التبرع بالدم في ضوء الشرع والطب


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

التبرع بالدم عمل إنساني نبيل وواجب ديني عظيم، لأنه يساهم في إنقاذ حياة آلاف المرضى الذين يكونون في أمس الحاجة لنقل الدم. والحقيقة أن واحداً من كل عشرة مرضى يدخلون المشفى في حاجة إلى نقل الدم خصوصاً المرضى الذين يعانون من الأمراض المستعصية، وأثناء العمليات الجراحية الكبرى، وكذلك الأشخاص الذين تعرضوا لحوادث خطيرة فقدوا على إثرها كمية كبيرة من الدم، ويضاف إلى ما سبق أن مكونات الدم تستخدم في علاج حالات مرضية خطيرة وعديدة تهدد حياة الكثيرين، فالبلازما تستخدم لتعويض مرضى الحريق الذين يعانون من فقد كميات كبيرة من البلازما، وتستخدم كريات الدم الحمراء في علاج حالات فقر الدم الشديدة (الأنيميا) وأمراض الدم الخطيرة التي تسبب تكسر كريات الدم الحمراء مثل: الثلاسيميا والأنيميا المنجلية. ويستخلص من الدم كذلك الصفائح الدموية والبروتينات المضادة لأمراض النزف، وهذه تستخدم في علاج الكثير من الحالات المرضية مثل: مرض سيولة الدم (الهيموفيليا) وهناك أيضاً الأجسام المضادة للميكروبات التي تفصل وتستخدم لرفع درجة مناعة الجسم.

ومن المعلوم عند الجميع، أن التبرع بالدم، عملية إنسانية يقصد منها مساعدة المريض المتبرع له ابتغاء رضى الله- تعالى-، ويُعد من القربات التي يتقرب بها المسلم لربه، ولكن ما يجهله الكثير من الناس، أن التبرع بالدم في حد ذاته له منافع جمة على المتبرع أيضاً. فبالنسبة للإنسان العادي السليم يعمل التبرع بالدم على تجديد الدم وتجديد حيوية ونشاط الجسم، وبمتابعة شخص قبل تبرعه وبعد تبرعه بالدم نلاحظ أنه قبل التبرع، يكون عنده عدد الكريات الحمراء مرتفعاً، مما يجعلها متراكمة داخل الأوعية الدموية وبالتالي فإن وصولها إلى الخلايا لتزويدها بالأكسجين يكون بطيئاً، والمحصلة اضطراب في أداء خلايا الجسم ويكون الشخص أقل نشاطاً وأقل حيوية والعكس صحيح.

كما أن التبرع بالدم، يعتبر العلاج الأنسب لبعض الحالات المرضية كحالات النزيف المستعصية، فبعد التبرع بالدم يسترجع المرء البلازما في 24 ساعة، الكريات الحمراء في 3 أسابيع، والصفائح بعد 7 أيام، ولهذا بعد عملية التبرع يحدث ما يسمى طبياً HEMODILUTION يعني أن الكريات الحمراء والبيضاء والصفائح أقل عدداً، وأن البلازما تحتل الحجم الأكبر، وبالتالي فإن عوامل التخثر الموجودة في البلازما تكون أكثر تركيزاً في الدم، وتصل بسرعة وسهولة لمكان النزيف، كذلك بالنسبة لبروتينات البلازما التي تلعب دوراً في انسداد الجروح، تكون مُركزة في السائل الدموي وتصل بسرعة وسهولة إلى مكان الجرح. فمثلاً في حالة المريض بقرحة المعدة إذا تبرع بالدم فإن البروتينات ستصل بكمية كبيرة وبسرعة إلى المعدة لعلاج وسد القرحة مقارنة مع إنسان مريض بقرحة لا يتبرع بالدم، وبالتالي فانسداد الجرح عنده سيستغرق وقتاً أطول.

نذكر أيضاً حالة الشقيقة "الصداع النصفي" التي ترجع أساساً إلى تقلص قطر بعض شرايين الدماغ، فإن بعض الكريات الحمراء الحاملة للأكسجين تجد صعوبة للوصول إلى خلايا الدماغ وبالكمية المطلوبة فينتج عن هذا آلام مزمنة في الرأس، ولكن بعد عملية التبرع بالدم وبالرغم من تقلص الشرايين، فإن الكريات الحمراء تكون قليلة العدد نسبياً، وبالتالي يمكنها اختراق هذه الشرايين الضيقة، والوصول إلى خلايا الدماغ وتزويدها بالأكسجين فيزول ألم الرأس بإذن الله -تعالى-.

كما وجد أن نسبة الإصابة بمرض القلب المزمن منخفضة عند المتبرعين بالدم. ولقد فسر العلماء ذلك بأن انخفاض معدل تخزين الحديد الناتج عن التبرع بالدم هو الذي يحمي المرء من أمراض القلب المزمنة حيث أثبتت الأبحاث الطبية أن تخزين الحديد بصفة مستمرة يرفع من نسبة الإصابة بأمراض القلب.

 

ويمكن التبرع بالدم عند توفر الشروط التالية:

1-              إذا كان المتبرع يتمتع بصحة جيدة.

2-              أن يكون عمر المتبرع يتراوح بين 18-60 سنة.

3-              أن يكون الوزن 55 كجم على الأقل.

4-              أن يكون المتبرع خالياً من أي أمراض تتعارض مع عملية التبرع.

5-              أن تكون نسبة الهيموجلوبين بين 13-17، 5 جم في الرجال وبين 12-14، 5 جم في السيدات.

6-              أن يتراوح ضغط الدم بين110-60 إلى 140-90 مع انتظام دقات القلب [  ] بين 50 - 100 دقة في الدقيقة، ولا تزيد درجة حرارة الجسم عن 37، 3 درجة مئوية.

7-              يمكن الشخص أن يتبرع بدمه مرة كل ثلاثة أشهر على ألا تزيد مرات التبرع عن أربع مرات في العام الواحد.

 

ومما هو جدير بالذكر إن التبرع بالدم لا يغني عن الحجامة، لأن التبرع بالدم ينتمي إلى الفصد الذي هو بعيد كل البعد عن الحجامة، حيث أن التبرع بالدم يؤدي إلى التخلص من بعض مكونات الدم بكميات معينه في وقت قصير ويتم ذلك من خلال وريد دموي وليس من خلال مسام الجلد، ولذلك لا نستفيد منه في تنبيه أماكن معينة في الجلد كما في الحجامة.

أيضاً لا توجد مطلقاً أي مخاطر للتبرع بالدم، فكمية الدم التي تسحب عند التبرع كمية بسيطة تقدر بحوالي 450 مليلتر وهذه تمثل فقط 8% من متوسط حجم الدم عند الشخص البالغ والذي يصل إلى 5-6 لترات من الدم، ويقوم الجسم بتعويض حجم الدم المتبرع به خلال ساعات معدودة عن طريق السوائل التي يتعاطاها المتبرع أمَّا خلايا الدم فهي أيضاً خلايا متجددة، فيتم تعويض كرات الدم البيضاء والصفائح الدموية في خلال 3-7 أيام أمّا كرات الدم الحمراء فتعوض بالكامل في أقل من شهر من التبرع.

 

الرؤية الشرعية للتبرع بالدم:

 نقل الدَّم  (Blood Transfusion):  

بما أن الدم عنصرٌ أساسيُّ من عناصر البدن فإن خسارة كمية كبيرة منه تُعَرِّضُ الشَّخصَ لما يُعرف طبياً بالصَّدمَةِ النَزفِيَّة   Bleeding (Shock) التي قد تؤدي إلى الموت إذا لم تعالج سريعاً بنقل الدم، ومختلف فتاوى "الفتاوى التي صدرت بهذا الشأن قد اتفقت على جواز نقل الدم للمرضى، لأنه نوع من التداوي الذي تصل الحاجة إليه حد الضرورة في معظم الحالات، ولأنَّه لا يترتب عليه إضرار بالمُعطي (Donor) بل ينفعه نفعاً عظيماً بإذن الله - تعالى -. ومن فتاوى" الفتاوى التي صدرت بجواز نقل الدم فتوى الأزهر (رقم 492 مجلة الأزهر 1368ه، ص 743) التي جاء فيها: "إذا توقف شفاء المريض أو الجريح وإنقاذ حياته على نقل الدم من آخر بألا يوجد من المباح ما يقوم مقامه في شفائه وإنقاذ حياته جاز نقل الدم إليه بلا شبهة ولو من غير مسلم. وكذلك إذا توقفت سلامة عضو وقيام هذا العضو بما خلقه الله له على ذلك جاز نقل الدم إليه، أما إذا لم يتوقف أصل الشفاء على ذلك ولكن يتوقف عليه تعجيل الشفاء فنصوص الشافعية تفيد أنه يجوز نقل الدم لتعجيل الشفاء، وهو وجه عند الحنفية، فقد جاء في الباب الثامن عشر من كتاب الكراهية في فتاوى" الفتاوى الهندية ما نصٌّه: يجوز للعليل شرب الدم والبول وأكل الميتة للتداوي إذا أخبره طبيبٌ مسلم أن شفاءه فيه".

 

 بيع الدم:

أجمع الفقهاء على حرمة بيع الدم من قبل المتبرعين، واشترطوا أن يكون التبرع دون عِوَض مالي، وقد جاء في فتوى المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي (الدورة 11، المنعقدة في الفترة 13-20 رجب 1409ه الموافق 19-26 شباط 1989): "أما حكم أخذ العوض عن الدم، وبعبارة أخرى بيع الدم، فقد رأى المجلس أنه لا يجوز، لأنه من المحرمات المنصوص عليها في القرآن الكريم مع الميتة ولحم الخنزير، فلا يجوز بيعه وأخذ عوض عنه، وقد صحَّ في الحديث: "إنَّ الله - تعالى - إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنَه"(1).

 

كما نهى {عن بيع الدم. ويستثنى من ذلك حالات الضرورة إليه للأغراض الطبية، ولا يوجد من يتبرع إلا بِعِوَضٍ,، فإن الضرورات تبيح المحظورات، بقدر ما ترتفع الضرورة، وعندئذ يحلٌّ للمشتري دفع العوض ويكون الإثم على الآخذ، ولا مانع من إعطاء المال على سبيل الهِبَة أو المكافأة تشجيعاً على القيام بهذا العمل الإنساني الخيري لأنه يكون من باب التبرعات لا من باب المعاوضات".

 

 التبرع بالدم بين الجنسين وأحكام الزواج:

يجوز للرجل الذي تبرع بدمه لفتاة فأنقذ حياتها أن يتزوجها، ولا تثبت المحرمية بهذا الدم. وإنما تثبت المحرمية في الرضاع ضمن فترة الحولين الأولين قبل الفطام. لما جاء أن النبي قال: "لا رضاع إلا في الحولين، وكان قبل الفطام"(2) فالحديث يدل على اختصاص التحريم بالحولين. فإذا كان الرضاع بعد الحولين وبعد الفطام، فلا تثبت به الحرمة. فما ظنك برجل كبير تبرع بدمه لإنقاذ حياة تلك الفتاة. هل تحرم عليه؟ لا. الحاصل: أنها أجنبية عنه ويجوز له أن يتزوجها، وليس هذا بمحرم لها(3).

 

 التبرع بالدم في الصيام:

قد فصل بعض علمائنا فقال: بأنه إذا أخذ من الإنسان قدراً من الدم قليلاً لا يؤثر في بدنه، فإنه لا يفطر بذلك، سواء أخذه للتحليل أو لتشخيص المرض، أو أخذه للتبرع به لشخص يحتاج إليه. أما إذا أخذ من الدم كمية كبيرة يلحق البدن بها ضعف فإنه يفطر بذلك، قياساً على الحجامة التي ثبتت السنة بأنها مفطرة للصائم.

وبناء على ذلك فإنه لا يجوز للإنسان أن يتبرع بهذه الكمية من الدم وهو صائم صوماً واجباً، إلا أن يكون هناك ضرورة فإنه في هذا الحال يتبرع به لدفع الضرورة ويكون مفطراً يأكل ويشرب بقية يومه ويقضي بدل هذا اليوم وذكرت هذا التفصيل وإن كان السؤال يختص بنهار رمضان. وبناء على ذلك فإنه إذا كان صائماً في نهار رمضان فإنه لا يجوز أن يتبرع بدم كميته كثيرة بحيث يلحق بدنه منها ضعف إلا عند الضرورة فإنه يتبرع بذلك ويفطر بقية يومه ثم يقضي بدله يوماً آخر(4).

 

التبرع بالدم للكافر:

بين أهل العلم بأنه لا مانع من ذلك، لأن الله -تعالى- يقول في كتابه العظيم: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم(8){الممتحنة: 8} فأخبر -سبحانه- أنه لا ينهانا عن الكفار الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا أن نبرهم ونحسن إليهم، والمضطر في حاجة شديدة إلى الإسعاف، وقد جاءت أم أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- إلى بنتها وهي كافرة، في المدينة في وقت الهدنة بين النبي وأهل مكة تسألها الصلة، فاستفتت أسماء النبي وقالت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: "نعم صلي أمك"(5) وهي كافرة. فإذا اضطر المعاهد أو الكافر المستأمن الذي ليس بينا وبينه حرب، إذا اضطر إلى ذلك فلا بأس بالصدقة عليه من الدم، كما لو اضطر إلى الميتة، وأنت مأجور في ذلك لأنه لا حرج عليك أن تسعف من اضطر إلى الصدقة(6).

 

حكم القادر صحياً على إعطاء الدم لمريض في حاجة ماسة إليه، ثم يتقاعس أو يرفض بلا مبرر:

التبرع بالدم جائز، وللمتبرع أجر كبير إذا نوى بذلك معاونة المحتاجين وإنقاذ المرضى، ولكن التبرع بالدم غير واجب، إلا أن يحصل اليقين أن النقل منه هو الطريق الوحيد لإنقاذ أخيه المسلم ولا يتضرر هو بذلك ضرراً كبيراً. وأما مراكز الدم فلا يجوز للمسئول فيها أن يمتنع عن مساعدة المحتاج للدم المتوفر في المركز، وإن لم يجد المقابل لنقل الدم إليه، فيكره له الامتناع، وتشتد الكراهة إذا ترتب على امتناعه ضرر، حتى تصل إلى الحرمة مع المؤاخذة إذا ترتب على ذلك وفاة المريض أو إصابته بداء لا يعالج إلا بمشقة كبيرة(7).

 وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين 

الهوامش والمصادر:

1-              رواه الدارقطني في سننه (3-7) وابن حبان في صحيحه (4938) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- بهذا اللفظ وبغيره عند أبي داود (3488) وأحمد (2221).

2-              حديث ((لا رضاع إلا ما كان في الحولين)) رواه مالك في الموطأ (2-607) في الرضاع، باب ما جاء في الرضاعة بعد الكبر، وإسناده منقطع، وقال ابن عبد البر: ويتصل من وجوه ا. ه ويشهد له حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن رسول الله قال: ((لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام)). أخرجه الترمذي رقم (1168) في الرضاع، باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين، وهو في صحيح الترمذي للألباني برقم (921)، والإرواء رقم (2150).

3-              من فتوى للشيخ عبد الله بن محمد ابن حميد بعنوان فتاوى عن التبرم بالدم

4-              انظر فتاوى الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله تعالى -6-124.

5-              رواه البخاري رقم 2026 باب الهبة وفضلها، ومسلم (1003).

6-              من فتاوى الشيخ ابن باز رحمة الله  تعالى عليه موقع الشيخ على الإنترنت - فتاوى التبرع بالدم.

7-              من فتاوى دار الإفتاء بالأزهر 6-251.

مصادر البحث:

 فوائد التبرع بالدم د.حسناء لمحلحل.

 الأحكام الشرعية للأعمال الطبية المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت 1403ه - 1983م، ص 202 203 - د.أحمد شرف الدين.

 

 الموسوعة الطبية مادة دم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply