بسم الله الرحمن الرحيم
● عاش المسلمون في البوسنة والهرسك قبل سنوات معاناة شديدة بسبب الحرب الصربية التي اشتعلت ضدهم لسنوات عديدة، فقتلت منهم عشرات الآلاف، وشردت الكثيرين، وخلفت وراءها اليتامى والأرامل والمعاقين، إضافة إلى المقابر الجماعية التي كشفت عن جرائم الإبادة التي كانت ترتكب ضدهم.
وبعد توقف تلك الحرب ووضع البوسنة تحت إشراف المجتمع الدولي، بدأ المسلمون يلتقطون أنفاسهم من جديد، ويعيدون بناء دولتهم ومؤسساتهم.
صحيح أن الصورة تغيرت كثيرا، فاختفت الحرب تماما ولكن بعض آثارها يحتاج إلى جهود كبيرة لإزالتها وترسيخ السلام والأمان والتعايش السلمي في ربوعها.
وهذا ما يلخصه الشيخ مصطفى تسيريتش رئيس مجلس علماء البوسنة ومفتيها العام بقوله: إن البوسنة جرحت كثيرا وتحتاج إلى العلاج، وعلاجها هو السلام.
ويجزم - في حواره مع \"العالم الإسلامي\" خلال زيارته الأخيرة للقاهرة - بأن هناك حاجة ملحة لتكثيف جهود المؤسسات الإسلامية في العالم، وتحقيق تعاونها في مجال التعريف بحقائق الإسلام، وبيان سماحته، وأنه يحارب الإرهاب، ويرفض التطرف والعنف والانحراف الفكري.
ويشدد على أن الغربيين ليسوا جميعا أعداء للإسلام والمسلمين، فهناك كثيرون يدركون أهمية التواصل والتعاون مع المسلمين، وهؤلاء ينبغي على المسلمين أن يتواصلوا معهم، ويدعموا علاقاتهم بهم، ويحولوهم إلى أصدقاء يناصرون قضاياهم في شتى المجالات.
ويؤكد أنه لا بديل عن \"الحوار\" مع الآخر لمواجهة مخاطر الحملة الغربية الحالية على الإسلام والمسلمين، مشيرا إلى أن الأمة الإسلامية أمة حوار ودعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
وأوضح مفتي البوسنة أهمية دور الأمة الإسلامية في توجيه مسار البشرية نحو الحق والعدل والمساواة والتعاون حتى لا تنجرف البشرية نحو الظلم والأنانية واستغلال القوي للضعيف.
وهنا نص الحوار:
>> هل لنا - في البداية - أن نتعرف على أحوالكم في البوسنة والهرسك؟ وهل يمكن القول إن المعاناة التي تلازمت مع فترة الحرب عليكم قد انتهت؟
> في هذه الدنيا.. كل شيء نسبى وليس مطلقا.. وفى البوسنة لا يوجد السلام المطلق، ويوجد السلام بصورة نسبية، بمعنى أن الأحوال حاليا أفضل مما كانت عليه في زمن الحرب.
وهذا يتطلب العمل لزيادة هذه النسبية، بمعنى أن يسود السلام بصورة أكبر وأعظم، فالبوسنة جرحت كثيرا والآن تحتاج إلى علاج، والعلاج هو السلام.
ولذلك لا نستطيع القول: إن مشكلة البوسنة انتهت نهائيا، وفى الوقت نفسه لا يمكننا القول إن مشكلة البوسنة في الوقت الحالي \"حارة\" وإنما \"بردت\" بدرجة كبيرة، ولا تزال هناك حاجة إلى بذل المزيد من الجهود حتى تكون البوسنة دولة للجميع يعيش فيها الناس بمختلف الأديان والثقافات والأعراف في سلام تام.
هذا هو هدفنا.. كما أن من أهدافنا أيضا تحقيق انضمام البوسنة إلى الاتحاد الأوروبي.
مسؤولية الجميع
>> في رأيكم.. مسؤولية من تحقيق تلك الأهداف وفى مقدمتها السلام التام، والتعايش السلمي للجميع والانضمام للاتحاد الأوروبي؟
> الجميع مسئولون عن العمل الجاد لتحقيق ذلك.. كل مواطن في البوسنة مطالب ببذل الجهود المخلصة لتحقيق تلك الأهداف، ولكن المسؤولية الكبرى في هذا المجال تقع على كاهل السلطة السياسية طبعا.
وانتم تعلمون أن البوسنة الآن تحت إشراف المجتمع العالمي.. والبوسنة تسعى لأن تصبح عضوا أو جزءا من حلف شمال الأطلسي، وكذلك تسعى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وندرك أن تحقيق ذلك قد يستغرق سنوات، فالأمر يحتاج إلى بناء اقتصاد قوى، كما يحتاج إلى الأمن السياسي والاستقرار، ودعم الإصلاحات التعليمية في المدارس والجامعات، وغير ذلك.
ونحن ندرك أيضا أن أمامنا مشواراً طويلاً، والحمد لله أننا لسنا في فترة الحرب الآن، وإنما نعيش في سلام، والمحكمة الدولية في \"لاهاي\" تقوم بدورها حتى يحاسب كل مجرم حرب في إطار العدالة.
فلا يخفى على أحد أن إبادات جماعية قد وقعت في بعض المدن والمناطق البوسنية، وقد خلفت الكثير من اليتامى والأرامل والمعاقين.
لدينا مشكلات كثيرة، لكننا لا ننكر أن أوضاعنا الآن أفضل كثيرا من ذي قبل، والحمد لله.
محو أمية المسلم
>> كيف تسير أعمال الدعوة الإسلامية في البوسنة والهرسك في هذه الآونة، أو بالأحرى في مرحلة ما بعد الحرب؟
> الدعوة الإسلامية ليست عملا موسميا، وإنما هي عمل مستمر كل يوم، فأنا داعية في بيتي.. مع زوجتي.. ومع أولادي.. ومع جيراني.. كلنا نحتاج إلى إرشاد.
وهناك الدعوة إلى الخير والتعاون على البناء، وذلك من خلال المساجد، ووسائل الإعلام، ومؤسسات التعليم المختلفة.
وأعمال الدعوة الإسلامية في البوسنة تستهدف نشر الوعي الديني بين الجميع، ذلك أن أكبر عدوّ للمسلمين هو الجهل، ونحن نعلم حقيقة أن الإسلام اهتم في أول آيات القرآن الكريم نزولا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إلى القراءة والعلم، فقال - تعالى -: {اقرَأ بِاسمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}.
إننا نعتبر محاربة الجهل ومحو أمية المسلم نوعا من الجهاد الذي يجب علينا القيام به، لنقل المسلم إلى حالة الوعي والمعرفة الحقيقية بالدين الحنيف، ومن ثم يتمكن من الاطلاع على الإسلام في مصادره الأصلية والصحيحة، ويعرف حقائقه ويتحصن بها في مواجهة التيارات الفكرية المناهضة للإسلام والمسلمين.
وانطلاقا من أهمية التعلم ومحاربة الجهل أدعو المنظمات الإسلامية الكبرى المنتشرة في العالم إلى التعاون في وضع برامج وخطط جادة تستهدف القضاء على الأمية بين المسلمين، ونشر الوعي الصحيح بحقائق الدين الحنيف وغاياته السامية وأهدافه الفاضلة.
حملة غربية
>> تشهد المرحلة الحالية حملة غربية شعواء تحاول تشويه صورة الإسلام والنيل من مكانة المسلمين في العالم.. كيف تنظرون إلى هذه الحملة؟
> للحقيقة.. هناك حملة في الغرب ضد الإسلام والمسلمين.. كما أن هناك كراهية في الشرق ضد العرب.
هناك من ينتجون حملة شعواء في الغرب ضد الإسلام وأهله.. هذا صحيح.. ولكننا فى المقابل لا ينبغي أن ننكر وجود شرقيين يكرهون الغرب.
ولا أعني بذلك التقليل من حجم أو مخاطر الحملة الغربية على الإسلام والمسلمين، فهناك في الغرب من يكرهون الإسلام، ويكرهون المسلمين، بل ويكرهون الآخر بشكل عام.
لقد نظم اليهود في برلين، مؤخرا مؤتمرا حول ما يسمونه\" معاداة السامية\" ونجحوا في حشد ممثلي خمسين دولة للمشاركة فيه.
وأرى أننا في حاجة إلى مثل هذه الأنشطة، بمعنى أن ننظم المؤتمرات، ونتواصل ونتحاور مع الآخر حتى يعرف حقائق الإسلام، وأنه دين سلام وأمن وتعايش إيجابي للجميع، وأنه لا يعادى أحدا، ويحمي حقوق الجميع، ويصون كرامتهم دون أدنى تفرقة بسبب الدين أو الجنس أو اللون أو العرق.
ويمكنني أن أؤكد أن هناك كثيرين في الغرب لا يعادون الإسلام ولا يكرهون المسلمين، وهؤلاء لا يجوز بأي حال من الأحوال أن نصنفهم مع أعداء الإسلام، بل ينبغي أن نتواصل معهم، وان نمد لهم جسور المودّة والتفاهم ونعتبرهم أصدقاءنا، ونحافظ عليهم ولا نخسرهم بوضعهم في نفس سلة أعداء الإسلام والمسلمين.
وأنا أقول للغربيين دائما لا تضيعوا فرص التعاون والتعايش مع المسلمين، لأن المسلمين دعاة أمن وأمان وسلام وتعاون ولا يعادون أحدا.
وأدعوهم إلى قراءة الإسلام والاطلاع عليه في أصوله الصحيحة ليدركوا حقيقة أنه رسالة سلام ومحبة ومودة مع الجميع، وأنه يحارب الإرهاب بشدة، ويرفض التطرف ويدين الانحراف الفكري حتى يضمن سلامة المجتمع ويحمى مصالح الناس.
وأقول للمسلمين - انطلاقا من هذه الحقيقة نفسها - لا يجوز أن تحولوا أصدقاءكم إلى أعداء، وإنما الحكمة تقتضي تحويل الأعداء إلى أصدقاء، وهذا في الحقيقة خلق إسلامي تحدث عنه القرآن الكريم في قوله - تعالى -:
{ادفَع بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيُّ حَمِيم}.
وينبغي أن يتعلم المسلمون كيفية صناعة الأصدقاء، وينبغي أيضا أن يدرك المسلمون أن الغرب فيه الصالح والطالح، وفيه الخير والشر، وفيه الحسن والسيئ، ومن ثم لا يجوز التعميم في الأحكام، وإنما ينبغي التفريق بين الصالح والطالح، وأن نتواصل مع الصالح ونتعاون معه لمقاومة الطالح ومحاصرة شروره ومخاطره.
وأنا دائما أؤكد أنه لن يرث الأرض المعتدى أو المتطرف، ولن يرثها مستضعف، وإنما سيرثها المتعاون على البر والتقوى، والمسلمون أهل لذلك.
وأعتقد أنه في ظل هذه المرحلة الحرجة التي يعيشها العالم لا بديل لنا عن \"الحوار\" للتواصل والتفاهم مع الآخر لإيصال حقائق الإسلام السمحة إلى الآخرين.
أمة حوار
>> أكدتم أهمية \"الحوار\" مع الآخر لبيان حقائق الإسلام وتأكيد سماحته وأنه لا يعادى أحدا.. فهل تعتقدون أن الأمة الإسلامية تملك حاليا مقومات نجاح الحوار مع الآخر؟
> الأمة الإسلامية أمة حوار ودعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والتي هي أحسن.
وأمتنا عليها مسؤولية عظيمة تجاه البشرية بما تملكه من قيم إسلامية عظيمة تحتاج إليها البشرية، وفى مقدمتها العدل والمساواة والحرية والحق.
ولا شك في أن عدم وفاء الأمة الإسلامية بدورها المنشود في تصحيح مسار البشرية نحو الحق والعدل والخير والفضيلة من شأنه أن يلحق أضراراً جسيمة بالبشرية.
كما أن محاولات البعض لمنع المسلمين أداء هذا الدور السامي لصالح البشرية يعني حرمان الناس من تلك القيم، وإفساح المجال أمام الظلم، والأنانية والاستغلال لتسود وتنتشر في حياة الناس.
ومن هنا تبرز أهمية الحوار الإسلامي مع الغير تحقيقا للتعاون على البر والتقوى، ومنعا للظلم والاستغلال.
إن الحوار في الحقيقة يمثل فرصة عظيمة للمسلمين لتعريف الغير بحقائق الإسلام، وسماحته، وتصحيح المفاهيم المغلوطة، والأفكار الخاطئة عن الإسلام والمسلمين.
وينبغي أن يعد المسلمون للحوار إعدادا جيدا حتى ينجحوا في التفاهم مع الآخرين والتواصل معهم وحماية مصالحهم في شتى المجالات.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد