همة حرة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الإنسان إرادة وعزِيمة..ومهما كان الإنسان مستَضعفاً في نظر الآخرين فإنّه يستطيع أن يفعل الكثير..وإنّ صدق الهمّة يفلّ حِدّة القوّة.. ومن صدق الله صدقه..

 

ـ كوني عاقلة متّزنة، لا تحاولي المستحيل.. الخروج على العادات والتقاليد أشبه بخروج القطار عن سكّته، إنّه السباحة عكس التيّار كما يقولون، فهل تطيقين ذلك؟

 

ـ يا بنتي! الإنسان ابن بيئته.. أنا معك.. الحجاب حقّ، ولكنّ بيئتي وبيئتك لا تسمح لنا بذلك.. هل نحن بحاجة إلى أن يجعلنا الناس حديث مجالسهم.. فكّري بعقل وحكمة.. أنا لا أمنعك أن تكوني منسجمة مع ما تعتقدين.. ولكنّني لا أرضى أن نكون شاذّين عن الناس، ومحلّ القيل والقال!

 

كان هذا شيئاً من كلام صديقة عائشة، وكلام أمّها.. أمّا أبوها فقد اتّخذ موقفاً صلباً يتنافى مع ما نشّأها عليه، وما يعلنه في كلّ مناسبة من محبّة عارمة لابنته، وحرص على تحقيق رغباتها وتلبيتها.. \" لا يمكن أن تضعي الحجاب على رأسك ما دمت حيّاً.. فكّري بالمستحيل، ولا تفكّري بهذا الأمر.. \"

 

ـ يا أبت! إنّه أمر الله أوّلاً وآخراً.. أترضى لي أن أعيش عذاباً في ضميري، هو كالنار المحرقة، لا يهدأ عنّي حرّها ولذعها.. وما لي وللناس! هل يستطيع الناس إنقاذي من عذاب الله يوم القيامة.. ألا ترى الناس يلبسون ما يشاءون؟!

 

ـ الأمر ليس خاضعاً للنقاش يا حبيبتي! إنّه موقف يتنافى مع مركزي ومكانتي الاجتماعيّة.. وهو أمر لا تفهمينه، ولا تحسنين تقديره..

 

ـ أرجوك يا أبت! ما علاقة حجابي بمركزك الاجتماعيّ؟! ألا تحرص على سعادة ابنتك وراحتها النفسيّة.. لم أعد أستطيع الخروج إلى الشارع بهذه الأشكال المنكرة.. التي أحارب بها دين الله من حيث أدري أو لا أدري! لقد أصبحت أكره هذا الرياء الاجتماعيّ السمج!

 

ـ وهل كلّ هؤلاء النساء يحاربن دين الله؟! هذا هو التزمّت الذي يرفضه دين الله قبل كلّ شيء.. المهمّ أن تمشي المرأة بحشمة وأدب.. لقد تغيّر الزمان..

 

ـ يا أبت! أنا لا أتّهم أحداً من الناس، أنا أتكلّم عن نفسي، ومسئوليّتي أمام ربّي..

 

ـ دعيني من كثرة القيل والقال.. هذا الأمر لا يقبل النقاش عندي، كما قلت لك من قبل.. فريّحي بالك أنا مَسئول عنكِ

 

ـ ارحمني يا أبت! أنا لم أعد أستطيع الخروج إلى الشارع بهذه الصورة مطلقاً.. أتريد لي أن أكون شقيّة معذّبة على حساب أعراف الناس وعاداتهم؟!

 

ـ فكّري في كلّ شيء إلاّ في هذا الأمر.. فلا تتعبيني، وتتعبي نفسك!

 

وباتت عائشة ليلتها أرقة مسهّدة، تبكي تارة، وتدعو ربّها تارة أخرى، ويضيق صدرها، فتقوم، وتتوضّأ وتصلّي.. حتّى طلع عليها الفجر، وهي على هذه الحالة.. فصلّت الفجر، ثمّ استسلمت لنوم عميق.. وصحت على صوت أمّها تناديها لتقوم إلى مدرستها، فحافلة المدرسة تنتظرها..

 

كانت تتنهّد وهي نائمة، وتسحب أنفاسها بصعوبة، وكأنّها تبكي في منامها.. ردّت على أمّها، وهي شبه نائمة: لا أستطيع الذهاب إلى المدرسة هذا اليوم..

 

ـ ولماذا يا حبيبتي؟

 

ـ أنا مريضة!

 

ـ سلامتك يا بنيّتي! لا بأس عليك.. ووضعت كفّها على جبينها، فوجدت حرارتها مرتفعة.. فاعتذرت للسائق عن ذهاب ابنتها إلى المدرسة هذا اليوم..

 

كانت هذه أوّل مرّة تغيب فيها عائشة عن المدرسة.. وعلم والدها بغيابها فطار صوابه.. إنّه يراهن أن تكون ابنته الأولى على مدينة حلب في شهادة الثانويّة العامّة.. وضياع يوم دراسيّ نذير خطر كبير.. وتكرّر الأمر يوماً آخر.. إنّها مريضة لا تستطيع مغادرة فراشها.. واستدعى والدها الطبيب إلى البيت، فلم يهتد إلى شيء من المرض الظاهر.. فحوّلها إلى المستشفى لإجراء التحاليل اللازمة، ولتكون تحت عنايته.. فلم يظهر للطبيب أيّ أعراض لمرض.. فقال لوالدها:

 

ـ لعلّ ابنتك مصابة بصدمة عاطفيّة.. هل هي مخطوبة؟ هل فسخت خطوبتها؟ هل هي على علاقة مع أحد من الشباب؟!

 

ـ لقد وقعت ابنتي في هوى شيء غريب.. لعلّه هو السبب فيما آل إليه أمرها..

 

ـ وما هو؟!

 

ـ لقد وقعت في هوى دينها إلى درجة الهوس! تصوّر إنّها تريد أن تتحجّب.. وتخرج عن بيئتها، وعاداتنا وتقاليدنا.. تريد أن تجعلنا أضحوكة للناس.. وقال بعصبيّة: إنّ هذا الأمر لن يكون.. لن يكون..

 

ـ ولو على حساب صحّة ابنتك ومستقبلها.. فكّر باتّزان يا أخي! أنا أكلمك من وجهة طبّيّة: دع ابنتك وما تختار..

 

  ـ أهذا رأيك يا دكتور؟!

 

ـ نعم! هذا رأي الطبّ، والعلم، والعقل.. فقال الوالد بصوت منكسر:

 

ـ فليكن إذن ما تريد!

 

ـ وبعد ذهاب الوالد، همس الطبيب في أذن عائشة! \" يا بنيّتي! لقد ترك لك أبوك الحرّيّة أن تحتجبي كما تريدين.. \".

 

ونظرت في وجه الطبيب، وكأنّها لا تصدّق ما تسمع.. فقال لها:

 

ـ أؤكّد لك أنّ والدك ترك لك الحريّة أن تلبسي ما شئت.. فكوني مطمئنّة.. فتنهّدت تنهّداً عميقاً.. وسحّت دمعات فرح على وجنتيها.. ولم يمض عليها يوم إلاّ وقد استردّت عافيتها..

 

وفي اليوم التالي كانت تركب \"باص\" المدرسة، وهي ترفل في ثيابها السابغة.. لقد أصبحت تحسّ بالحرّية والكرامة، وهي تلبس جلباب العبوديّة لله - تعالى -.. وودّعت حياة التمرّد والشرود..

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply