من حكايات أبي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

\"كل فتاة بأبيها معجبة\" مقولة قيلت قديماً، ولا أنكر ذلك فهي حقيقة على الأغلب، ومع انشغالات أبي الكثيرة غير أنني أحمد الله الذي أوجدني في أسرة مسلمة مؤمنة، متمسكة بشرع ربها، ومرتبطة بقيمها الأصيلة، ومحافظة على أخلاقياتها، فأبي أستاذ جامعي، يعلم كتاب الله، ويسعى ليبث القيم الأصيلة بيننا، ونحن ندين له بالكثير بعد الله، فهو قد علمنا ديننا، وحرص على إسماعنا قيمنا النبيلة من خلال حكاياته الجميلة لنعيها فلا نغفل عنهاº في الوقت الذي انصرف فيه كثيرون فانشغلوا بأمور تافهة، ناسين الماضي العريق الذي تميز بالعفة والعزة والكرامة، واليوم سأروي لكم حكاية من تلك الحكايات التي يقارن فيها والدي الحاضر الهزيل للأمة بماضيها العريق، ويبين كيف تبدلت القيم في كثير من البلاد الإسلامية - إلا ما رحم ربي -، وارتضى الناس بأن يتبعوا خضراء الدمن، ليؤكد لنا في نهاية حكايته اللجوء إلى الشريعة والدين، وإلى ما يتمتع به الفرد المسلم من صيانة وعفة للنفس/ فلنستمع معاً إلى حكايته، قال أبي - يحفظه الله -:

خرج العبهول كعادته اليوم لنا بحكاية جديدة، وعمله مشين في حقه وحق أمثاله كما يعتقد، لقد قرر أن يفسِّح أهل بيته، وأن يخرج حبيبة قلبه من خدرها، ليمسح عنهم غبار الزمن، وليتجول بهم في أرض الله كبقية البشر، يحملهم فوق ظهره الذي تكلست فقراته نتيجة الجمود والقعود، خرج هذه المرة يبحث في الأرض التي تنطق الضاد، واختار زاوية حادة من جسد الضاد الممزق، وجلس يروي لنا قصته معتقداً أنها تجربة لن تتكرر ثانية، قال الحكيم عبهول:

قدم لي مضيفي الكريم كوباً من الشاي المعمداني المعتق، إلى جانب وردة جورية حمراء لا زالت قطرات الندى تتساقط من وريقاتها التي تشبه إلى حد بعيد في عبيرها ورقتها وشفافيتها تلك الشهيدة النقية الطاهرة آيات، التي سقت بدمائها الزكية الطاهر تربة الأقصى الشريف عزاً وكرامة، ووضع لي صاحبي مع المعمداني طبقاً من المكسرات التي لم يعجبني منها إلا الكاجو الذي أبتليت به كغيره من المنتجات المستجلبة من العم سام، وهو ثمر غريب عن دياري، معقوف في أوله، غليظ في آخره، كأنه مخلوق ممسوخ، ربما استهجنه طائفة من بني قومي شكلاً وطعماً أكثر من استهجانهم لبني صهيون الذين سفكوا الدم المتوضأ الطاهر، وأحلوا بموجب الصمت العربي والإسلامي الرهيب والصمت العالمي الثيب بقر بطون الأمهات في الأشهر الحرم، وهدم البيوت الآمنة في عصر حقوق الإنسان، ويتابع العبهول قائلاً: كنت على سفح يطل على المدينة العظيمة، أتوسط جملة من أشباه البشر مثلي، كل واحد منشغل بما يهمه، ثلة تتذكر الماضي فتقف على الأطلال، وجملة تعيش الحاضر بأفراحه وأتراحه، وقلة قليلة فقدت صوابها وربما عقلها تفكر في المستقبل في ظل التعايش مع بني صهيون، ومع أن صغاري من حولي يعبثون، وأنيستي تجلس قبالتي وهي تحاول تقليد من حولها من الفاتنات في حركاتهن وتمايلهن، ونظراتهن وابتساماتهنº غير أني ما كنت لأبالي بها فقد أشغلت نفسي بما يتعب فكري، ويكدر خاطري، وهي راضية غير مبالية بغفلتي وشرودي للوهلة الأولى، لقد أعفتني عن شكرها على كل تلك الحركات المخفية لكونها غطت وجهها امتثالاً لأمر خالقها، ورأت أن السعي لرضا الرب هو خير المتاع، وهو بلا شك سيرضي الخلق عنها، ومنهم أنا بالفعل.

ومن سفح الجبل، ومن بين تلك الحدائق الغناءº أمعنت النظر في المدينة الجميلة، أطل عليها من عل، أنقل النظر بين أحيائها، فتمتزج في الشبكية كل ألوان الطيف، وكل التناقضات، هناك كان ابن عساكر يمتطي صهوة جواده فارساً ملثماً ليمر بحارة الحنابلة، فينجو بنفسه لخلاف فقهيº ربما كان يسيراً، وهناك الإمام القرطبي يمر وحوله جمهور عظيم من طلبة العلم يسألون ويدونون، وهناك كان سجن شيخ الإسلام ابن تيمية ذاك العظيم الذي بهر بعلمه الفلاسفة المتكلمين، وبصبره الجبابرة المتكبرين، أرى طلبة العلم قد التفوا حول سجنه يسجلون كل كلمة ينطق بها، وهناك الحمزاوي يجلس وهو يداعب ريشته في يده، يبحث عن مرادفة مهملة بدل معجمة لتفسيره العظيم درر الأسرار (التفسير المهمل)، وهناك أرى قوافل الحجيج قد أطلت بعد غياب طويل، أسمع زغاريد الكواعب، وتراحيب الأمهاتº تختلط البسمة بالدمعة، أرى بينهم ابن عطية الأندلسي، وأرى التلمساني بوجهه المنير، والماوردي بحكمته وحنكته، والأدفوي بثوبه الصعيدي، وقد أسدل الشال على كتفه سلطاناً، وغيرهم من أساطين العربية والشريعة وهناك وهناك، نبهتني أنيستي اقصد من تقوم مقام كشاشة الذباب، تكش خواطري كلما خطرت لي خاطرة، أو دنت لتخطر مني، فجميع خواطري عندها لا تستحق البقاء ولا الحياة، ولا أعيبها حقيقة لكون الخاطرة أنثى، والأنثى لا تطيق الأنثى، ظنت المخلوقة أن فارسها وربان سفينتها قد أبحر في نعوت الحسن والدلال، والرقة والجمال، وأنه بات يتنقل بين الكواعب من الصبايا المميلات، تنبهت للإشارة الأولى ارتشفت الشاي المعمداني الذي فقد حلاوته، فذهبت مع أؤلئك العظماء، عدت بنظري بعد أن ارتشفت رشفة أخرى أفرغت بها نصف الكوب، وإذا بي أمام منظر آخر ممسوخ، ربما أعجبº ثلة من بني قومي من الذين فقدوا الدين والحياء حين تتلمذوا على أيدي العابثين بمصير الأمة في زقاق ابن عساكر الذي كان محروساً بجنود الحنابلة تمر شقراء رشيقة، تلاعب خصلات شعرها جيدها لتخالط أقراطها، تجردت من حيائها قبل لباسها، متجملة متكحلة متزينة، كشفت من عوراتها أمام خلق الله، ما تخجل بنات ابن عساكر من كشفها أمام أزواجهن، وتمر ببرد وسلام من دون أن يتعرض لها جنود الحنابلة بأذى، وهناك قرب معتقل ابن تيمية أرى مجموعات تشابكت بالأيدي يعلوها صراخ وعويل، حسبته للوهلة الأولى نذير شؤوم وهو كذلك، صبيان وصبايا، شباب وشابات، عجز وعجائز، في هرج ومرج، اختلط فيهم العظم باللحم، والسليم بالقويم، عافانا الله والسامعين، وهناك في مجلس الحمزاوي جلسة انقلبت فيها كل الأحرف العربية مهملة حتى الثاء فقدت النقاط الثلاثة التي كانت تزين هامته، فاختلط بالباء والتاء، والنون والياء، حالة الابتداء والتوسط، مجلس سكر وعربدة، يصبح الديك فيه فيلاً، وتصبح الخنفساء قائداً عسكرياً محنكاً، وهناك أرى القوافل قد تغيرت وتبدلت، قافلة من السياح قادمة تجتاح المدينة كاجتياح التتار والمغول، اختلاط وسفور، غناء وطبل وزمر، أصوات عالية وضحكات مستنكرة، وجوه مكفهرة مستنفرة، قادمة من حظيرة الدولار واليورو، نبهتني أنيستي حين لاحظت تكدر خاطري، عدت إلى المعمداني الذي اكتسب برودة قارسة من الجو المحيط حتى غدا لا يصلح إلا لرجل من جنوب شرق أسيا، وأنَّى لي أن أحصل على مستطيل قزم من تلك الديار فأستضيفه لارتشاف ما تبقى من الكوب، ربما تمكنت لو أن الزمن كان قبل استقلال تيمور الشرقية الذي جاء عدلاً وإنصافاً ومساواةً بمثيلاتها الشيشان، وكشمير، ومورو، وكوسوفو، والبوسنة، وغيرها نتيجة عدل الأمم المتحدية المتردية، أقصد الأمم المتحدة كما يدعون، وصدق الشاعر حين قال:

تـباً لهـــــــا مـدنيةً ذهـبت               بمكـــــــارمِ الأخـلاقِ والأدبِ

في هـيرشيما خلَّفَت أثـراً               هـيهات نـنساه مدى الحقب

مـن يخترع للحرب كـان له               ما شــــاء من مالٍ, ومن رُتـَبِ

أما الذي للسلم دعوتـــــه               ولخـدمة الإنســان فهـو غبي

تنبهت وعزمت أن أسامر أنيستي، وأنسى الماضي والحاضر وحتى المستقبل كغيري ممن لا زالوا يعيشون، فالتفتُ لصغاري لأطمئن عليهم، وإذا بصغيرتي الغالية قد جلست القرفصاء - وهي جلسة لا أفضلها للصغار عموماً - مع (كربوجة) بيضاء مغنجة، فطرق إلى سمعي صوت صغيرتي وهي تعبث التربة الندية بأناملها، وتنظر مثلي في أجواء المدينة العظيمة التي طالما تحدثت إليها وإلى أخوتها عن ماضيها المجيد، والتي طالما ذكرتهم بأمجادها الغابرة، وزرعت فيهم حبها وحب من فيها، فكم شوقتهم إلى مائها العذب الزلال، وكم جعلتهم يتمنون العيش في ظلالها وعلى تربتها، كم مرة أفهمتهم أنه قد خطَّ على تربتها عبارة صنع الإله المقتدر! كم مرة أفصحت لهم عن عظمائها وعلمائها، سمعت صغيرتي تقول لجليستها بصوت رقيق ناعم، لمست بحديثها أوتار قلبي الحزين، وفتَّقت جرحاً ظننتُ - وبعض الظن إثم - أنه قد بريء وشفي، قالت صغيرتي: نزور مكة ثلاث مرات في السنة لأداء العمرة، نطوف بالكعبة، نبتهل إلى الرحمن، ونصلي خلف المقام، ونسأل المنان، ونشرب من زمزم طعام طعم، وشراب سقم، ونستمع إلى السديس وهو يدوي بقول الحق عالياً، فنهنأ بالراحة والطمأنينة بين أرجاء المسجد الحرام، نقوم الليل عبادة وطاعة، نزور منى، ونمر بمزدلفة، وعرفات، نرمي إبليس اللعين - كفانا الله شره والسامعين -!!، قاطعتها الكربوجة المغنجة قائلة: هل تدرين بأننا نحجز في السنة ثلاث حفلات الأولى في كازينو الشرق، والثانية في مسرح المهد، والثالثة في فندق سان جورج؟، فنقوم الليل كله إلى شروق الشمس تعزف الموسيقى، تصدح نجوى، وتغني سلوى، نرقص على أنغام الأورك والبيانو، تشرب أمي شرابها الأبيض حتى ترتفع ضحكاتها قبل أن تترنح، وفي الصباح يأتي العم جورج ليحملنا إلى شقتنا، فنسلم أنفسنا لنوم عميق.

قالت صغيرتي: في المدرسة نرتدي المريال الرمادي، ونقف طابور الصباح لتسمعنا إحدى الطالبات كلام الباري، فنبدأ يومنا بذكر الله الحكيم، ثم بقول مأثور من رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه -، تعلمنا الأبلة الحنونة التجويد، ومخارج الحروف وصفاتها، كما تعلمنا الغنة والترقيق والتفخيم، وتمنع الأبلة عنا المشروبات الغازية حفاظاً على صحتنا، وتضامناً مع أمتنا، وحين نريد الخروج بعد أن نؤدي صلاة الظهر جماعة تقف الأبلة الحبيبة لتنبهنا على ضرورة ارتداء الحجاب امتثالاً لأمر الخالق الباري، ثم تقول لكل خارجة: كنت في رعاية الله وحفظه ترعاك عينه التي لاتنام، ولا تنسي أذكارك المسائية والتي قبل النوم!! قالت البيضاء المغنجة: ونحن نرتدي المريال الزهري، وهو خفيف على أجسادنا، تغطي ما علا الركبة وما دنى الصدر، لتسهل لنا الحركة، وفي الطابور الصباحي تعزف الموسيقى النشيد الوطني، ونردد خلفه بأنغامه وألحانه، ثم تحية العلم نقف للعلم إجلالاً وتعظيماً، ومن ثم يقوم أستاذ الموسيقى ليعلمنا السلم الموسيقي ( دو ري مي فا صو لا سي دو )، وفرقة المسرح تعلمنا الرقص الشرقي والغربي، ونتعلم الغناء في الحفلات، والرقص في السهرات، وإذا خرجنا ودعتنا المديرة قائلة: لا تنسي أن تستمعي إلى أغنيتك المفضلة قبل النوم، ثم تقول: باي، قالت صغيرتي وأشارت لأنثى تجلس على كرسي خلف الطاولة المجاورة لنا: أهذه أمك؟ قالت المغنجة: نعم، قالت صغيرتي: وذاك الذي بجانبها والدك؟ قالت:لا، هو صديق أمي، ثم أشارت البيضاء إلى بعيد وقالت: ذاك أبي بجانب تلك التي تسمع ضحكتها، قالت صغيرتي: ومن هي التي معه؟! قالت البيضاء: صديقته، قالت صغيرتي: وهل لك أخوة؟! قالت: نعم، وأشارت إلى طاولة ثالثة وقالت: ذاك أخي ماركو، قالت صغيرتي: ومع من هو؟! قالت البيضاء: مع خالتي، قالت صغيرتي: ولِمَ؟! قالت البيضاء: رفض صديق أمي أن يخرج معنا، ورفضت صديقة أبي أن يخرج معهم، فاضطر للخروج مع خالتي، قفزت صغيرتي من مكانها وصاحت صيحة دوت في أرجاء الغابة قائلة: تباً لكم وللأبلات والهبلات اللواتي يقمن بتدريسكن وتعليمكن ليجعلن منكن مشردات ضائعات!! أين أنتن؟!! أسر مشردة ممزقة، روابط مهدمة، ضياع وهلاك وعدم استقرار، انتقال بين الأحضان ومع الخلان، ثم التفت إلي ورمت بنفسها إلى يدي تقبله وتحضنه، وتشد عليه، وتقول: بارك الله فيكم من آباء، أستأذنك سيدي الغالي للرحيل، لنقم إلى حيث كنا، فننعم بساعة في ساحة المسجد الحرام، ننهل من زمزم، ونقبل الحجر، ونطوف ونسعى، نسمع صوت الحق مدوياً، نركع ونسجد، وتباً لتلك الديار، وتباً لمثلها حضارة.. أهـ.

وأستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتم أعمالكم، وإلى لقاء قادم، ومع حكاية جديدة من حكايات أبي.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply