د. صلاح الصاوي : لا بديل عن سلفية المنهج وعصرية المواجهة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

- العداوة بيننا وبين اليهود أقامها القرآن الكريم ولا سبيل إلى إنهائها.

- انكسارنا على مستوى المفاهيم خيانة عظمى للإسلام.

- الكثيرون يخلطون في فهم النص الشرعي بين مناط الاستخلاف ومناط الاستضعاف.

- عقيدة الولاء والبراء تحمينا من الانكسار وذوبان الهوية.

- علاقتنا بالغرب وبغير المسلمين يجب أن تكون علاقة دعوة وعلاقة بلاغ.

- كثير من الجنود الأمريكيين الغزاة أسلموا في بلادنا رغم انكسارنا وضعفنا.

- الفرق بيننا وبين الغرب هو الفرق بين النفاق وبين الوضوح.

- حروب الغرب الصليبية لن تنتهي إلا عندما يلتقي مسيح الهدى ومسيح الضلالة.

 

الدكتور الصاوي عالم وداعية إسلامي متميز، اهتم بقضايا الصحوة الإسلامية المعاصرة، وخاصة منهاجها الثقافي والفكري المرتكز على الثوابت الشرعية، والداعي إلى وحدة الصف الإسلامي وتجاوز قضايا الخلاف، والداعي أيضاً إلى التغافر والتسامح بين العاملين في الحقل الإسلامي. وهو خريج كلية الشريعة جامعة الأزهر وحاصل منها على درجة الدكتوراه.

 

وعمل نائبا للأمين العام لهيئة الإعجاز العلمي للقرآن والسنة برابطة العالم الإسلامي، ثم مديرا للمركز العالمي لأبحاث الإعجاز العلمي في باكستان، ثم أستاذا زائرا في معهد العلوم الإسلامية في واشنطن، ثم مديرا لمركز بحوث تطبيق الشريعة الإسلامية برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، ويعمل الآن مديرا للجامعة الإسلامية المفتوحة بواشنطن، وهو أيضا الأمين العام لمجمع فقهاء الشريعة بالولايات المتحدة.

 

وله صلات عديدة بالمنظمات الإسلامية في أوروبا وأمريكا ومختلف أنحاء العالم، مما مكنه بالإحاطة بهموم العمل الإسلامي في الوطن العربي، وفي العالم الغربي.

لذلك كان الحديث مع الدكتور صلاح الصاوي هاما وذا مغزى بحكم هذه الخبرة الواسعة في العمل الإسلامي.

 

* الأمة الإسلامية في حالة انكسار وضعف في هذه المرحلة، وباعتبارك عشت في أوروبا وأمريكا، وعايشت مشاكل المسلمين هناك، واقتربت من مقولات الغرب، ما هو الأسلوب الأمثل في رأيك للتعامل مع الغرب؟ هل هو الحوار، أم ماذا؟

 

** إذا كان المقصود بالحوار بسط قضية الإسلام فهذا مما تعبد الله به عباده في جميع الأطوار والأحوال، سواء كانت الأمة في حالة انتصار أم في حالة انكسار. فنحن أمة دعوة ورسالة نبلغها لغيرنا من الناس في جميع أطوارنا، وفي جميع أحوالنا، فلا خلاف على بسط قضايانا، والدفاع عنها، وحشد الأدلة لإثباتها في أي طور، وعلى أية حالة كنا، فهذا القدر من المحكم يكمله أيضا ألا ينكسر حاجز الولاء والبراء الذي أقامته الشريعة وجعلته أساسا في التعامل بين المسلم وغير المسلم.

 

وقضية الولاء والبراء من القواعد المحكمة في دين المسلمين، وقد وردت فيها عشرات الآيات والأحاديث، وفي أزمنة الانكسار يرق هذا الحاجز ويضعف ويحدث فقه التبرير الذي تنشئه عوامل الوهن التي تمر بها الأمة من ناحية، ومفاهيم الاختراق الوافدة من ناحية أخرى.

 

ومما يحسن التنبيه عليه هنا أن يقال: إن الولاء والبراء يعقده الكتاب والسنة لا غير، فمن كان مؤمنا بالله ورسوله بذلت له حقوق الموالاة كاملة، ومن كان كافرا بالله ورسوله حجبت عنه حقوق الموالاة كاملة، ومن كان فيه إيمان وفيه فتور، أو فيه طاعة وفيه معصية، فإنه يأخذ من الموالاة بحسب إيمانه وطاعته، ويأخذ من المجافاة بحسب ما فيه من معصية. وهذا المعنى ينبغي ألا ينهزم ولا ينكسر في أنفسنا مهما توالت مطارق المحن والشدائد علينا.

 

وخصومنا حريصون جداً على كسر هذا الحاجز، ولهذا فإن الرئيس الأمريكي الأسبق \"بوش الأب\" كان يقول: إن القضية في الشرق الأوسط ليست قضية إنهاء الحرب، وإنما هي قضية إنهاء العداوة. وفرق كبير بين الأمرين، فالعداوة بيننا وبين اليهود أقامها القرآن الكريم ولا سبيل إلى إزالتها وإنهائها بحال من الأحوال [لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا] \"سورة المائدة: 82\"، [يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق..] \"سورة الممتحنة: 1\"، [يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم..] \" سورة المائدة 51 \". لا سيما حينما نكون في حالة حرب واغتصاب لمقدرات الأمة وإحاطة بها كإحاطة السوار بالمعصم، فحينما تصل الأمة إلى هذا الحد فعليها أن تحافظ على هذه المفاهيم، وأن تورثها للأجيال القادمة.

 

فإذا كنا لا نستطيع أن نقدم شيئا لديننا في عالم القوة المادية فلا أقل من أن نحافظ على نقائه وصفائه، ونورثه نقياً متكاملاً للجيل القادم فعسى أن يفتح الله على أبنائنا فيما فشلنا نحن فيه. أما أن ننكسر على مستوى المفاهيم فهذه خيانة عظمى للإسلام وللحقيقة المجردة.

 

لكن من ناحية السلوك العملي فنحن نفرق بين الولاء والمداراة، فالتسامح موجود للمسلمين ولغيرهم، والمداراة يلجأ إليها الناس حينما يكونون في حالة ضعف وانكسار، وطبيعي حينما أكون ضعيفا ومنكسرا ألا تطلب مني أن أتصرف باعتباري قويا ومتمكناً. وعندما تكون الأمور على هذا النحو فمنطق التسامح والتآلف وارد، ومنطق الدعوة والاستماتة في الدفاع عن قضية السلام وفي بسط حججه وفي دحض شبهات وأباطيل خصومه وارد وهام.

 

وعموما فإن علاقتنا بالغرب وبغير المسلمين علاقة دعوة وعلاقة بلاغ، ونحن أمة دعوة ورسالة، ونحن أصحاب الدين الذي ارتضاه الله لعباده، وقد نسخت الأديان كلها، ونحن نمسك بأيدنا المصحف الذي حماه الله من التحريف والتبديل، على حين حرفت الكتب السماوية كلها، فلم يبق على الأرض وحي معصوم إلا القرآن والسنة. ولم يبق دين يقبله الله ويرتضيه لعباده إلا الإسلام، فبقدر جسامة هذا الموقع وهذه المسئولية ينبغي أن تكون أمانة الدعوة، وأمانة البلاغ مع المحافظة على عقيدة الولاء والبراء حتى لا تنكسر هذه الأمة على ما فيها من انكسار، وحتى لا تذوب هويتها في معترك الأفكار والسياسات.

 

* ما هي الضوابط الشرعية التي تحكم علاقة المسلمين بغيرهم من المسالمين الذين لا يشنون علينا الحروب؟

** البر والقسط هما أساس العلاقة في التعامل مع المسالمين من غير المسلمين، والله - تعالى -جعل ذلك قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، فقال - سبحانه -: [لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين].

 

والبر هو أعلى درجات حسن الخلق، ومنه برّ الإنسان لأمّه وأبيه، وقد ندبت إليه الآية الكريمة في التعامل مع المسالمين من غير المسلمين. وقال - تعالى -: [فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا]، ومن ذلك كفالة حقوقهم، وحفظ عهودهم، ومواساتهم في مصابهم، وتهنئتهم فيما لم يكن من خصوصيات دينهم من مناسبات اجتماعية، وإقامة العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتبادل الخبرات في مختلف مناحي الحياة، وغيره.

 

ومن صور البر القسط وقوع التعاون المثمر والعادل مع غير المسلمين في كل ما يمثل مصلحة مشتركة للفريقين، لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حلف الفضول وكان ذلك في الجاهلية، حيث اجتمع رؤساء قريش وزعماؤها وتعاهدوا فيما بينهم على: مساعدة الضعيف، وإغاثة الملهوف، ومساعدة المحتاج، ولقد حضره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ وقال في الإسلام بعد ذلك: (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حِلفاً ما أحبّ أنّ لي به حُمر النِّعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت).

ومن معالم العلاقة مع الغرب خاصة، أو مع غير المسلمين بصفة عامة، تعظيم ما يعقد معهم من عقود الأمان والتي تمثلها المعاهدات والاتفاقات الدولية المعاصرة على مستوى الدول، أو تأشيرات الدخول والاستقدام على مستوى الأفراد.

 

فالأمان هو عهد بالسلامة من الأذى، ويعرفه الفقهاء بأنه عقد بين المسلم وغير المسلم على الحصانة من لحوق الضرر من كل منهما إلى الآخر، سواء منه أو ممن وراءه، إلا بحقه، ومثله الجوار، وقد عنون البخاري في صحيحه فقال: (باب أمان النساء وجوارهن) فإذا أعطي الأمان أهل الحرب حرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم.

 

والعقود التي تفيد الأمان ثلاثة: الأمان، والهدنة، والذمة. فإن تعلق الأمان بعدد محصور فذلك الأمان، وإن كان إلى غاية فتلك هدنة، وإن كان مؤبدا فهذه هي الذمة، والهدنة والذمة من أعمال السيادة التي تفوض إلى السلطة العامة، بخلاف الأمان فإنه حق لهذه السلطة ولكل مسلم بالغ عاقل.

 

* وما هي الضوابط الشرعية لقتال المحاربين من غير المسلمين؟

** القتال في الإسلام إنما يكون لدرء الحرابة وكف العدوان، وليس للإكراه على الدين سواء أكانت الحرابة واقعة بالفعل، وهو ما يسمى بجهاد الدفع، أو متوقعة ولاحت نذرها بدلائل قوية وبينات يقينية وهذا هو جهاد الطلب.

 

فحروبه - صلى الله عليه وسلم - كلها لم تخرج عن ذلك لمن تدبر السيرة وأمعن النظر في حروبه وغزواته - صلى الله عليه وسلم -. وهذا هو الذي عليه جمهور الفقهاء في هذه المسألة، والأصل في ذلك ببساطة أنه لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي، وأن هذه الأمة أمة هداية، وليست أمة بغي وحرابة، ولهذا كان نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن قتل من لا يتأتى منه القتال كالنساء والذرية الضعفاء ونحوهم.

 

ولا تستباح الدماء خارج دار الإسلام إلا في الحرب المشروعة التي تكون لدفع العدوان، العدوان على بلاد الإسلام، أو العدوان على الإسلام نفسه، بفتنة الناس عنه، أو صدهم عن سبيله، ووضع المعوقات في طريقه، ومصادرة حق البشر في اختياره، قال - تعالى -: [وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين]، وقال - تعالى -: [ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا].

 

وفرق بين الحرب المشروعة كما عرفتها مواريثنا الفقهية والتاريخية، والحرب المقدسة كما شاعت في الأوساط الغربية، والتي يراد بها إكراه أهل ملة على الدخول في ملة أخرى عنوة وتحت بارقة السيوف، فإن هذا ما لا يعرف له نظير في ملة الإسلام، انطلاقا من هذا المبدأ القرآني الخالد [لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي].

 

ولهذه الحرب المشروعة شرائط وآداب لا تتحقق المشروعية إلا باستيفائها، منها على سبيل المثال: تجنب الغدر، فمن كان بينه وبين قوم ميثاق وجب عليه أن يتم إليهم عهدهم إلى مدتهم، ولا يحل له أن ينكث فيه بحال، وإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم على سواء، وأعلمهم بالمنابذة والمصارمة، والنصوص في ذلك صريحة وقاطعة. قال - تعالى -: [وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين]. ومعنى قوله - تعالى -: [فانبذ إليهم على سواء]: أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم، حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم وهم حرب لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي تستوي أنت وهم في ذلك.

 

وأخرج الإمام أحمد وغيره عن سليم بن عامر قال: كان معاوية يسير في أرض الروم وكان بينه وبينهم أمد، فأراد أن يدنوا منهم فإذا انقضى الأمد غزاهم، فإذا شيخ على دابة يقول: الله أكبر، وفاء لا غدرا، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من كان بينه وبين قوم عهد، فلا يحلن عقدة، ولا يشدها، حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء)، قال: فبلغ ذلك معاوية، فرجع، وإذا الشيخ عمرو بن عبسة.

 

ومنها أيضاً تحريم القصد بالعدوان إلى غير المقاتلين، فإن من شريعته - صلى الله عليه وسلم - أن لا يقصد بالعدوان إلى غير المقاتلين، سواء أكانوا من النساء أو الأطفال أو الشيوخ أو الأجراء أو المنقطعين للعبادة في الصوامع والأديرة ونحوه. والنصوص في ذلك صحيحة وصريحة، فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان).

 

* تختلف فصائل الصحوة الإسلامية في فهم النصوص وفي تنزيل هذه النصوص على الواقع.. ومن هنا تنشأ المشاكل.. كيف يمكن في رأيك الخروج من هذا المأزق الذي يمزق الصحوة وفصائلها؟

** يحدث خلط في التعامل مع النصوص الشرعية بين مناط الاستخلاف ومناط الاستضعاف، فهناك طائفة من النصوص يرتبط تطبيقها بواقع الاستخلاف والقوة، وطائفة أخرى يرتبط تطبيقها بواقع الاستضعاف والغربة. ومثال ذلك الآيات الواردة في باب الصفح والمغفرة والمداراة وتألف المخالف، فما ورد في هذا المقام من آيات أو أحاديث فإنما ترتبط بواقع الاستضعاف والغربة، وما ورد من نصوص في باب الهجر والزجر والغلظة فإنما يرتبط بواقع التمكين والقوة، فإذا حدث خلط فنزلت النصوص التي ترتبط بواقع الاستضعاف على واقع القوة أو العكس فيحدث الخلط ويحدث التشويش.

 

فالنصوص الواردة في باب الصفح والمغفرة وتألف المخالف مثل قوله - تعالى -: [قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله.. ] وقوله - تعالى -: [وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون، وانتظرا إنا منتظرون]. وقوله - تعالى -[فاصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلاً]. هذه النصوص ترتبط بواقع يعيش فيه المسلمون في غربة، لا قوة لهم ولا شوكة ولا منعة، فإذا تحول المسلمون إلى واقع القوة والاستخلاف والتمكين يخاطبون بطائفة أخرى من النصوص كقول الله - تعالى -: [يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم.. ] وقوله - تعالى -: [يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة.. ]. وقوله - تعالى -[قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون].

 

ومن ثم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه \"الصارم المسلول على شاتم الرسول\": \"من كان بأرض هو فيها مستضعف فيعمل بآيات الصفح والصبر والمغفرة للذين لا يرجون أيام الله، ومن كان بأرض هو فيها متمكن فيعمل بآيات السيف والقوة وآيات القتال للذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله. ومن أسباب الخلط والشطط في وقتنا المعاصر قضية الغفلة، الغفلة عن هذا المعنى، وإذا حدث هذا الفصل الذي نرجوه ينتظم الأمر ويستقيم المسار.

 

* في ظل انهيار الحضارة المادية الغربية، هل ترى أن مستقبل الإسلام سيكون نابعا من بلاد المسلمين أنفسهم، أم من نمو الإسلام في بلاد الغرب؟

** هذه المنطقة هي منطقة الريادة، منطقة الإسلام هي منطقة الريادة، المنطقة التي بعث فيها الأنبياء، وتنزلت فيها كتب السماء، ما فيها مدد، يمد الله بهم دينه وعباده، فهم مدد للجسم الأصلي المتمركز في هذه المنطقة، نحن نتمنى أن يشرح الله للإسلام صدور هؤلاء وقلوبهم، وأن يكونوا مدداً للإسلام والمسلمين.

 

إن كثيراً من الجنود الأمريكيين الذين ساهموا في حرب تحرير الكويت، ثم في غزو العراق، أسلموا، وهم بين جندي وضابط، والتقيت ببعضهم، وإسلامهم ليس مشوشا، بل هو إسلام من قرأ وقارن وفكر واتخذا قراره بعد تفكير عميق، وكانوا يسألوني أسئلة في منتهى العمق قد لا يسأل مثلها كثير من المسلمين.

وقلت لنفسي إذا كان هذا قد حدث للأمة في مرحلة الانكسار والتراجع، فكيف لو كانت الأمة في حالة استكبار واستعلاء وريادة؟

 

* الإعلام الغربي يتحدث دائما عن الإنسان الغربي على أنه متحضر مؤدب، لا يفرق بين الناس على أساس ديني، على عكس الإنسان العربي والمسلم. فعلى اعتبار أنكم عشتم وسط الغربيين، هل هذه المقولة صحيحة؟ خصوصا ما نراه في البوسنة وكوسوفا والشيشان وأفغانستان والعراق وما نراه من تفرقة عنصرية في الولايات المتحدة؟

** الفرق بيننا وبينهم هو الفرق بين النفاق وبين الوضوح، فقوانينهم ونظمهم تنص على ما تقول، وواقعهم في كثير من الأحوال يخالف ذلك مخالفة جذرية، وحسبنا هذا التطفيف الظالم الذي يقوده ما سمى بالنظام العالمي الجديد والمكاييل المزدوجة التي يتعامل بها مع العالم الإسلامي. لكن نحن في ديننا لا نعرف هذا التلون وهذا الخداع، فظاهرنا كباطننا، ما نعتقده ديانة نعلنه على الملأ، ونقيم عليه الحجج والبراهين، وكل من يعيش على أرض الإسلام يتمتع بحقوق كاملة لا يتمتع بعشرها المسلمون المقيمون في الغرب الآن.

 

فلا يملك المسلم المقيم في أمريكا مثلا أن يتزوج امرأة ثانية إلا إذا قدم وثيقة طلاق أمام القضاء الأمريكي، وإلا يعتبر قد ارتكب جريمة قانونية ضخمة جداً ويحاكم ويطرد من البلاد. وبعض الناس قد تحتم عليه ظروفه الزواج وهو في ذلك المجتمع الجديد، ولكن لا يملك ذلك، فهل صادر المسلمون حق غير المسلمين في أن يحتكموا في مسائل الأسرة إلى قوانينهم عبر 14 قرناً؟ بينما في القرن العشرين يحجب هذا الحق عن المسلمين؟

 

ماذا يعني أن يقوم المجتمع الفرنسي ويقعد من أجل فتاة محجبة فأي خطورة على الحضارة الغربية والمجتمع الفرنسي في ذلك؟.

 

* لكن ماذا عن مدى ارتباط الصليبية العالمية بالنظام العالمي الجديد؟

** هذا موضوع متشابك، لكني أقول إن هناك صراعا طويلا عمره في الحقيقة خمسة آلاف سنة بين وعدين: وعد حق من الله - تعالى -، ووعد مفترى كذب أصحابه على الله.

 

اليهود والنصارى اتفقوا على الأسطورة التي تقول: إن قادماً سيأتي وسينزل في أرض الميعاد، وأنه يجب أن يهيئ المسرح لاستقباله، وأن يتعاون اليهود والنصارى معاً في ذلك. هذا القادم عند النصارى هو \"المسيح\"، وعند اليهود هو \"الدجال\"، وهناك تناقض جدي بين هذين القادمين، فاليهود يرون في المسيح عيسى ابن مريم أنه ابن زنا كذاب، والنصارى يعتقدون أنه إلههم ومعبودهم، وأن اليهود هم الذين قتلوه، ورغم هذا التناقض الجذري الضخم جدا الذي يفصل بينهما إلا أنهم استطاعوا أن يتفقوا حول هذه الأسطورة، وقالوا نحن نتفق على أن قادما سيأتي، وأنه سينزل في أرض الميعاد، وأن شعبه يجب أن يكون قوياً كي يتمكن من استقبال هذا القادم.

 

فالصليبية العالمية تقول نحن نصلي للرب، ونرسل السلاح لإسرائيل لتهيئ المسرح لاستقبال هذا القادم الجديد الذي سيقود العالم قيادة جديدة، فتقف الآن اليهودية العالمية والصليبية العالمية في معسكر واحد لتهيئة أرض الميعاد لاستقبال قيادة جديدة للبشرية بزعمهم، وأن هذه هي التي ستغير وجه الوجود كله. والمستهدف في الناحية المقابلة هو الإسلام خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، ومحاربة الإسلام أصبحت هي مشروعهم القومي الذي يجمعون عليه شعوبهم.

 

إن ما نراه اليوم من حملة صليبية، ثقافية وعسكرية، ضد الإسلام، بدأ منذ خمسة آلاف سنة منذ وعد الله لإبراهيم، وسينتهي عندما يلتقي المسيحان، مسيح الهدى \"عيسى ابن مريم\" ومسيح الضلالة \"الدجال\"، فيدرك مسيح الهدى مسيح الضلالة في فلسطين فيقتله، ويومها يسدل الستار عن آخر فصل في هذا الصراع، والذي أخبرنا بذلك هو رسول الله الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -، وأخبرنا أن المسيح سيصلي خلف المهدي فقال: (وإمامهم منهم تكرمة الله لهذه الأمة) إشارة إلى أن المسيح لن يأتي بشريعة جديدة وإنما سيحكم بشريعة نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام -، ثم يبدأ مسلسل آخر الزمان وهو كالعقد إذا انفرطت منه حبة تتداعى سائر حباته وتتساقط.

 

فالقضية هكذا لها أبعاد دينية، وجذور دينية قابعة في أعماق مخططي السياسة وصناع القرار في الغرب، وهو بعد ديني عند اليهود والنصارى نرجو ألا يغفله المسلمون.

 

* كيف يمكن القضاء على الخلاف بين فصائل العمل الإسلامي؟

** لقد تأملت في واقع العمل الإسلامي المعاصر فوجدت أنه يعاني من مشكلتين كبيرتين: من تشرذم علمي يوشك أن يمثل تفرقا في الدين، ومن تشرذم تنظيمي يوشك أن يمثل تفرقا في الراية، فأخذت أبحث عن الأسباب: ما الذي أدى إلى التشرذم العلمي؟ فوجدت أن هناك اجتهادات علمية متفاوتة مختلفة أدت إلى أن تموج الساحة بالمفاهيم المتصارعة، وأسباب ذلك كثيرة منها: الخلط بين الثابت والمتغير أو الخلط بين المحكم والمتشابه، لأن مرد الخلل في هذه الناحية يرجع إلى أحد أمرين: إما أن نغلو في مسألة من مسائل المتشابه فنرفعها إلى مصاف المحكمات والقطعيات فنوالي وتعادي عليها، وإما أن نوهن ونفرط في مسألة من المحكم فنهمش قيمتها ونهمش دورها ونهبط بها إلى مستوى المسائل المتشابهة والبسيطة. هذا يقتضي منا أن نعيد ترتيب الأوراق داخل العقل المسلم بحيث نفصل بدقة بين المحكمات التي يجب أن تجتمع عليها كلمة المسلمين كافة، وبين المتشابهات التي يجب أن يتغافر فيها الناس ولا يفجروا بسببها عداوات وخصومات.

 

* الشباب الإسلامي حائر الآن بين كتب التراث، وبين الكتب الفكرية المعاصرة، فطائفة تغرق في التراث ولا ترضى غيره، وطائفة تقطع الصلة بالتراث إلى حد كبير، كيف السبيل للخروج من هذا المأزق؟

** لا بديل من سلفية المنهج وعصرية المواجهة، بمعنى أننا يجب أن نرجع بأصول الفهم إلى الكتاب والسنة وما أجمع عليه الفقهاء، وأن نستخدم هذه الأصول في دراسة ومعالجة مشكلاتنا المعاصرة، فلا نهاجر إلى الماضي بالكلية فننفصل عن الحاضر بالكلية، فهذا نوع من الخلل معناه أني سأعيش في اهتمامات تراثية تاريخية بحتة. فالسلف واجهوا مشكلات بعينها تصدوا لها بالقرآن والسنة وبكل ما آتاهم الله، أما مجتمعاتنا المعاصرة فإنها تفرز أقضيات جديدة فلا ينبغي أن أهاجر إلى الماضي وأنفصل عن مشكلاتي المعاصرة، ولا ينبغي بنفس القدر أن تحجبني هذه المشكلات المعاصرة عن التواصل مع السلف، وعن استخدام أصول الفهم وقواعد المنهج السلفي التي توارثتها الأمة جيلا بعد جيل في دراسة وتحليل وعلاج هذه المشكلات.

 

وهناك معيار يمكن أن يمثل صمام أمن في هذه القضية، فإذا فصلنا أبناء هذا الجيل عن تراثهم وعن كتب سلفهم، فإننا نغامر بالفكر الإسلامي ونغرر به تغريرا كبيرا بمستقبل شديد الظلام. فسلفنا الصالح كما نقلوا لنا نصوص الكتاب والسنة، نقلوا لنا الفهم الصحيح والمعتبر لمحكمات الكتاب والسنة، وكما مثلوا مرجعية في نقل النصوص مثلوا مرجعية في فهم المحكمات في هذه النصوص، ولهذا يقول الله - تعالى -: [ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم].. كان يكفي أن يقول - سبحانه -: [ويتبع غير سبل المؤمنين].. وقال الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: \"عليكم بسنتي وسنة لخلفاء الراشدين من بعدي\" وكان يكفي أن يقول: عليكم سنتي فقط.. ففهم سلفنا الصالح والقرون الثلاثة الأولى يمثل صمام أمن في فهم محكمات الكتاب والسنة.

 

ولقد كتب أحد المتساهلين من أهل الفكر المعاصر يقول: \"إن مقصود الشريعة من قطع يد السارق هو تحقيق الزجر الخاص للسارق، ثم الزجر العام أمام الناس حتى لا يأتوا بالسرقة، فلو أتينا بعقوبة أخرى غير القطع ولتكن الأشغال الشاقة فنحن بذلك قد حققنا مقصود الشريعة ولم نخالف الشرع ولم نحكم بغير ما أنزل الله\".

 

فهذا نوع من الضلال والبهتان الذي أدى إليه التفلت من مرجعية السلف، فالأمة أجمعت جيلا بعد جيل على هذه العقوبة، وعلى أن الخروج عنها ضلال، والحكم بغيرها بهتان وكفر وشرك وظلم، لأنه حكم بغير ما أنزل الله؟!

 

* بم توصي الشباب المسلم في هذه الظروف؟

** على الجملة أوصيه بالتركيز على المحكمات في هذه المرحلة، أي على الأشياء التي لا تتغير ولا تتبدل فكتب الفكر مثلا أطروحات بشر، فما فيها من مفاهيم قابل للخطأ وقابل للصواب، لكن نصوص الوحي تمثل الحقيقة المطلقة. وأوصي الشباب في هذه المرحلة أن يتزود بأكبر قدر من القرآن الكريم وأكبر قدر من السنة، لأنه مهما تحولت المفاهيم وتبدلت الأفكار سيظل القرآن هو القرآن والسنة هي السنة، والوقت الذي ينفقه الشاب في حفظ القرآن والسنة لن يندم عليه أبداً، وهذه هي الوصية الأولى.

 

أما الوصية الثانية، فهي أن يبدأ بدراسة الكتب التي تؤصل منهج أهل السنة والجماعة حتى توفر عليه التخبطات. فعلى سبيل المثال، في مجال العقائد هناك كتاب عقيدة المؤمن لأبي بكر الجزائري، فهو كتاب بسيط ولطيف ومكتوب بلغة سهلة وكتب بمنهج سلفي طيب، وكتاب معارج القبول، وكتاب شرح الطحاوية. أما في مجال الفقه فإن كتاب فقه السنة للشيخ سيد سابق كتاب طيب وبسيط، وكذلك كتاب منهاج المسلم لأبي بكر الجزائري.

 

وفي مجال السيرة فهناك سيرة ابن هشام، وهناك مختصرات عليها، وهناك مختصر السيرة لمحمد بن عبد الوهاب. أما في مجال الفكر فأرشح من الكتاب المعاصرين د. يوسف القرضاوي والأستاذ محمد قطب، ولا ننسى في السيرة أيضا المنهج الحركي للسيرة النبوية وكتب الأستاذ سيد قطب.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply