صمتا ... دعوهم يدمروننا


 

بسم الله الرحمن الرحيم

في يوم بكت شمسه، واغتمت سماؤه، واختنق قمره، واختفى نهاره، وتساقطت نجومه، واحترقت أشجاره، وذبلت أزهاره... وساد الصمت الأسود أجواءه، إثر العناقيد الغاشمة التي نظمها العالم الجديد ليضعها تحت سيطرة من يسودونه ليجزروا بها رقاب العرب المستسلمين... وقف \"صابر\" وسط أنقاض بيته.. والبيوت الأخرى التي دمرتها قذائف الطائرات الكاسرة وولت إلى حضن أمها الدافئ الحنون.. لتعود بين أصابع الزعيم \"النتن\" أو تحت إمرة البطل المغوار الكلب \"ش... ر ون\" يوجهونها لنا متى ما شاؤوا. وقف \"صابر\" هذا الشاخص الحزين تتحجر الدموع في عينيه.. مشدوهاً لا يستطيع التفوه.. حوله القليل ممن بقي من الأهالي يصرخون ويستغيثون.. وهو مازال متحجراً في مكانه كعامود لم يستطع النسف أن يثنيه.. يسرع رجال الإنقاذ... ومن أتى معهم من المارة.. ينتشلون الجثث المتماسكة والأخرى المتهالكة.. وربما الأقدام، أو الرؤوس، أو حتى قطع اللحم المتناثرة.. يجمعون ذلك كله في صناديق.. يحملونها.. يسرعون لعربات الإسعاف، وغيرها من عربات الشرطة والجيش والعربات الخاصة.. يمرون من أمامه، ومن خلفه معهم الصناديق يبصرها.. يتأملها.. لكنه أبداً لا يتحرك.. تراه منتصباً متجهماً شاحباً كهيكل مرت عليه عصور... تمتلئ عيونه الدامية دموعاً.. لكنه لا يبكي:

 

تناديهم أمهم:

كانوا هنا يلعبون يمرحون.. تناديهم أمهم للغداء فلا يأتون.. وحين يشاهدونني قد افترشت الساحة الخالية بين جدران بيتي الذي لم يكتمل، أمام الطعام، يهرولون... يتسابقون.. الولدان حولي، والصبيَّة الصغيرة تمهد ثنية قدمي لتصعد جالسة عليها.. ثم يصرخ ويصرخ:

أسرتي.. أين أسرتي؟! أبنائي... عودوا.. لقد أتيت متأخراً اليوم، لكنني أتيت، هذه هداياكم أحضرتها كما عودتكم... أبنائي... أبنائي، لا أحد يجيب... صرخات متعددة مدوية، تزلزل الأنقاض... لكن أبداً لا أحد يجيب!.

التهمتهم نيران الصهاينة، اختطفتهم قنابل \"ش... ر ون المستعرة، التي زارت اليوم \"قانا\" وغداً سيأتي دور أخريات غيرها... لكي تأخذ الأطفال والكبار، ومن تبقيه يكون عاجزاً... حتى عن الكلام، و... نلهث... نلهث لنفوز بالاستسلام...

هكذا سرت هذه الكلمات في وجدانه... وهو مازال يصرخ... ينادي أبناءه وزوجته، منهاراً... مع أنقاض بيته.. إلى أن يصيح عليه أحدهم من بعيد... يا \"صابر\".. يلتفت تجاه النداء ويتماسك لينصت للذي كرر اسمه مرات عديدة:

يصيح: يقولون إن ابنك الأكبر مازال حياً، وهو في المستشفى، صيحة الحياة اخترقت مسمعه، فتفتحت خلاياه، وانتعشت أعضاؤه... لا يدري كيف وصل إلى المستشفى.. أو متى؟ غير أنه عادت إليه روحه، وصاحبتها بقايا جسده عندما رأى ابنه وحوله جمع من الأطباء والممرضات \"يحيطون به\" يحمد الله... ويجمع أنفاسه ليتساءل بصوت منخفض، ألم تر إخوتك... ؟! ألم تر والدتك؟! ويسود الغرفة صمت رهيب... ويعلو الوجوم وجوه الجميع، ويزداد الصمت... يزداد ليقطعه صوت طفولي بريء... يخرج من بين الجراح الهامدة: استشهدوا يا أبي، وتصيب الصاعقة الجميع فتجري أنهار من الدموع على وجوههم... من ثبات ذلك الطفل وذكائه، ويشق الأب صفوفهم ليصل إلى ابنه المسجى في جراحه... فيعتنقه، ويلصق صدغه إلى صدغه، ويجلسونه على الكرسي بجواره... ومازال يلاصقه:

كيف يا بني كيف استشهد إخوتك.. وأمك؟!.

همس إليه الطبيب: لا تثقل عليه، فنحن نعده لعملية أخرى.

لا أدري كيف يا أبي فإنه بعد دوي الانفجارات، والقذائف التي جاءت من كل الاتجاهات، والنيران التي اشتعلت في بيتنا والبيوت المجاورة، أغمضت عيني من الخوف... ووجدت نفسي في المستشفى بين القتلى والجرحى... ثم نقلوني هنا، وليس على لسان الجميع سوى، \"الاستشهاد\" كلمة واحدة يرددونها عن القتلى حيثما كانوا... فماذا يقصدون بها يا أبي... ؟؟!. والتفت إلى أبيه، فوجد وجهه قد فاض بفيضانات من ماء عينيه الداميتين:

إنها منزلة في أعلى الجنة قد أعدها الله يا بني لمن يقتلون في الدفاع عن دينهم وأوطانهم.. منزلة عظيمة مع النبيين والصديقين.. وحسن أولئك رفيقاً.

 

ما يبكيك يا أبي؟

إذن فما يبكيك يا أبي؟ إنهم هناك، ونحن سنظل ندافع عن ديننا وأرضنا إلى أن نصل إليهم، لا تبك يا أبي... لا تبك.. إنني أرى أمي وإخوتي هناك.. ها هم أمام عيني يمرحون ويتسابقون كما كنا نفعل لكنهم في واحة خضراء فسيحة... أراهم سعداء... إنهم ينادوننا... ينادوننا يا أبي ثم يبتلع ريقه بصعوبة وهو يتكلم، ويشعر الأب بعطشه، فيناوله كوباً من الماء.. لكنه لا يأخذه.

أتذكر يا أبي \"العصير\" الذي كنت تحضره لي يومياً، إنني أشتاق إليه الآن، ويجزم له الأب أنه كان معه ضمن الهدايا التي أحضرها عندما عاد، لكنه لا يعرف أين تركها حين فجعته الحادثة \"لكن لا بأس سأشتري لك غيره، وأعود في التو\"... قالها وهو ينهض مسرعاً... يسابق الزمن ليحضر لابنه \"العصير\" الذي طلبه، وحين اشتراه، اشترى معه أيضاً بعض الدميات المفضلة التي كان يلعب بها، وأغراضاً أخرى... ثم تركها تتساقط...تتساقط الواحدة تلو الأخرى على عتبة الغرفة التي كان بها ابنه... بعد أن رآهم \"يحيطون به.. مرة أخرى\" يتقدمهم الطبيب الذي يخبره بأنه قد.. استشهد!.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply