحنين جارف.

 

في نقاش عارض بين بعض الزملاء، طرق سمعه هذا الجزء من الحوار:

 

- لكي تصنف فكريا، وسياسيا، إما أن تكون إسلاميا، أو قوميا.

 

- \"إسلامي..؟ حدث نفسه، لا يناسبني هذا الدور\".

 

-... لا يجدي أن تكون قوميا عربيـا الآن، لأن القومية العربيـة أصبحت (شيئـا) قديما، في زمن الإنشطار والتشظي. لقد تأخرنا كثيرا يا صاحبي (...)، كان يمكن التحدث عن شيء من هذا، قبل مغامرة صدام في الكويت.

 

أن تكون قوميا أمر متعب، مثلما أن تكون إسلاميا، لأنك لابد أن تكون منتميا. والانتماء له تبعات. أهونها أنك ستدخل في معادلة: \"معي وضدي\"، وشقها الآخر: \"من ليس معي فهو ضدي\".

 

إذا كنت منتميا، فلا بد أن تكون صاحب موقف، وتتبنى قضايا مبدأيه. والقضايا المبدأية يصعب التراجع عنها، دون ثمن باهض.

 

.. أرأيت...؟ التصنيف الفكـري، والانتماء الفكري، وجهان لعملة واحدة، ولهما ثمن أيضا. هما ليس طريقا ممتعة، أو حتى سهلة، لتحقيق الطموحات الشخصية (....)\".

 

.. وجد نفسه لا شعوريا (يقتحم) الحوار الثنائي، بين الزميلين:

 

- إذا كـان الانتماء، وبالتالي التصنيف، إسلاميا، أو قوميا، ليس مشجعـا... ما الحل.. أليس هناك طريق ثالث..؟

 

جلجلت ضحكة أطلقها زميله، فقال وهو يستدير تجاهه:

 

- بلى، هناك طريق ثالث...، كن (مثقفا ليبراليا). كن ليبراليا، ولن تكون مسئولا عما تقول أو تفعل. تستطيـع أن تخوض في كل شئ. تستطيع أن تتكلم عن (الذات الالهية) مثلما تجادل في (أسهم شركة الكهرباء)، دون تبعات. لأنك ببساطة تستطيع أن تقول، عند أي مساءلة:

 

- (أنا لا أقصد، هناك من يقرأني بطريقة خاطئة).

 

ولأنـه ليس لديك قضايا مبدأية، فبالتالـي ليس لديك شيء لا تستطيع التنازل عنه. وحينها، لن يقول الناس عنك أنك بلا مبدأ، أو (مجدف)، أو حتى ملحد.. بل سيقال أنك (براغماتي).. مثقف عالمي الرؤية.. واقعي.. مبدع يسكنك هم الحرية.

 

أرأيت.. المسألة محلوله..؟

 

ليس هذا فحسب، بل أمامك (أجندة) طويلة، لتصول فيها وتجول، من خصخصة القطاع العام، إلى حقوق المرأة... بل يمكن أن يكون لك رأي حتى في المسائل الدينية. فقط، قل:

 

- لا أحد يملك حق إحتكار الدين..

 

لو أخذت حقوق المرأة مثلا، سيكون لديك قائمة طويلة من القضايا، وجيشا من المؤيدين، في مقدمتهم (الجنرال) نوال السعداوي...

 

آه.. يا (بوحميد) لو كان لدي مؤهلاتك، واسمك الأكاديمي اللامع، لأصبحت (مثقفا) يشـار إليه بالبنان، ولأعلنت نفسي (مفكرا) كبيرا، ولجعلت من نفسي زعيما لتحرير المرأة، ودعوت لتحريرها من أغلال التقاليد، والتفسيرات (الدينية) المتطرفة.. وناديت بأعلى صوتي:

 

- انتهى زمن الرق والعبودية... إن أفكار القرون الوسطى، لا تليق بمجتمع يقف على مشارف الألفية الثالثة..

 

كـن ليبراليا وطنيا (...) واحمل الراية، اصرخ: الثقافة في خطر.. يخنقها (الظلاميون)...

 

المـرأة في خطر.. تنتهك حقوقها، يهمش دورها، تعطل طاقتها الإنتاجية، يضطهدها (المتطرفون)، يحاصرها (المحافظون)، تقمعها (السلطة).

 

- لكني...؟

 

- أعرف، ستقول أنك نفسك لست مقتنعا بهذه المسائل، وأن نظرتك إلى المرأة جنسية، وأن أسرتك لها تاريخ (جيد) في احتقار المرأة.

 

لا يهم يا عزيزي.. كلنا ذلك الرجل. الشباب كلهم كذلك. (ربعنا) الذين تعرفهم، أشرسهم في تبني مسائل (الحريات)، وقضايا المرأة، (لابد أنك عرفته الآن)، إذا تسمرت عيناه على فتيات (الفضائيات) قال:

 

- (هذولي هن الحريم، ما هيب الكربة اللي عندي).

 

صاحبنا هذا، كتب الأسبوع الماضي مقالا (رائعا)، كان عنوانه:

 

\"أي إمرأة نريد... معضلة العقل والجسد...؟ \"

 

تكلم في مقاله ذاك عن المرأة، من حيث هي عقل وروح، يتسامى على الحس والجسد، وأشار إلى أن الذين (يحاصرون) الجسد، ويحاولون (تكميمه) بالحجب السوداء على حد قولـه -، قد رهنوا أنفسهم في دائرة الحس، وتوقفوا عند المرأي والمشاهد، دون أن يغوصوا من خلاله، إلى ما يمكن أن يطلقه ذلك (المحسوس)، من طاقات خلاقة، وما يشيعه من معاني الجمال.

 

وتطرق إلى أن (إعتقال) الجسد، اعتقال للإبداع، وتغييب لمصادر الإلهام. ثم خلص إلى ما سماه (وحدة الحرية). ومفادها، أن الحرية، هي أس الخلق والتكوين والإبداع. وأنها لا تتجزأ، فليس فيها حقيقة ومجاز، كما أنه لا جنس لها، وإطلاقها شرط لبلوغ الجسد، (المحسوس)، أعلى مراتبه ليلتقي بالروح في أفق سديمي، يتعانق فيه الزمان والمكان، بمعزل عن كل ما هو (مقدس)، في لحظة، هي: جوهر التكوين والإبداع.. وتخلق الحرية..

 

- ما هذا الكلام... ؟ أنا لم أفهم شيئا..

 

- ولا أنا.. ولا أظنه هو. إنه باختصار، يقدم نفسه نصيرا للمرأة، العقل والروح، وعينه على الجسد، أو ما يسميه هو إشكالية المرأة، من خلال مفهوم الحرية والإبداع.

 

- لكن هذا الكلام خطير، فيه تعريض بالمقدسات، وقد يعرضـه للمساءلة. إنه لا يصادم الإسلاميين، والمتدينين فقط، إنه يواجه التيار المحافظ بأكمله.

 

- ألم أقل لك أن لديه أحجيته السحرية.. سيقول:

 

\"هناك من يقرأني خطأ (...).. هناك من يتعامل، بسوء نيه، مع الإبداع، و(النص الأدبي)، كما لو أنه (نص ديني)... بهدف الحجر على حق الناس في (التفكير)..

 

إن (المقدس) يبقى مقدسا فقط، حينما يظل في دائرة (اللاهوت). أما عندما ينتقل إلى دائرة (الناسوت) فقد انتفت عنه قدسيته...

 

إننا قد نتفق مع أولئك (المتزمتين)، الذين يقولون لا تتحدثوا عن (الإله)، من حيث هـو (كينونه).. ذاتا مستقلة...

 

.. لكن (فعل) الإله، وعلاقته بالناس، (ليس مقدسا)، لأن هذا هو مجال الإبداع، والخلق والتكوين، لدى المبدع.. الذي (يعيد خلق) الأفعال برؤى جديدة، لا علاقة لها بالسماء، بعد أن نزلت إلى الأرض، وامتزجت بطبيعة الناس الأرضية.\"

 

- لكن هذه هرطقة.. وكفر، قد تقوده للمساءلة..

 

- لا تكن ساذجا يا صديقي...

 

لا تنس، أنه يقدم نفسه على أنه مثقف ليبرالي (وطني).. حر. سيقول، لو سئل:

 

- هناك حكم مسبق علي، بسبب موقفي (الفكري) كمثقف وطني (غير مسيس)، يقف ضد التنظيمات والأحزاب الدينية، التي تريد فرض رؤيتها الخاصة للدين. هناك من يتعمد قراءتي بطريقة خاطئة..

 

الغلاة، والمتطرفـون... و(المكفراتية) يحاصرون الإبداع \".

 

- هذا دور صعب، لا أستطيع أن أنزلق إلى هذا الحد\".

 

- أي (انزلاق) يا عزيزي..؟ أنت مفكر.. أنت (مبدع)، والإبداع يجوز فيه مالا يجوز في غيره. أليس قلبك (نقيا)..؟

 

-.. لكن هذا الدور سيجعلني (وحدي).. وقد يعرضني للخطر..

 

- لا يا صديقي.. لن تكون وحدك. ستجد حتى في صفوف المتدينين من يدافع عنك. إنها موضة (التسامح) و (الحوار مع الآخر). فقط قل: إنني مفكر، حر، مبدع، (أحب) الإسلام المعتدل.. (ركز) على الإسلام المعتدل... وأكـره التطرف، وإصدار (صكوك الغفران)، ومصادرة حق الناس في التفكير.

 

- بصراحة.. (مشروعك) هذا يخيفني..

 

- الخروج على السائد، والشهرة لهما ثمن.. ثم إن (الريادة) الفكرية، تتطلب مثل هذا الموقف. كما أن موضوع المرأة شائق ولذيذ، لو أردت أن تجعله واجهة لطروحاتك الفكريـة. إضافة إلى أمر لا تستطيع مقاومة إغراءه... المعجبين والمعجبات أيها العزيز..

 

- هاه.. نعم..

 

ما رأيك لو بدأت الحديث عن قضايا عامة، مثل حرية الفكر والثقافة، حق المرأة في التعليم، حقها في التملك، والحصول على بطاقة أحوال، أو حقها...

 

- لا.. لا.. أترك القضايا العامة، فهذه ليست محل جدل أو نزاع، ولن يختلف معك أحد حولها. هذه قضايا الإصلاحيين، أصحاب النزعة

التراثية، وأنت رجل عصري، ذو رؤية مستقبلية، يسكنك هم الحرية.. والإبداع، كما قال صاحبنا في مقاله المذكور، نحن بحاجة إلى قضايا تطلق المرأة، فتنقلها إلى أفاق (رحبة). فتكون قيمة على نفسها، مسئولة عن حريتها الشخصية، خاصة حرية جسدها. وماذا تصنع به. بعيدة عن وصاية الرجل...

 

لابد أن تكسر (التابو)، والمحرم، في العلاقة بين الرجل والمرأة..

 

انقد مفهوم (قوامة) الرجل على المرأة، كنموذج للاستعباد، والسخرة، وممارسات القرون الوسطى. قل، لو اعترض عليك أحد، في هذه المسألة، أو غيرها، أن الفقه يتغير بتغير الزمان والمكان...

 

صرح دائما: أن مشكلتنا مع (المتطرفين)، الذين يحتكرون الدين، و(يكفرون) الآخرين بسبب (اجتهادهم)، وحقهم في التفكير..

 

هناك إسلاميون (مستنيرون)، احرص على أن تخاطبهم باستمرار، وأن تشيد بتسامحهم، ووقوفهم في وجه الغلاة والمتطرفين..

 

التجربة أثبتت، أنه لا يفل الحديد إلا الحديد... لا يقف في وجه (المتدين) ويدحره، إلا (أصولي) مثله..

 

فقط أحسن توظيف هذا (التكتيك).. في (لعبة) التطرف والاعتدال..

 

لا تكرر طروحات غيرك.. كن مختلفا.. وجريئا... وأكسر السائد والمألوف.

 

اجعل لك شخصية خاصة...

 

فالكتاب الذي أثر في حياتك كثيرا، ستقول، حينما تسألك الصحافة، (المرأة الجديدة) لقاسم أمـين، وقل إن علي عبدالرازق، أنموذج للمفكر (الإسلامي)، الواعي، الذي يساير العصر.

 

ولا تنس أن تذكر ولعك بالشاعر نزار قباني، وكيف أن ديوانه (يوميات امرأة لامبالية)، كان رفيقك منذ فترة مبكرة في حياتك. واذكر كيف أمسك بك والدك (المتشدد) متلبسا، وأنت في المرحلة المتوسطة، تقرأ قصيدة: (لمن صدري أنا يكبر)، في ذلك الديوان، فعاقبك عقابا شديدا، كان له أبلغ الأثر في انتهاجك خطأ مؤيدا للمـرأة... لحريتها خاصة، وللحريات عموما..

 

ستسأل ربمـا، عن شخصيات عالمية، توقفت عند سيرتها طويلا، قل، بزفرة مصحوبة بالأسى: سيمون دي بوفوار، وجان بول سارتر..

 

اصنع لنفسك هالة المثقف (العولمي)...

 

ردد دائما أنك قرأت: (هكذا تكلم زرادشت..) أكثر من 5. مرة.. والتقيت (صامويل هنتنقتون) في حوارات جانبية.. وحصل بينك وبين (هنري كيسنجر) نقاش حاد في (مانهاتن)...

 

وتمت استضافتك في ورشة عمـل، عـن الأعمال الفكرية لـ (ميشيل فوكو) في السوربون.. وكنت أحد ضيوف الشرف في (كامبرج)، في مئوية (برتراند راسل).

 

- ما رأيك لو أني طرحت للنقاش موضوع:

 

محنة الإبداع.. بين (قدسية) النص الديني، والمفهوم (البابوي)..؟

 

\"يبدو أنك استوعبت الدور بسرعة.. لكن، هناك وصية..

 

دائمـا عندما تعلن عن أرائك ضمنها (العبارات السحرية)، التي تحميك من (المتطرفين)، وتستثير نخوة (المستنيرين)، للدفاع عنك:

 

(الإبداع يعلو على المحاكمة.. التطرف خطر يهدد نهضتنا الفكرية.. الإسلام (المعتدل) هو الوجه المضيء لثقافتنا...)..

 

Good Luck...

 

وسوف نراك قريبا، بكل تأكيد، في موسوعة (Who\'s Who) للمشاهير، وربما ترشح لجائزة نوبل للآداب.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply