بعد وفاة الكاتب الإسلامي المسرحي الأول علي أحمد باكثير(1) لم يظهر في العربية من يسد مسدّه، وإن كانت الأعمال المسرحية الإسلامية الحديثة تشكل حجماً لا يستهان به من حيث الكم والنوعº فالدكتور عماد الدين خليل واختصاصه الأول هو التاريخ نشر خمسة كتب مسرحية (2) ثلاث منها مسرحيات طويلة، والبقية مسرحيات قصيرة من ذوات الفصل الواحد، وقد صرح مؤخراً بأنه غير راضٍ, عن مستوى مسرحيتين طويلتين، ولو أتيح له إعادة كتابتهما لفعل، ولربما قلبهما فنياً رأساً على عقب(3).
كتابه (العبور) يضم خمس مسرحيات قصيرةº الأولى منهما تحمل عنوان الكتاب، وهي بحق صاحبة الصدارة في المجموعة. في تقديم المؤلف للمجموعة (إضاءات) عرض قيم لمضمون هذه المسرحيات ولعض جوانبها الفنية، أهمها انفراد المسرحية الأول بتناول (القيم الإيجابية) للالتزام في الأدب الإسلامي: تبشيراً أو بناءً، على حين يكون تدمير القيم والمواقف والممارسات والتصورات السلبية وإعلان الحرب عليها التزام المسرحيات الأخرى. فالأدب الإسلامي بوسعه أن يشيد البناء الإسلامي أو أن يهدم الجاهلية. وإذا كان التسلسل يقتضي البدء بالهدم فإن تخصيص أربع مسرحيات من خمس لهذا الغرض أمر يلفت النظر.
الخلاف بين المسرحية الأولى وبقية المسرحيات لا يقف عند هذا المستوىº بل ينعكس في مظاهر متعددة، لعل أبرزها طريقة التناول الفنية، فمسرحية (العبور) أقرب إلى التصنيف في المسرح الشعري من حيث عرض الشخصيات أو الفكرة الرئيسة، أما المسرحيات الأخرى فأقرب إلى المسرح الواقعي، ذلك لأن موضوع الأولى ذو طابع (رسالي) يجمع بين ثلاثة أزمنة (الماضي والحاضر والمستقبل) لعبور الإسلام أو المسلمين جغرافياً ورسالياً من المركز إلى العالم: (لأننا نشهد في ختام المسرحية، جعفر بن أبي طالب، الصحابي الجليل، والمقدم عبد العال حلمي الضابط المصري وهما يتقدمان في سيناء، هنالك حيث يلتقي بالحاضر ويهرعان إلى (مستقبل) لن يتحقق، أو يكون أبدًا بدون ما حوار فعّال بين الآونات الثلاث بكل ما تتضمنه من قيم وأهداف كان هذا (الدين) قد صنعها وهو يملك القدرة على أن يصنعها شرط أن تتحقق نية (العبور) (من ص8- إضاءات).
وكان من نتائج هذا العبور الزماني والمكاني ضرب لوحدتين من قواعد المسرح التقليدي الكلاسيكي (الاتباعي)º هما وحدتا الزمان والمكان، والأخذ بملامح رئيسة متشابهة للشخصيات لاسيما (الأبطال) والاتكاء على توظيف مكثف للتاريخ والتراث نصوصاً ومفهومات، وتطويع لغة الحوار للتألق الأسلوبي والسمو الروحي والعاطفي.
(جعفر: وسمعت رسول الله يردد \" والله لا أدري بم أسر، يفتح خبير أن بقدوم جعفر؟ \").
لقد كانت تلك أسعد لحظة في حياتي، وقلت في نفسي: متى أجازيك يا رسول الله متى؟ لقد منحتني الفرج الذي لا يزول بعد سنين طويلة من التغرّب، والحزن، والانقطاع.. فمتى أجازيك؟
المقدم: (بتأثر) ولقد جازيته بعد سنة واحدة، وهرعت إلى التخوم لكي تعبر وإخوانك بالدعوة حدود جزيرة العرب إلى الشمال، هذه المرة، فتناوشتك وإياهم سيوف أعداء الله.. أتدري أيها الصحابي الجليل، لقد انطبعت صورتك المنفردة في أذهان المسلمين عبر أربعة عشر قرناً، وستظل وأنت تحمل الراية بيمناك، وتتقدم بها، فتقطعها سيوف الروم، فتحملها يسراك، فتقطع هي الأخرى، فتتشبت بما تبقى من ساعديك، حتى تشوط في رماح القدم.. لك الله أيها الصحابي الطيّار إلى الجنة.. لك الله (يبكي)....)(ص 30-31).
لذلك لم يكن ثمة صراع بين الشخصيات بل أخوة ومفاداة، كان الصراع مع العدو الخارجي، العدو الأكبر غير الظاهر على المسرح.
هذه القيم التعبيرية في الشكل كانت استجابة للقيم الشعورية في المضمون، وتجلت وحدة الشكل والمضمون انسجاماً ونوارنية. وهذه قيمة أصيلة في الأدب الإسلامي.
المسرحيات الأربع الأخرى اجتماعية واقعية يدور الصراع بين شخصياتها لا سيما الشخصيتين الرئيسيتين تقيم كل منها في مكان واحد (مقهى متنزه- إدارة حكومية- عيادة طبيب) وفي زمن لا يستغرق ساعات قليلة فضلاً عن أربع وعشرين ساعة، فتتحقق مواصفات المسرحية الفقيرة بقلة عدد الشخصيات من جهة وبالالتزام بوحدتي الزمان والمكان فضلاً عن وحدة الموضوع من جهة ثانية، وكانت الخاتمة في أكثرها مأساوية، وهذا تجلّ آخر لوحدة الشكل والمضمون.
ومن علامات التوفيق والجودة بدء المسرحية بشخصية الصحابي جعفر بي أبي طالب واختتامها به على الرغم من مرور الأحداث بأبطال المسلمين عبر التاريخ أمثال (ابن أبي السرح) و (طارق بن زياد) و (مسلمة بن عبد الملك) و (أسد بن الفرات) و (محمد الفاتح) وفي ذلك تماسك فني في المسرحية وتأكيد لارتباط السلسلة الإسلامية المباركة بالحلقة الأولى المركزية (صدر الإسلام) ذلك العصر الذهبي. مرة أخرى يتعانق الشكل والمضمون عناقاً مصيرياً.
يضاف إلى ذلك -والمجال للإضافات واسع- استعداد هذه المسرحية الكبير للتعامل مع تقنيات الإخراج والديكور المسرحيين المتطورين للإيحاء بتغيير الأزمنة والأمكنة من جهة ولإمكانية الجمع والتداخل بينها من جهة ثانية. هنا تظهر قدرة اللغة العربية الفصحى والعقيدة الإسلامية -بل عبقريتهما- على تسهيل هذا الجمع والتداخل رغم اتساع المدى الزمني والمكاني بين الأشخاص والوقائع.
كيف استطاع المؤلف أن يسيطر على ازدحام الشخصيات في مسرحية قصيرة ذات فصل واحدº فهناك ما لا يقل عن سبع شخصيات رئيسة ومجموعات المساعدين والجند؟! الحق بسيط هو الشبه العميق بين أدوار هذه الشخصيات. والشبه مقصود، لا يحدث لبساً بل يأتي توكيدًا لمراد المؤلف وتوكيداً لفكرة المسرحية، فكلهم قادة (العبور) الإسلامي عبر التاريخ، فلا حاجة للتباين ولا للصراع بينهم قبل صراعهم جميعاً مع عدوهم، وهذا هو المطلوب فنياً وماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
إن توظيف التراث والتاريخ في هذه المسرحية وافر لا تكاد عبارة أو سطر يخلو من هذا التوظيف من حديث شريف أو آية قرآنية أو خطبة أو واقعة أو شخصية. حتى الحديث الشريف يأتي على شكل دعاء أو حوار أو نجوى أو هتاف أو مفهوم وكل مسوغ ليس مسوغاً فنياً وحسب، بل هو مطلوب فنياً وينهض بدور الإثراء والحشد الفني والفكري والعاطفي على حد سواء، وهذا الجانب وحده يستحق بحثاً مستقلاً. فمن الطبيعي أن يتحرك صحابي مثل جعفر بن أبي طالب في مثل هذا الجو، ومن الطبيعي أيضاً أن الأبطال الذين ساروا على الدرب نفسه وللهدف نفسه أن يكون جوهم وبيئتهم كذلك. وهذا وحده سبب كاف لاعتصام الأدب الإسلامي باللغة العربية الفصحى(4).
إذا علمنا قدرة اللغة العربية الفائقة على الاستمرار والتوالد والاستيعاب أدركنا جانباً من جوانب الحكمة الربانية في اختيار العربية لغة للوحي، أو في هداية العرب إلى مثل هذه اللغة المتميزة.
المسرحيات الأربع أخذت منحى (الهدم الجمالي المؤثر)، يقول المؤلف: \"وطبيعي أن تكون البدائل غير المعلنة مستمدة بالضرورة من عالم الإيمان الوضيء الرحيب، طبيعي أن يتثبت المرء بعد قراء أو مشاهدة أية مسرحية تتخذ هذا المسار، بعالم مطمئن آمن متفائل سعيد لا تحاصره المخاوف ولا تسوده الأهواء والظنون، عالم لا يمارس القتل فيه بالنزوة أو الخطأ، ولا يستحق فيه الإنسان، ويساق إلى عيادات الأمراض النفسية، لأنه يجد جملته العصبية مطحونة كل يوم- بين مطرقة الظلم وسندان الابتزاز\" (إضاءات ص 5-6).
في مسرحية (التحدي) يتمنى البطل أن يحيا بلا خوف أو قلق أو وسوسة، ومسرحية (الاضطهاد) تعرض نموذجاً من مئات تعج بهم الشوارع والمقاهي.. ممن سحقهم (عصر) لم يعد يأبه للإيمان وللقيم التي يغرسها ويحميها.
ومسرحية (الظن) تحمل مغزاها الواضح الذي حذرنا منه كتاب الله، أما مسرحية (التمثيل) فتعرض لمشكلة القتل للنفس الإنسانية المكرمة، قتلاً بالنزوة أو الخطأ تحت وطأة الخمر أم الكبائر.
ومما يلفت النظر في هذه المسرحيات الاجتماعية المأساوية المتركزة كل منها على موضوع مستقل أنها لم تَخلُ من نقد فرعي أو جانبي لمشكلات أخرى سياسية أو اجتماعية بشكل يندرج مع الموضوع الأساس أو لا يتعارض معه، ففي مسرحية (التحدي) غمز بالسياسة الاستبدادية، وبالتجسس على نوايا الناس وحرياتهم، وفيها أيضاً نقد لأزمة الزواج التي وضعت العراقيل أمام الشباب والنساء على حد سواء، وباختصار نقد للعصر كله: \" إن العصر يسحقنا يا عبد الرحمن، يفركنا بيديه القاسيتين ككائنات لا حول لها ولا قوة. إننا ضائعون ومطاردون عشرون عاماً والكبت الملعون يسلخ جلدي.. \" (ص 46).
إن فم (العصر) لا يرد في مسرحية (التحدي) وحدهاº بل تجده في المسرحيات الأربع، ففي مسرحية (التمثيل) يقول منذر: \"يا لهذه الأعصاب الهشة، أهكذا تتحطم بسرعة؟ متى ستصبحون رجالاً؟ \". (ص 58) وفي مسرحية (الظن) يقول السكرتير: \"لا تظلم الرجل، فإنما هو يعتمد مقياس العصر الذي نعيش في.. نحن جميعاً نركض وراء مصالحنا\" (ص 86). أما في مسرحية (الاضطهاد) فأزمة العصر هي الاضطهاد موضوع المسرحية: يقول الصحفي ثامر العلاف للطبيب هاني: \"إن معاناة الإنسان ليست فقط بسبب هذه العقدة أو تلك، وإنما أيضاً بسبب الظروف الخارجية التي تحيط به.. تضغط عليه.. \" (ص118)،
ويضيف: \"إنك تقول عقدة الاضطهاد، وأنا أقول عصر الاضطهاد و... \" (ص120).
و (عصر الاضطهاد) عبارة ترد على لسان الصحفي، وهي لسان حال المسرحيات الأربع، كما هي لسان حال المؤلف نفسه، وحال معظم الأدباء والمفكرين الإسلاميين حتى ذهب بعضهم إلى القول بـ (جاهلية القرن العشرين). وهكذا كان (التحدي) و (التمثيل) و (الظن) و (الاضطهاد) ألحاناً توقع في سيمفونية واحدة.
تتقابل وتتكامل مسرحة (العبور) البناءة مع المسرحيات الهادمة الأربع. المسرحيات الثلاث الأولى منها تُعنى بعلاج النفس الواحدة (نفس الفرد) في التحدي أو التمثيل أو الظن، أما الرابعة (الاضطهاد) فتُعنى بعلاج البيئة كلها: (النفس المفردة والظروف الخارجية المحيطة بها) وهكذا تكتمل وتتكامل رؤيا المؤلف للنهوض من كبوتنا أو للعبور. محور للبناء ونشر دعوة الإسلام، ومحور لهدم المعوقات على صعيد الفرد والمجتمع والعصر أو الإنسانية جمعاء.
مثل هذه الموضوعات النفسية تقتضي تركيزاً على تحليل نفسيات الشخصيات وإبراز الصراع بينها، فيتقابل الشجاع مع الجبان، ولاعب الشطرنج مع منافسه، والمستقيم مع الظنون والمريض مع الطبيب وللخروج من مشكلة الفرد إلى المجتمع جيء بالصحفي ليقابل الطبيب ويبرز له دور الظروف والعوامل الخارجية للاضطراب النفس أو ظهور العقد. وهذا هو سبب اختلاف هذه المسرحيات الأربع في البناء والعرض مع المسرحية الأولى كما ذكرنا، وهو سبب يستجيب فنياً لوحدة الشكل والمضمون مرة أخرى.
خلافاً للغة الحوار في مسرحية (العبور) الشعري وانسجاماً مع المضمونات الاجتماعية الواقعية في المسرحيات الأربع جاء الحوار وتغلب عليه المباشرة الاعتماد على الصيغ والأساليب الدراجة: ألفاظاً وعبارات وأمثالاً وكنايات وبعض الصور والاستعارات المعبرة، كل ذلك بلغة عربة فصحى مأنوسة مألوفة قلّما علت عن مستوى الشائع، والشخصيات تتقبل ذلك لأن معظمها إن لم نقل كلها- من أوساط مثقفة (طلاب- مدرسين- طبيب- صحفي..).
من التعبيرات الدارجة: \" أقام الدنيا وأقعدها... لقد شبع رسوباً... رخو أكثر من اللازم\" (ص 60-61)، من الأمثال: \" فليس من جرّب كمن لم يجرب.. كلمة وغطاؤها.. بين الأحباب تسقط الآداب\" (ص 78 و 79و84)
من الصور المعبرة الهادفة لتجسيد المعاني أو المراد بما يلائم المسرح: \" لم نأت كي نلتصق كالعناكب بجدران مقبرة آشورية.. إطفاء هذه الفتنة.. كيف أضرب عصفورين بحجر واحد.. أريد أن ألتهم الدنيا.. أرذل العمر.. أما قوة الذاكرة فقد أصبحت من الحيوانات المنقرضة.. تتملصون كالأفاعي الملساء.. \" بعضها من مستحدثات العامية وبعضها أصله من القرآن الكريم أو الحديث الشريف أو الشعر العربي وقلما نعثر على آثار أجنبية مثل: \" حتى أنت يابروتس\" (ص 57 و 67و90و91و99و103و108).
لغرض التجسيد والتوضيح المسرحيين يلجأ المؤلف إلى حيلة مسرحية ملائمة ألا وهي إدخال مسرحية صغيرة (تمثيلية) ضمن المسرحية الأصل، كما حصل في المشهد التمثيلي المرتجل الذي قام به كل من (منذر) (حمدون) في مسرحية التمثيل (ص 69-72).
الطابع العام للمسرحيات الأربع مأساوي، لا سيما الخاتمات حيث ينتهي بعضها بوفاة أو قتل، ومع ذلك لم تخلُ المسرحيات من مواقف ضحك، بل إن نهاية مسرحية (التحدي) يختلط فيها الأسى والفرح في آن واحد، فمدير الإدارة خصم مزعوم لرئيس المهندسين، يُقدم خصمه على نفسه للترقية إلى منصب معاون المدير العام للشركة، فيبطل ظنون خصمه السيئة. إن اجتماع اللونين في الحياة ليس انسجاماً معها وحسب، بل هو أيضاً انسجام مع التصور الإسلامي: \"فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا\" (الشرح 5و6). وهكذا تتكامل أيضاً مسرحية (العبور) مع المسرحيات الأربع.
بقي لنا أن نتساءل: هل يدل رضى المؤلف عن مسرحياته القصيرة -لا الطويلة- يدل على شيء؟ وبمعنى آخر: هل يدل على قدراته الفنية هو، أم على شيوع المسرحية القصيرة حديثاً مثل شيوع القصة القصيرة، أم تلبية لحاجات القراءة والتمثيل المعاصرين؟ نترك الجواب لمناسبة أخرى.
----------------------------------------
(1) توفي المرحوم علي أحمد باكثير عام 1969م. انظر مجلة (الأديب) اللبنانية ع1-عام 1970م- ص 53-54.
(2) هي: المأسورون خمس مسرحيات إسلامية- الشمس والدنس- العبور- المغول- يضاف إلى ذلك صرخة عند المسجد الأقصى حضارة الإسلام ع5و6 عام 1969م.
(3) في لقاء شخصي مع المؤلف بتاريخ 7/12/1997م، صرح بأنه غير راضٍ, عن مسرحيتيه الطويلتين الأولى والأخيرة (المأسورون) و (المغول)، وأنه راضٍ, عن الأخريات وبالذات مجموعة (العبور)، ولو أتيح له الوقت لمراجعة مسرحية (المأسورون) لقلبها رأساً على عقب.
(4) فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية علي أحمد باكثير- ص 79-ط2/1964.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد