الشعر الجاهلي ومنزلته في نفوس العرب


 

بسم الله الرحمن الرحيم

قال عمر بن الخطاب: \" كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه \"، فالشعر عند العرب بلغ من المنزلة شأوًا عظيما، فهو المصور لآمالهم وآلامهم وله كبير الأثر في توجيه مشاعرهم وأهوائهم، فهو السجل الخالد الذي نقل لنا علوم العرب ومآثرها، كما عرفنا بأنساب العرب وتواريخها وأيامها ووقائعها.

 

وليس أدل على مكانة الشعر عند العرب من أنهم كانوا إذا نبغ في قبيلة شاعر أقامت الأفراح وأتت القبائل لتهنئتها وكأنهم في عرس. وما تولد هذا الاهتمام بالشعر في نفوسهم إلا بعد أن أحاطوا بدوره ومكانته في حياتهم، فرب بيت من الشعر يقوله شاعر يرفع به قدر وضيع أو يضع قدر شريف، فكم بنى الشعر لأقوام بيوتا شامخة وكم هدم لآخرين أبنية رفيعة (1):

 

وما هو إلا القول يسري فتغتدي له غرر في أوجه ومواسم

 

فكم رفع من قدر قوم كانوا أذلة، وأذل أقواما كانوا أعزة، فهؤلاء أولاد جعفر بن قريع بن كعب الذين عرفوا ببني أنف الناقة، كانوا يأنفون من هذا اللقب فهو سبة عليهم حتى إذا مدحهم الحطيئة بقوله (2):

 

قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا

 

صار اسمهم شرفا لهم وصاروا بعد ذلك يزهون به بعد أن كان سبب استحياء.

 

وإذا كان هذا أثر الشعر في فعل الخير، فلعل أثره في فعل الشر والدعوة إليه أشد وأبلغ، فرب قافية أثارت معركة يتوارث جرائرها الأبناء عن آبائهم، أو تورث سبة لا يمحوها الدهر.

 

 فهؤلاء بنو عبد المدان، أبيات من شعر حسان تجعلهم ينزلون من عليائهم ويتوارون من سوء ما وصموا به، فقد بارك الله في أجسام بني عبد المدان بسعة الصدور وطول الأجسام وغلظها، فكانوا يفخرون بذلك على غيرهم، حتى قال فيهم حسان (3):

 

لا بأس بالقوم من طول ومن عظم جسم البغال وأحلام العصافير

 

فأصبحوا سخرية الناس وفسد ما كانوا به يتفاخرون، حتى ذهبوا على حسان يسترضونه، وبذلوا له كل غال، حتى قال لهم: سأصلح منكم ما أفسدت، وقال يمدحهم:

 

وقد كنا نـقـول إذا رأينا لذي جسم يـعـــد وذي بيان

 

كأنك أيها المعطى بيانا وجسما من بني عبد المدان

 

فعادوا إلى سيرتهم الأولى. والأمثلة كثيرة في تأثير الشعر في فعل الخير والشر على السواء.

 

فالعرب كانوا يعتنون بشعرهم أيما اعتناء، ويحرصون على روايته وتناقله وذيوعه وحفظه، فما يكاد الشاعر يقول قصيدة حتى تذهب بها الركبان في كل اتجاه، وتذيع بين الناس، دون ان يبذلوا جهدا في إذاعتها، فالقصيدة إذا ظهرت لا يستطيع أحد منع انتشارها، وقد عبر عن هذا الشاعر الجاهلي عميرة بن جعيل الذي هجا قومه ثم ندم، ولكن هيهات، ولات ساعة مندم، فقد سار بها الرواة في كل مكان (4):

 

ندمت على شـتــــــم العشيرة بعدما مضت واستتبت للرواة مذاهــبــــه

 

فأصبحت لا أسطيع دفعا لما مضى كما لا يرد الدر في الضرع حالبه

 

وهكذا كان الشعر عند العرب، عزيزا غاليا، وتراثا زاخرا.

 

 وعلى الرغم من حرص العرب على روايته وحفظه، فقد كان هناك من الرواة من يتزيد في الأشعار، لغاية في نفسه، غير أن هذا لا يصح أن ينسحب على مجمل ما وصلنا من الشعر، فالانتحال قضية قديمة لم يكن أول من قال بها طه حسين، وإنما سبقه إليها بقرون ابن سلام الجمحي (ت 231هـ) الذي عزا أسباب الانتحال إلى عاملين أساسيين هما: العصبية القبلية والرواة الوضاعين.

 

كما أثيرت قضية الانتحال من المستشرقين في العصر الحديث، فكان منهم المعتدل المنصف، والمحتد المسرف المتحامل، حتى جاء طه حسين فأخذ بظاهر كلام بعض المستشرقين المسرفين، وأودعها كتابه \" في الشعر الجاهلي \".

 

لكن هذه القضية تعد محسومة الآن، لأن كل الدراسات الحديثة استقرت على تأصيل الشعر الجاهلي ونفي الموضوع عنه، وهذا ما يجب أن يكون، وقد يكون من المهم أن نذكر أن طه حسين بدا متراجعا عما كان قد طرحه في كتابه المثير، وبخاصة ضمن أحاديثه في يوم الأربعاء وغيرها.

 

ـــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) زهر الآداب للحصري \"ت 453 هـ \" تحقبق: علي محمد البجاوي، 1/22.

(2) الأغاني للأصفهاني، 2/181. ديوان الحطيئة، ص 128.

(3) ديوان حسان ص 214. والعقد الفريد: 5/328.

(4) الشعر والشعراء لابن قتيبة، 2/650.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply