حقيقة التوجه الإسلامي في شعر هاشم الرفاعي ( 2 - 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

وقفنا في الحلقة السابقة عند مواقف الرافعي من الملك فاروق وثورة يوليو وجماعة الإخوان المسلمين، وفي هذه الحلقة نستعرض شيئاً من أشعاره في نقد دعوة الإخوان، والغوص في حقيقة الفكري للشاعر:

ومن أشعاره في نقد دعوة الإخوان: قصيدة بعنوان دعوة الجيب نظمها في سبتمبر 1952م يقول فيها:

رهط من الأطفال والصبــيان *** قالوا عليهم شعبةُ الإخـوان

منهم من احترف القيام ببدعـة *** عند اشتداد الجوع والحرمان

فتراه جاء بخدعة مفضوحــة *** يسعى لنيل الأصفر الـرنان

جمعوا لها مالاً وقالوا للهـدى *** فإذا به قد راح للشيطــان

وهذه القصيدة على وجه الخصوص قد تأولها محققو ديوانه في طبعاته الثلاث تأويلات مختلفة متباينة، بحسب ما يراه كل منهم في الشاعرºفأما محمد كامل حتة فقد احتفى بتلك القصيدة احتفاء كبيراً، وجعل عنوانها (حق يراد به باطل)، واتخذها دليلاً على عداء الشاعر لحركة الإخوان، بينما رأى الأستاذ محمد حسن بريغش أن سبب هذه القصيدة أن هاشماً - وهو شاعر البلدة وابن شيخ الطريقة الرفاعية بها - رأى في وجود شعبة الإخوان خطراً عليه وعلى طريقته الصوفية فهاجمها هذا الهجوم الشديد، في حين يرى أخوه عبد الرحيم جامع أن كلا القولين غير صحيح، وأن سبب هذه القصيدة أن بعض أعضاء شعبة الإخوان قد تهجموا على النادي الرياضي الذي أنشأه الشاعر في بلدته، فنظم تلك القصيدة رداً عليهم وهو يهاجم أشخاصاً بعينهم، ولا يهاجم مبادئ الدعوة(1).

ولا شك أنه لا دليل على ما ذكره بريغش من أن مهاجمة الشاعر لشعبة الإخوان، كانت من أجل الخوف على مكانته ومكانة أسرته وطريقته الصوفية، كما أن ما ذكره محمد كامل حتة من عداء الشاعر لحركة الإخوان يرده ما سبق من مدحه لهم، وثنائه على الأستاذ البنا - رحمه الله -، غير أن ما ذكره شقيق الشاعر من أن نقد الشاعر كان موجهاً فقط لأشخاص بعينهم، هو قول أيضاً في رأينا - غير سديدºإذ يرده أن الشاعر قد تعرض لجماعة الإخوان نفسها في أبيات أخر من نفس القصيدةºحيث يقول:

تلك الجماعة قد تنبأنا لهـــا *** بالهدم يوم إقامة البنـــيان

إنا وجدنا القائمين بأمـــرها *** شر الدعاة وأضعف الأعوان

فإذا تناهى الضعف بين جماعة *** ذاق الجميع مرارة الخـذلان

 

رابعاً: مسلك الفريقين في دفع هذا التضارب:

أمام هذا التناقض كان على كل طرف من الطرفين المختلفين أن يجيب عن القصائد المخالفة لرأيه، فأما المحقق الأول لديوان هاشم الرفاعي (وهو كما أسلفنا محمد كامل حتة) فإننا نكاد نقول إنه كان معذوراً فيما ذهب إليه من كون الشاعر مؤمناً بفكر الثورة معادياً لجماعة الإخوان المسلمين، وذلك أنه وإن كان قد تصرف في بعض قصائد الديوان بما يوافق الوضع السياسي السائد في تلك الأيام، إلا أننا نكاد نجزم بأنه لم يطلع على القصائد التي ينتقد فيها الشاعر ثورة يوليو وقادتها، وذلك لسبب يسير هو أنه إنما تسلم قصائد الشاعر من إخوته بعد وفاته(2).

ولم يذكر شقيق الشاعر أنهم سلموا لمحقق الديوان تلك القصائد، والذي أراه أنه لم يكن من الممكن في ظل الظروف التي كانت سائدة وقت ذاك أن تقوم أسرة الشاعر بإبراز تلك القصائد المعادية للثورة، وتقديمها لمن ينشرها في ديوان أمَر بنشره واحدٌ من قادة تلك الثورة، بل إن الشاعر نفسه كان يحرص على إخفاء تلك القصائد، ولم يُطلِع عليها إلا نفراً قليلاً ممن يثق بهم من أصدقائه(3).

ثم إن العودة إلى الفترة التي سبقت وفاة الشاعر، وما كان ينشر عنه وقتها لا بد أن توحي بمثل هذا الذي رآه كامل حتة، فقد كان الواضح من حال الشاعر أنه من المقربين من رجال الحكمºحتى إنه ألقى قبل وفاته ببضعة أشهر قصيدة في مناسبة ما كان يسمى بعيد الوحدة بين يدي الرئيس حمال عبد الناصر وضيفه الرئيس اليوغسلافي تيتو، وقد أذيعت من الإذاعة المصرية على الهواء مباشرة، ثم تقدم الشاعر بعد إلقاء قصيدته لمصافحة عبد الناصر الذي شد على يده بقوة قائلاً: لا فض فوك(4).

وقد كان الشاعر كما أسلفنا من المقربين لوزير التربية والتعليم كمال الدين حسين، وقد نشرت جريدة الجمهورية خبر وفاته تحت عنوان: اغتيال الطالب المثالي للجمهورية العربية المتحدة، وذكرت في تفاصيل الخبر أن وزارة التربية والتعليم كانت قد قررت تدريس قصيدتين من قصائده على طلبة المدارس رغم أنه لا يزال طالباً، وأن وزير التربية والتعليم قد اختاره مندوباً عن الشباب في مؤتمر الشعر الذي عقد في الإقليم الشمالي(5)، كما ذكرت الصحيفة أن شقيق الشاعر قد أبلغ سعيد العريان (الوكيل المساعد لوزارة التربية والتعليم) هاتفياً بنبأ مصرع الشاعر فلم يصدق الخبر، وصرخ في شقيقه قائلاً: أنت كذاب، ثم بكى وألقى بسماعة الهاتف من يده(6).

أما بعد وفاته فقد دعا المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب برئاسة كمال الدين حسين إلى حفل لتأبينه، وكان من المتحدثين في ذلك الحفل كمال الدين حسن، والكاتب يوسف السباعي الذي كان سكرتيراً للمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وبعض أساتذة الشاعر في كلية دار العلوم(7).

فهذا كله مما يستند إليه من ذهب إلى أن هاشماً الرفاعي كان شاعراً وطنياً من المدافعين عن ثورة يوليو ورجالها.

مسلك الفريق الثاني:

أما من يرون في هاشم الرفاعي شاعراً إسلامياً معبراً عن هموم الحركة الإسلامية معارضاً لثورة يوليو، فلا شك أنهم يعتمدون على ما سلفت الإشارة إليه من القصائد التي تنتقد جمال عبد الناصر ومن معه، كما يعتمدون على الحس الإسلامي الذي يظهر في كثير من قصائد الشاعر، وفي ذلك يقول الأستاذ مجدي الشهاوي: ((وللذين يحلو لهم دائماً أن يرددوا أن هاشم الرفاعي كان صوتاً من أصوات الثورة، ولساناً من ألسنة جمال عبد الناصر، لهؤلاء نقول: لقد قدمنا للمكتبة العربية بعون الله - تبارك وتعالى وتوفيقه - الديوان الممنوع: جراح مصر القصائد العشر- للشاعر - رحمه الله -، وهذه القصائد من أفضل وأجمل وأصدق ما كتبه الشاعر من شعر المعاناة، والتي تتناول حكم الثورة ورجالها، وأقرءوا معي قوله لعبد الناصر:

لو كان عهدك قبل عهد محمد * للعنت يا فرعون في القرآن))(8).

كما استدل الشهاوي في موضع آخر برسالة الشاعر التي أرسلها إلى مجلة الدعوة بعد مقتل الأستاذ البنا - رحمه الله - والتي سبقت الإشارة إليها(9).

ويرى أصحاب هذا الرأي أن ما قاله الشاعر في مدح الثورة وقادتها، إنما قاله من باب التقية، أو نتيجة انبهار شديد بما كان سائداً آنذاك في أجهزة الإعلام وغيرها حول عبد الناصر ورفاقه.

ومن ذلك قول الدكتور جابر قميحة أستاذ الأدب العربي بجامعة عين شمس: ((ظلت الساحة الأدبية تتلقى لأكثر من عشرين عاماً نتاج الشاعر المبدع هاشم الرفاعي على أنه شاعر الثورة، وذلك اعتماداً على أبيات باردة يعرف القاصي والداني أنه نظمها تقية، وبعضها وقع فيه هاشم تحت هالة الإبهار الزاحف بقوة في حينه، أما شعره الحقيقي الذي يمثل موقفه الحقيقي من الثورة والثوار فلم ينشر، ولما نشر بعضه الآن انقلب السحر على الساحر، وقد توافر الآن من الإبداع الصادق لهاشم أكثر من 35 قصيدة لعل أشهرها رسالة في ليلة التنفيذ، وهي لا تحتاج إلى ناقد ومتخصص ليقرأها، وليحكم من خلال كل كلمة فيها على هوية الرفاعي الحقيقية وهي الإسلام الواضح الصحيح في أسمى صوره، وأرقى وأزهى مواقفه التعبيرية والإبداعية))(10).

 

خامساً: إذن ما حقيقة الموقف الفكري للشاعر؟

لا شك - بعد ما رأينا من نقد هاشم رفاعي للثورة ورجالها- أنه لا وجه الآن لاختزال شعر هاشم الرفاعي في كونه شاعر الثورة، أو أنه أحد دعاة القومية العربية أو الوطنية المصرية، لكنا في نفس الوقت نرى أن الاكتفاء بقصائده الإسلامية وغض الطرف عما أوردنا من تمجيده للثورة ورجالها، هو مسلك غير سديد.

والقول بأن مدحه للثورة ورجالها كان من باب التقية، هو قول لا دليل عليه، والأصل مسؤولية الإنسان عما يقوله حتى يثبت بالدليل القطعي أنه إنما كان يقول ذلك عن غير اقتناع، ثم إننا نعلم أن التقية تكون حينما يجد الإنسان نفسه تحت ضغط وتهديد شديدين يجبرانه على القول بما لا يعتقد، ونحن لا نعلم من سيرة هاشم الرفاعي أنه تعرض لشيء من ذلك، وهب أنه كان هناك ما يحمله على الخوف من بطش الحاكم الظالم، أفما كان يمكنه إيثار السلامة بالسكوت عنه فلا يمدحه ولا يذمه؟

أما ما ذكره الدكتور جابر قميحة من أن الشاعر قد وقع تحت هالة الإبهار الزاحف وقتها فإنا نراه استنتاجاً صحيحاً، لكنا لا نوافق كما سيأتي - على أن هذا الإبهار كان مجرد عارض وقتي صرف الشاعر ظاهرياً عن فكر حقيقي كان مستقراً عنده.

كما أننا لا نوافق شقيق الشاعر في ما ذهب إليه من أن الشاعر كانت له رؤيته المستقلة بحيث كان يؤيد الثورة وينتقدها، ويؤيد التيار الإسلامي وينتقده أيضاً على حسب رؤيته الشخصيةº وذلك أن هذا الكلام قد يصح حين يكون النقد أو المديح متعلقاً بموقف معين يريد الشاعر إبداء الرأي فيه، بينما الواضح من الأمثلة التي ذكرناها -وغيرها في ديوانه كثير - أنه كان غالباً ما يمدح مدحاً عاماً، وينتقد نقداً عاماً، فإذا نقد عبد الناصر مثلاً فهو فرعون مستحقٌ أن يلعن، وإذا مدحه فهو الزعيم الذي أحيا الله به الشعوب العربية كلها، وهذا ما يُستبَعد معه وجود رؤية مستقلة ناضجة لدى الشاعر - رحمه الله -.

والذي نراه أن هاشماً الرفاعي - وقد توفي في الرابعة والعشرين من عمره - فإنه ظل طيلة عمره الأدبي القصير شاباً صغيراً، قوي العاطفة سهل التأثر بما يراه ويسمعه، فربما رأى موقفاً فتأثر به، ثم رأى نقيضه فتأثر به أيضاً، ولا شك أنه يدخل في ذلك ما أحاطه به بعض رجال النظام المصري من التقديم والتكريم على صغر سنه، وهو ما دفعه للانبهار برجال الثورة وغض الطرف عن أخطائهم، ولذلك نظنه كان - والله أعلم - صادقاً مع نفسه رغم تناقضات شعره التي أشرنا إليها، فهو في كل لحظة يعبر عن مكنونات نفسه وما يدور بخلده، دون أن تتكون لديه رؤية مستقلة تنبع منها آراؤه ومواقفه.

كما أن الظاهر من حال الشاعر أنه لم تتبلور في ذهنه الفروق الجوهرية بين الدعوة للوطنية أو القومية وبين الدعوة الإسلامية الحقة التي لا ترضى بغير القرآن والسنة دستوراً للحياة، وهذا يعني في نظرنا أنه لم يكن يقصد بأشعاره أن يكون منتمياً لهذا الاتجاه أو ذاك، وإنما كان همه التعبير عما يجول بخاطره في ضوء ما يتأثر به من الوقائع والأحداث.

وعلى ذلك نقول إنه ليس من الصواب القول بأن طائفة من شعره تمثل موقفاً حقيقياً ثابتاً له، لا قصائده في مدح الثورة، ولا قصائده في نقدها، وقل مثل ذلك في مواقفه من الإخوان وغيرهم.

 

سادساً: استدلالات وتوضيحات

مما يسهم في توضيح هذه الرؤية التي وصلنا إليها ما يأتي:

1- أنه بمراجعة ديوان الشاعر في طبعته التي حققها شقيقه نلاحظ أن قصائده التي يمدح فيها الثورة أكثر من الناحية العددية من تلك التي ينتقد فيها الثورة، كما أن أكثرها جاء في المرحلة الأخيرة من حياة الشاعر، حتى إن آخر قصيدة وجدت على مكتبه، ولم تكتمل كانت قصيدة كتبها ليحييِّ بها ثورة يوليو في ذكراها السابعة، ونعني بذلك أنه إن كان لا بد من ترجيح لأحد موقفيه فالأصل أن المتأخر ناسخ للمتقدم، ولكن إحسان الظن بالشاعر وما ظهر من مواقفه الإسلامية حتى في ثنايا قصائده المتأخرة، وكونه لم يؤثر عنه أنه تراجع عن شيء مما كتبه في نقد الثورة، كل ذلك يحملنا على عدم إهمال الجانب الآخر من شعره، كما يحملنا على القول بأن مدائحه للثورة لم تكن من قبيل التبني لكل أفكارها ورفض ما عداها.

2- أنه بمراجعة تاريخ كتابة القصائد التي وجه فيها نقده اللاذع للثورة ورجالها، نجد أن غالبيتها قد كتب في العام الدراسي 1954-1955م، وهو العام الذي شهد فصله مع مجموعة من زملائه من معهد الزقازيق الديني بسبب تنظيمهم مؤتمراً قرروا فيه الإضراب عن الدراسة حتى يستجاب لمطالبهم بعدم تقليص العلوم الشرعية واللغوية بالأزهر(11)، والمقصود هنا أن نربط بين الحالة النفسية التي كان يعيشها الشاعر خلال فترة فصله من المعهد وبين نقده اللاذع للثورة ورجال الحكم، وهو ما نستنتج منه أن عداءه للثورة لم يكن عداءً مستحكماً مبنياً على اختلاف فكري بقدر ما كان مبنياً على انفعالات وقتية وتأثرات عاطفية.

3- أنه مما يوضح ما ذكرناه من عدم تبلور الفروق الجوهرية بين الدعوات الوطنية أو القومية وبين الدعوة الإسلامية لدى الشاعر، أن نعلم أن ذلك كان حال الكثيرين في مصر في تلك الفترة، وأن الدعوة إلى الفكرة القومية باعتبارها بديلاً عن الفكرة الإسلامية لم تكن منتشرة في مصر كانتشارها في بلاد الشام والعراق، على يدي أصحاب حزب البعث، الذين قال قائلهم:

آمنت بالبعث رباً لا شريك له * وبالعروبة ديناً ما له ثاني

 

أو كما قال الآخر:

سلام على كفر يوحد بيننا * وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم

ولذلك ذكر أكرم الحوراني (أحد قادة حزب البعث السوري) في مذكراته أنه التقى بكمال الدين حسين وقت التحضير للوحدة المصرية السورية، وأنه فوجئ بكمال الدين حسين ينتقد بشدة فكرة القومية العربية ويعتبرها مخالفة للإسلام، وتعجب الحوراني من تهجم رجل جاء ليشارك في مباحثات الوحدة على مفهوم القومية العربية.

وفي رأيي أن انتقاد كمال الدين حسين للقومية العربية لم يكن موجها لفكرة العروبة والوحدة العربية، وإنما كان نقداً لفكرة القومية العربية باعتبارها بديلاً عن الإسلام بالصورة التي أشرنا إليها قبل قليل.

4- وما دمنا قد أتينا على ذكر كمال الدين حسين، فإنه لا بد من العودة مرة أخرى إلى العلاقة الخاصة التي جمعت بينه وبين شاعرنا هاشم الرفاعي، فإننا نظن أن اتصاله بكمال الدين حسين وتأثره به قد يفسر جانباً من هذا التناقض الذي لمسناه في شعره، وذلك أن كمال الدين حسين رغم كونه واحداً من قادة ثورة يوليو إلا أنه كان يتمتع باستقلالية في التفكير، وقد اختلف مع عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، ثم مع السادات بعد توليه رئاسة الجمهورية، ومن أهم ما يشار إليه في هذا المجال محاولته تقريب الأفكار التي كانت تنادي بها الثورة إلى أحكام الشريعة الإسلامية، وقد ذكر عبد اللطيف البغدادي في مذكراته أن كمال الدين حسين قال لعبد الناصر ذات مرة: إن اشتراكيتنا يجب أن تنبع من ديننا، وليس من نظريات ماركس ولينين.

وكذلك كان لكمال الدين حسين موقف مشهود إبان محنة الإخوان المسلمين في سنة 1965مº حيث أبدى تعاطفاً كبيراً معهم، وأرسل لعبد الناصر خطاباً شديد اللهجة يقول له فيه: اتق الله، ويستنكر فيه ما وقع على الإخوان من التعذيب الرهيب، ولذلك اتهمه عبد الحكيم عامر بأنه كان يدافع عن سيد قطب ويقتني كتبه، وقد أقر كمال الدين حسين في أحد الحوارات الصحفية بإعجابه بكتاب معالم في الطريق للأستاذ سيد قطب - رحمه الله - مع عدم موافقته على بعض آرائه، وأنه قد أهدى نسخاً من هذا الكتاب لبعض أصدقائه(12).

كما أنه بعد مقتل الرئيس السابق أنور السادات والحكم بالإعدام على الأخ خالد الإسلامبولي ورفاقه، فإنه أي كمال الدين حسين- أرسل هو والأستاذ فتحي رضوان رسالة للرئيس المصري حسني مبارك يطالبانه فيها بالعفو عن أولئك الشباب، على أساس أنه لم يكن بينهم وبين السادات خصومة شخصية، وإنما كانت غايتهم تحقيق العقيدة، التي ملأت نفوسهم من جميع أقطارها، وأن سيرة الرئيس السابق في الحكم، وتعطيله للحريات، وإهانته المستمرة للشيوخ والعلماء، هو ما دفع أولئك الشباب للقيام بما قاموا به.

والمقصود أنه لا يبعد أن يكون هاشم الرفاعي قد تأثر بآراء الرجل الذي قربه إليه وقدمه للناس، وهي آراء كما رأينا تحاول الجمع بين النظرة الإسلامية وفكرة العروبة، كما أنها ترى في سلبيات الثورة مجرد أخطاء صغيرة أو كبيرة، لكنها لا تنطلق في التعامل معها من منطلق عقدي يجعل الاختلاف معها اختلافاً جذرياً يستوجب البراءة منها بحسب المصطلح الشرعي المعروف.

 

5- كما أن المطالع لديوان هاشم الرفاعي لا بد أن يجد فيه أشياء لا تمثل الأدب الإسلامي الملتزمºونحن وإن كنا لا نرى تعارضاً بين الالتزام الإسلامي وبين أن يتناول الشاعر ما يشاء من أغراض الشعر، إلا أنه لا بد من الحرص دائماً على الوقوف عند حدود ما شرعه الله - تعالى -، ولقد رأيت في شعر هاشم الرفاعي بضع قصائد ومقطوعات شعرية أرى أنها لا تليق بمن كان الإسلام منهجه وتوجهه، وأنا أشير إلى بعضها دون تفصيل: فمنها قصيدة بعنوان راقصة، يصف فيها - بإعجاب - حركات إحدى الراقصات من تمايل وانثناء وكشف عن بعض جسدها ونحو ذلك، ومنها قصيدة في الإشادة بمقطوعة موسيقية لمحمد عبد الوهاب، ومنها ذِكره في بعض قصائده المبكرة للخمر والشراب، وغير ذلك.

ولست أريد أن أظلم الرجل أو أن أشوه صورتهº فهذه الهنات مما يتوقع من شاب في مثل سنه، وربما قالها من باب: أعذب الشعر أكذبه، لكني أردت فقط أن أبين أنه كان في شعر هاشم الرفاعي جانب لا يمكن بحال نسبته إلى الإسلام الواضح الصحيح، الذي يرى الدكتور جابر قميحة أنه التوجه الحقيقي له.

 

وأخيراً:

فلست أشك في فصاحة لسان هاشم الرفاعي وعبقريته الشعرية، فقد شهد له بذلك رجال الشعر وأساتذة البيان، حتى قال أستاذه الشاعر على الجندي: ((لو قدر لهاشم الرفاعي البقاء إلى سن الثلاثين لغطى على جميع شعراء العربية في العصر الحاضر))(13).

وفي نظري أنه يكفي في الدلالة على نبوغه الشعري أنه وهو الذي لم يدخل سجناً قط - استطاع في قصيدته (رسالة في ليلة التنفيذ) أن يتقمص شخصية مسجون محكوم عليه بالقتل، فيصور أحاسيسه ومشاعره، ويصف أحوال السجن والسجين والسجان بأبرع ما يكون التصوير.

كما أننا لا نماري في أن التوجه الديني عنده توجه أصيل، وهو توجه مشوب بالنزعة الصوفية على ما رأينا عند الحديث عن أسرته ونشأته، وإنما كان حديثنا منصباً حول تمحيص القول حول انتمائه للحركة الإسلامية، أو اعتباره شاعراً إسلامياً بالمعنى الذي يتبادر إلى الذهن من هذه التسمية، من حيث كون الشاعر منحازاً للقضايا الإسلامية رافضاً أي فكرة تخالف شرع الله - عز وجل -، فهذا الذي قصدته وأرجو أن أكون قد وفقت فيه.

رحم الله هاشماً الرفاعي، وغفر له ولسائر المسلمين، آمين.

 

----------------------------------------

(1) انظر مقدمة عبد الرحيم جامع الرفاعي لديوان هاشم الرفاعي ص: 24.

(2) كما ذكر شقيق الشاعر في تقديمه لطبعته من ديوان الشاعر ص: 3.

(3) المصدر السابق ص: 62.

(4) المصدر السابق ص: 82.

(5) وهو الاسم الذي كان يطلق على سوريا في فترة الوحدة بين مصر وسوريا، وقد ألقى في ذلك المؤتمر قصيدته المشهورة: رسالة في ليلة التنفيذ.

(6) جريدة الجمهورية عدد: 27/12/1387 الموافق 3/7/1959م، نقلاً عن كتاب رسالة في ليلة التنفيذ ص: 9.

(7) رسالة في ليلة التنفيذ بتحقيق مجدي الشهاوي ص: 12.

(8) من تقديم الكاتب المذكور لقصيدة رسالة في ليلة التنفيذ ص: 5.

(9) المصدر السابق ص: 17.

(10) من مقال بعنوان: الزيغ الفكري والنقد المقلوب نشر بموقع لها أون لا ين بتاريخ 6/12/1424.

(11) من تقديم شقيق الشاعر لديوانه ص: 46

(12) جاء ذلك في كتاب بعنوان مؤامرة اغتيال المشير عامر للصحفي محمود فوزي ص: 100.

(13) رسالة في ليلية التنفيذ بتحقيق مجدي الشهاوي ص: 11.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply