عمر بن عبد العزيز .. سبح ضد التيار .. ووصل


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

عمر عبد العزيز، هو شاب ليبي يحب أن يُنادى عمر بن عبد العزيز تيمناً بالخليفة المسلم، فقد بصره بعد عامين من ولادته سنة 1957، وعاش ظروفاً قريبة من تلك التي يعيشها أمثاله في ليبيا وفي الوطن العربي كله، لكنه اختلف عن هؤلاء بطموحه الكبير، وسعيه إلى التأكيد على قدرة المكفوفين على اقتحام الحياة، وإثبات نجاحهم في كل المجالات العلمية، والعملية، وإذا به يصبح مديراً عاماً لإحدى أكبر شركات الكمبيوتر في دبي، شركة (فيزيوتك) التي تهتم بإنتاج وتعريب برامج خاصة للمكفوفين تمكنهم من استعمال جهاز الكمبيوتر مثلهم مثل المبصرين تماماً إذا لم يكن بشكل أفضل.. (الإسلام اليوم) أراد إلا أن ينقل هذه التجربة الشخصية التي تستحق الاهتمام.. فكان لنا مع عمر بن عبد العزيز هذا اللقاء:

 

يرتبط الكفيف غالباً بتميّزه في الحفظ فقط، كيف استطعتم الخروج عن هذه القاعدة؟

 الأديب طه حسين، والأديب عبد الحميد عبد الحكيم، وغيرهما دخلا تاريخ الأدب من أوسع أبوابه، ذلك لأنهما نشآ في بيئة كانت كغيرها من تلك الموجودة في جميع البلدان العربية، والتي تتعامل مع الكفيف على أنه شخصية قابلة فقط للتلقي، ومستعدة لحفظ المواد الأدبية، وغير قادرة على الخوض في الأمور العلمية، ورغم الأثر الواضح لهذين الأديبين، على مسيرة الأدب العربي ككل، إلا أنهما كانا مسيرين في اختيار مستقبلهما الذي فرضته عليهما شروط الإعاقة.

 

موهبتكم تمثلت في دخولكم مجال الحاسوب رغم فقد البصر، فكيف ساورتكم هذه الرغبة من البداية؟

فقدت بصري بعد عامين من ولادتي، رغم ذلك كان لدي شعور داخلي بأنني أختلف عن أقراني ممن أُصيبوا بنفس العلة، وهذا الاختلاف تمثل في طموحي بأن أكون ذا تأثير واضح في مجتمعي، وصاحب بصمة لا تمّحى في عالم المبصرين.

غالباً ما يُنظر إلى المكفوفين في الدول العربية على أنهم أشخاص عاجزون، بحاجة إلى الشفقة، ومحدودو الخيارات، حتى الزواج بالنسبة لهذه الفئة من الناس لا يكون أمراً سهلاًº إذ درج العُرف على أن العائلات المعروفة والغنية تحجم عن تزويج بناتها المبصرات إلى فاقدي البصر، الأمر الذي يضطر المكفوف إلى البحث عن زوجة المستقبل في القرى والأرياف، ولدى العائلات الفقيرة.

 

ما هي الصعوبات التي واجهتكم أثناء دراستكم؟

كنت متفوقاً ودافعي إلى ذلك طموحي في إكمال تعليمي خارج بلديº إذ ما زالت معظم الدول العربية للأسف تفتقر إلى مناهج علمية عليا تتقبل الكفيف، وتؤهله للحصول على الشهادة الجامعية، لذلك اقتصر تحصيل معظم أصحاب هذه الإعاقة على الشهادة الثانوية، أو تم توجيههم لدارسة الأدب أو أي تحصيل أدبي يؤهلهم للعمل كمدرسين أو خطباء مساجد، أو أدباء، وبالتالي ينعكس ذلك على أوضاعهم الماديةº لأن مجال الدراسة يفرض بدوره مجال العمل.

كما أن هناك بونًا شاسعًا بين نظرة الدول الغربية للمكفوف وغيره من أصحاب الإعاقات ونظرة العالم العربي لهم، فالناس في الغرب، يسمون أمثالي وغيرهم (أصحاب الاحتياجات الخاصة) لكن في بلادنا نحن نسمى (معاقين) أو (عاجزين) وكلمة صاحب احتياجات خاصة تعني أن هذا الشخص طبيعي سوي سليم التفكير، قادر على العطاء، مثله مثل أي شخص عادي، لكن لديه احتياجات خاصة، لذلك اهتم الغرب بسن القوانين التي تحفظ حقوق هذه الفئة، وتعمل على دمجها في الحياة العملية، كونها فئة قادرة على الإبداع والإنتاج، ولا يمكن تركها معطلة.

 

مَن مِنَ الأشخاص الذين تأثرت بهم تاريخياً في مسيرة حياتك؟

هيلين كيلر التي أُطلق عليها لقب معجزة التربية، ولدت في القرن التاسع عشر، وفقدت سمعها وبصرها وتحولت إلى بكماء بسبب حمّى أصابتها في طفولتها، كل هذه العلل لم توقف طموح هيلين، ولم تقف في وجه إصرارها وإصرار أهلها على جعلها عنصراً مهما وله وزنه الثقافي وكيانه، وابتسم القدر لهذه الطفلة، حين أرسل لها معهد بيركز سكول المعلمة آن سيلفان، التي تمكنت- بفضل مثابرتها وإخلاصها بعملها، وإيمانها بقدرات هذه الفتاة- من تعليم هيلين النطق، ونطقت هيلين جملاً لم تكن مرتبة في البداية، ومع المتابعة نجحت هيلين وتحدثت الإنجليزية بطلاقة، ومن ثم الألمانية والفرنسية، وحصلت على شهادة في التاريخ، وزارت أكثر من دولة.

 

كيف بدأت ميولكم تتجه للاتجاه العلمي والتقني؟

في زياراتنا لكلية العلوم، كنت وصديقاً لي نتحدث عن طموحاتنا كمكفوفين، وفكّرنا معاً في اختراع سيارة للمكفوفين، وتحدثنا في تفاصيلها، وفي كل ما يمكن أن تشمله، لتكون سيارة طيّعة في يد المكفوف، ورغم أن ذلك حدث في سن مبكرة جداً، إلا أن الهاجس التكنولوجي بقي يلازمني حتى حصلت على الشهادة الثانوية، ومن ثم راسلت عدة جامعات، ودرست إمكانات قبولي في تخصصات التكنولوجيا والعلوم، وبالفعل تم قبولي، وذهبت لأدرس دون دعم ماديº إذ فقدت المنحة التي حصلت عليها من الحكومة الليبية بسبب عدم قناعة وزير جديد بأن كفيفاً مثلي يمكن أن يستفيد من منحة قدمها له الوزير الذي كان قبله.

 

صف لنا تجربتك كمدير عام لشركة (فيزيوتك) المتخصصة في تأمين وتعريب برامج الحاسوب الخاصة بالمكفوفين؟

خلال دراستي في أوروبا، تمكنت من الإطلاع على العالم الواسع الذي يستطيع الكفيف في الدول الغربية دخوله والتعامل معه، والإبداع فيه، واقتنيت جهاز كمبيوتر، وتعلمت الطباعة، وأبدعت فيها، كنت أطبع بمهارة، لكني كنت عاجزاً عن التعامل مع شاشة الحاسوب، وقبل عشر سنوات تعرّفت إلى صديق عربي مبصر، خبير في مجال الكمبيوتر، اسمه وائل الفقير- هو شريكي الآن- رآني وأنا أطبع في مركزه، وسألني عن الذي يمكن أن يقدمه لي، فطرحت عليه فكرة تقديم شيء في عالم التكنولوجيا للمكفوفين، إلا أن وائل كان عاجزاً عن تصوّر ما يمكن أن يفعله المكفوفون مع التكنولوجيا، ومن خلال بحثنا، زرنا معرض تقنيات من أجل المكفوفين، والتقينا بأصحابه، وعرضنا عليهم فكرة تعريب برامجهم، فوافقوا، لتتأسس شركتنا (فيزيوتك) قبل أربع سنوات.

 

ما أبرز نتاجك في هذا المجال؟

بدعم جهودي بمشاركة صديقي وائل الفقير أنشأنا شركة فيزيوتك في دبي، لتتمكن بعد سنة من إنشائها من إصدار النسخة الأولى من برنامج قارئ للشاشة اسمه (فيرغو)، وهو برنامج قارئ للشاشة يمكّن الكفيف من التعامل مع الكمبيوتر مثل المبصرين أو أفضل منهم، فهو يقرأ كل ما يمكن أن تعرضه الشاشة من معلومات، وعلى الرغم من أن هذا البرنامج لا يمكنه التعامل مع الصور، إلا أنه يُعتبر أحد النجاحات التي حققتها الشركة خلال عمرها القصير، الذي ولد من رحم المعاناة، معاناة الكفيف الذي يصبو ليكون مثل أقرانه، في دول لا تهتم حكوماتها بهذا الأمر، ولن تهتم، في حين يشكو القطاع الخاص من نقص الوعي، ويغلب عليه مبدأ الاستثمار في مجالات تحقق له الربح السريع، لذلك عانينا الكثير في إنشاء مثل هذه الشركة، كنا نسبح ضدّ التيار، لا نهدف للربح المادي، لكننا محكومون أيضاً بارتفاع أسعار هذه البرامج والتقنيات في بلادها الأم، الأمر الذي يشكل بالنسبة لنا عقبة اقتصادية، ويشكل للكفيف عبئاً مادياً لا يمكنه تحمله، لذلك سعينا من خلال شركتنا إلى إيجاد من يدعم رغبة الكفيف في التطور والإنتاج، فيؤمّن له الأجهزة، ومن ثم العمل. لقد كنت أول المتضررين من سوء تعامل القطاع الرسمي مع الكفيف، وأنا أول المستفيدين من وعي بعض المستثمرين في القطاع الخاص.

 

وما هي الأدوات التي أمّنتها شركتكم للكفيف؟

هناك ما يسمى النوت تيكر، أي الأجندة الإلكترونية، وهي منظمة مواعيد تقرأ بطريقة برايل، وهناك شاشة إلكترونية فيها تقرأ بطريقة برايل، وهناك دفتر word الذي يُعتبر قلم الكفيف.

إن توصيل جهاز بالكمبيوتر يمكّن الكفيف من قراءة أي ملف، وهناك أيضاً ما أسميناه المكتبة الإلكترونية، وهو مشروع يقوم على تحميل الكتب الموجودة على الـword وتنسيقها وفهرستها، وإزالة كل الفراغات أو الأسطر الزائدة فيها أو الصور، وهذه المكتبة تمكن الكفيف أو ضعيف البصر من قراءة أي كتاب تمّ تحميله، وتفتح أمامه باب الاطلاع على مصراعيه. أما جهاز برنتو فهو يسجل صوتياً، ويمكن الكفيف أو ضعيف البصر من قراءة الرسائل على الهاتف الجوال، وإرسالها، وكذلك يمكنه من قراءة البوصلة، ودرجات الحرارة وغيرها.

 

كيف يمكن أن ترون مستقبل المكفوفين؟

كانت أغرب مهنة لكفيف سمعت عنها في ألمانيا هي ميكانيكي قطارات، وفي أميركا كفيف مصري خبير في الكمبيوتر تستعين به الشركات لتقييم موظفيها، وحديثاً تحدّت إحدى الشركات العربية كفيفاً وعرضت عليه عملاً إذا تمكن من التعامل مع برنامج (word) فكان أن جاء هذا الكفيف إلى شركتنا، وتعلم برنامج الـ word، وأتقنه، ونجح في امتحان الشركة التي تحدّته وهو الآن موظف لديها.

ومع ذلك.. ثمة أوقات شعرنا فيها أن المشروع سينتهي بنا إلى الفشل، لكننا أصررنا على المثابرة، حتى ظهرت مؤخراً تباشير خير، جعلتنا بحمد الله وفضله نوقن أن ثمة نورا في آخر النفق. وعلى الرغم من أنه لا إحصاءات رسمية أكيدة لعدد المكفوفين في العالم العربي إلا أن ما أظهرته الدراسات حتى الآن يشير إلى أن أعدادهم تقدر بالملايين، وهذه الأعداد قابلة للزيادة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما درجت عليه بعض العائلات التي يولد لها أبناء مكفوفون أو بنات مكفوفات، حيث تقوم بنفي وجودهم لديها وكأنها تتخلص من وصمة عار.

 

ما كلمتكم الأخيرة؟

حتى لا تختلط الأمور عند البعض أود أن أوضح أن شركتنا لديها قضية ورسالة، فمفهوم كلمة شركة عند الكثيرين يعني أنها مؤسسة ترتبط بالتجارة والربح، لكن (فيزيوتك) شركة ذات هامش قليل من الربح يمكنها من الإنفاق على نفسها ومشاريعها التي تصب جميعها في عمل خيري إنساني هو تفعيل إنتاجية المكفوفين وضعيفي البصر.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply