د. المجدوب : ثورة يوليو أفسدت الجامعات ونشرت فيها الجاسوسية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

د. أحمد المجدوب خبير الجريمة وعلم الإجرام بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية وأستاذ علم الإجرام في عدد من الجامعات المصرية والعربية، اسم بارز على المستوى العربي والدولي في هذا المجال، ونحن من خلال هذه السطور نحاول أن نقترب من هذه الشخصية لتتحدث عن نفسها وعن المجتمع والناس ومشكلاتهم، مع التركيز على الأمور الاجتماعية والجنائية وهي التخصص الرئيسي لضيفنا.

 

* يشكو الكثير من الآباء من أنهم لم يعودوا قادرين على تربية أبنائهم كما تربوا هم، ما سبب ذلك من وجهة نظر الدراسات الاجتماعية؟

 

** العالم يتغير في المفاهيم والرؤى والثقافة، ومنتجات الحضارة الغربية التي نعيش في ظلالها الآن تختزل القيم الغربية وتزرعها في نفوس أبنائنا، كما أصبحت قدرتنا أقل في تلقين الأبناء نمط القيم الذي نريده لأن الظروف في المدرسة والشارع والتلفزيون لا تساعدنا. لكن لا يزال الرهان الرئيسي على الأب والأم والأسرة، وما لم تقم الأسرة بدورها على أكمل وجه في التربية، فالمستقبل مظلم.

وبمقارنة بين جيلي وهذا الجيل الصغير الذي نشاهده، أشعر بالشفقة على هذا الجيل الجديد، فأنا مثلاً تركت أمي بصمات واضحة على شخصيتي بالنسبة لالتزامي الأخلاقي وتعليمي معنى الحلال والحرام والخوف من الله، وأنا أتصور أن دور الأم دائما في التربية هو الأساس.

أما والدي فقد تعلمت منه الإصرار وقوة الإرادة وتحمل المعاناة في سبيل الوصول إلى الهدف ورفض الحرام مهما كان - خاصة بالنسبة للرزق -. وكان والدي خريج مدارس أجنبية في بور سعيد مما مكنه من العمل مع الإنجليز حيث تعاقد مع القوات البريطانية في منطقة القناة على توريد جميع احتياجاتهم الغذائية، وكان هذا يدر عليه أرباحا كبيرة. ونتيجة للأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت العالم قبل الحرب العالمية الثانية والتي امتدت آثارها إلى الشركات الأجنبية في مصر أفلس أبي وبدأ مشواره دون أن يمد يده لمخلوق وهذا شيء هام تعلمته منه. فقد ابتكر لنفسه وظيفة جديدة وهي وظيفة مدرس لأبناء الأجانب في بور سعيد يعلمهم اللغة العربية لأنه كان يجيد الإنجليزية والفرنسية والإيطالية.

تعلمت منه في هذه الفترة عدم اليأس والكفاح، لكن والدي كان علمانيا بالمعنى المعروف ويرى أن الدين علاقة فقط بين العبد وربه ولا دخل له بشئون الحياة، وكان يصلي الصبح فقط ولا يواظب على الصلاة باقي اليوم، وكان مؤمنا بالثقافة الغربية إيمانا كاملاً.

أما مسألة الغيرة على الدين والشخصية القومية فقد أخذتها عن أمي لأنها كانت متدينة ومن عائلة متدينة وكانت جدتي لوالدتي أمية لا تقرأ ولا تكتب ولكنها كانت تحفظ القرآن. وآمنت من صغري أن هؤلاء بركة..فحينما كنت أمرض كانت أمي تحملني إلى جدتي فتضع يدها على جبهتي وتقرأ القرآن وتأخذني في حضنها وأنام فأقوم سليما معافى ألعب مع الأطفال.لقد كان الله - تعالى -يضع البركة في هؤلاء الناس لأنهم أطهار فجدتي وأمي لم يريا الرجال ولم يرهما الرجال.وكانت والدتي محجبة متدينة علمتني الصلاة ولم يكن ينكشف شعرها حتى على أبنائها وليس مثل هذه الأيام حيث يرى الابن أمه بنصف الملابس. وطوال عمري لم أسمع لفظا جارحا في بيتنا، وفي مرة أثناء خروجي من المنزل سمعت مشاجرة في بيت الجيران وعندما جئت أحكي لأمي عنها لطمتني على وجهي قبل أن أكمل وقالت لا شأن لك بالناس. فعلمتني أمي معنى الحلال والحرام ومعنى الصواب والخطأ.

 

 

 

* هل ترى أن مدارسنا تقوم بدورها في تربية أبنائنا؟

** سأحاول أن أضرب مثالاً بنفسي في هذه القضية، فقد ألحقني أبي بمدارس الفرير الفرنسية الشهيرة، لأنه كان خريج مدارس أجنبية وكان مؤمنا ومحبا للثقافة الغربية، وكانت بورسعيد في ذلك الوقت بها جالية أجنبية كبيرة جدا أكثر من نصف المدينة. وأثناء وجودي في الفرير وجدت وضعا مختلفا لدرجة أنني كنت أحزن حينما تأتي الإجازة الصيفية وأبكي… فكانوا يعلموننا تعليما حقيقيا ويقدمون لنا الإغراءات كي نحب المدرسة، وإنصافا لهم فقد علموني كثيرا من الفضائل الأخلاقية مثل أن أقول الحق وإن كنت سأتعرض للإيذاء، وأن لا أكذب، وأن أحاور الآخرين ويكون لدي شخصية قوية وثقة في نفسي حتى لو أخطأت. وكانت طريقة التدريس أن المدرس يكتب الجملة على السبورة ويتركها ناقصة ثم يسأل كلاً منا رأيه كيف يكمل الجملة، والتلميذ يتلجلج فيقول له الأستاذ قل أي شيء ولا تخف، وكانوا لا يقهروننا.

وكانوا في المدرسة يحببوننا في الكنيسة... فالمنظر مفرح... حيث الألوان والشموع والزجاج الملون والصور والموسيقى والغناء ويوم الأحد نمشي في طابور ونغني، وكانوا يعلموننا الصلاة على الطريقة المسيحية، وذات مرة حينما صعدت إلى السرير صليت صلاتهم فرأتني أمي، فأصابها زلزال وأصرت على ألا أدخل الكنيسة ولا أصلي ولا أفعل مثلما يتعلمون ولو أدى الأمر إلى عدم ذهابي للمدرسة.

وكان والدي يرى أن الأمر ليس خطيرا، وأذعن أبي أخيرا وفرض على المدرسة ذلك. فكنت يوم الأحد أظل وحيدا وكانوا هم خبثاء فيشعرونني بالدونية وأنني منبوذ، وكانت أمي تهون عليّ الأمر وتقول لي إننا نعبد ربا واحد فقط أما هم فيعبدون ثلاثة آلهة معا، ونحن نقرأ القرآن ونصلي وهم لا يفعلون ذلك، فضلا عن أنهم يأكلون الخنزير ويشربون الخمر... وظلت أمي تغرس في نفسي هذه الأشياء حتى جعلت مني على عكس المصريين الذين يشعرون بالدونية أمام الأجانب... شديد الاعتزام بنفسي.

من هذا السرد يتضح أن مدارسنا، بالمقارنة مع المدارس العالمية، ينقصها الكثير، وهي تتبع سياسات تربوية خاطئة، وتقوم على التلقين، وعلى قهر الطالب، ووأد شخصيته، وجعله إنساناً خائفاً مرتبكاً.

 

* هل اختلفت الجامعة الآن عما كانت عليه أثناء دراستك؟

** في الجامعة بكلية الحقوق كان هناك علماء كبار وكان فيه علم وأخلاق وقيم والتزام. لكن للأسف كان عبد الناصر قد بدأ يستقطب أساتذة الجامعة كي يعملوا لحسابه وأدخل الصراع من أجل الوزارة بينهم حتى أصبح بعضهم جواسيسا على بعض كي يفوزا بالمناصب والمغانم.

 في الجامعة تأثرت بأستاذي د. محمود مصطفى أستاذ القانون الجنائي وقد عرضت عليه الوزارة ورفض وقال إن منصبي أفضل من أية وزارة فأنا هنا أعلم الناس الأخلاق والعلم. وكذلك تأثر بالشيخ محمد أبو زهرة. وكانت محاضرته عبارة عن وقت مفيد جدا نتعلم فيها فضلا عن الدين، العلم والأخلاق والثقافة والالتزام.

* هل يمكن أن نتحدث عن دور للعلماء المسلمين في تفسير الجريمة؟ وكيف استطعت توظيف تخصصك في علم الإجرام لخدمة الإسلام وقضايا المسلمين؟

** عملت في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية وأعددت رسالتي الماجستير والدكتوراه وحاولت استخلاص نظريات عن الجريمة من الشريعة الإسلامية.

وكانت أول تجربة لي حينما ذهبت إلى جامعة أسيوط لأدرس علم الإجرام. ووجدت أننا تعودنا أن ندرس لأبنائنا أن الغرب هو الذي فعل كل شيء في العلوم والحضارة وننسى إسهامات المسلمين. فأعددت أول كتاب في علم الإجرام الإسلامي وأسميته \'الظاهرة الإجرامية بين الشريعة الإسلامية والفكر الوضعي\' وكان أول مرة يسمع الطالب في كلية الحقوق عن أسماء علماء المسلمين الذي تصدوا لتفسير الجريمة وصنفتهم إلى مارس في مقابل المدارس الغربية وقلت أن هؤلاء العلماء المسلمون سبقوا في علم الجريمة كما سبق ابن خلدون في وضع علم الاجتماع. وركزت على أننا يجب أن نعيد قراءة هذا التراث العظيم وأن نستخلص منه النظريات فالغرب فعل ذلك مع التراث اليوناني أما نحن فنترك تراثنا للغرب يستفيد منه أكثر منا. وثاني كتاب أصدرته كان عن \'المرأة والجريمة\' وكان أول كتاب يتناول علاقة المرأة بالجريمة. ثم توقفت فترة عن إصدار الكتب واتجهت إلى توصيل فكري للناس عن طريق المقالات فنشرت سلسلة مقالات عن \'نظريات في الفكر الجنائي الإسلامي\' في المجلات الإسلامية حيث بدأت أستخلص هذه النظريات. وفي مجال تخصصي الأصلي وهو القانون الجنائي شاركت في مؤتمرات كثيرة منها ما هو محلي ومنها ما هو إقليمي ودولي وقدمت فيها أبحاثا ودراسات جديدة مثل \'الهجرة الداخلية وعلاقتها بالجريمة\'. و \'الجريمة بين العائدين\' و \'ظاهرة هروب الأبناء من الأسرة\'. و \'الرعاية اللاحقة\' و \'قواعد الحد الأدنى في معاملة المسجونين\' وهي حوالي عشرون دراسة ميدانية فضلا عن الدراسات المكتبية وهي لا تكاد تعد.

واستأنفت بعد ذلك رحلة نشر الكتب ولم أحصر نفسي في تخصص ضيق فنشرت كتاب عن \'أهل الكهف في التوراة والإنجيل والقرآن\'. وأعقبته بكتاب \'العادات الجنسية لدى المجتمعات الغربية\' دفاعا عن المسلمين والإسلام الذي يتهمه الغرب أنه دين الشهوة الذي يشجع على الجنس وواجهت الغرب بحقائقه منذ أن وجد على ظهر الأرض في أنهم يستغلون جسم الأنثى حتى في التجارة.

وبعد ذلك نشرت كتابي \'ظاهرة اغتصاب الإناث في المجتمعات القديمة والمعاصرة\' وهو أول كتاب يضع تفسر اجتماعي نفسي لظاهرة الاغتصاب وتاريخها وبعد ذلك أصدرت كتاب \'التكافل الاجتماعي في الإسلام ودوره في مكافحة الجريمة\'.

 

* باعتبارك خبيراً في الدراسات الاجتماعية، ما هي أسباب المشكلات العائلية في مجتمعاتنا العربية؟

** أسباب المشكلات العائلية كثيرة ومتعددة، بعضها يعود إلى ضيق ذات اليد وعدم وجود دخل مادي كافي، وهذا السبب يفقد آثاره السلبية إذا كان هناك توافق نفسي ووجداني وثقافي بين الزوجين، وإذا كانت الثقة موجودة ومتبادلة.

وتحدث هذه المشكلات إذا أساء كل طرف القيام بدوره على الوجه الصحيح، أو انعدمت الثقة والقبول لكل من الطرفين.

وقد يكون السبب هو المعاملة السيئة من الزوج لزوجته، أو لعدم إنفاقه بشكل كاف على الأسرة. وقد يكون السبب هو إصابة الزوجة بما يسمى \'عقدة الأنوثة\'، فصاحبة هذه العقدة لا تعتني بأنوثتها من أجل زوجها، كما لا تعترف بقوامة الزوج وحقه الطبيعي في قيادة الأسرة، بل وتشعر دائما أنه يستضعفها ويمارس رجولته عليها، فتنفر منه وتحاول إثبات وجودها وكيانها ونديتها له، فتجلب بذلك على نفسها مشاكل عادة ما تحسم في النهاية لصالح الزوج.

ونحن نعترف أن وجود مشاكل في كل منزل هو أمر طبيعي، لكن هناك عددا كبيرا من الزوجات ينظرن إلى وقوع أي خلاف مهما كان صغيرا على أنه كارثة، وهي بذلك تضخم المشكلة دون أن تدري، لتثبت لنفسها ولزوجها أن موقفها \'صحيح\' وأن موقفه \'خطأ\'.

 

* ما هي أسباب ارتفاع معدلات الطلاق في البلاد العربية؟

** هناك أسباب اجتماعية واقتصادية وثقافية تتفاعل معاً في المجتمع كي تؤدي للطلاق، فالتغير الاجتماعي الذي صاحب التحولات الاقتصادية مثلاً في ربع القرن الأخير ضاعف من حالات الطلاق، وأدى إلي سرعة وقوعه أيضاً في كثير من الأحوال، فالظروف الحديثة مثل الاختلاط الزائد وتحرر الفتيات وسيطرة المادة وتراجع القيم الاجتماعية التقليدية عن إطار الزواج، كل هذه الأسباب لها دور في أن أصبح الزواج مجرد عملية اقتصادية أكثر منه عملية اجتماعية، وهذا يؤدي لعدم استقرار المجتمع. كما أن التغيرات الاجتماعية تمثلت في زيادة فرص عمل المرأة، وظهور دعاوى المساواة الكاملة والمطلقة بين الرجل والمرأة، وما فيها من تطرف فهو يناصب مبدأ القوامة للرجل العداء، وظهرت المطالبة بما يسمى حقوق المرأة، مما جعل العلاقة المستقرة في الغالب تعاني من الاضطراب والخلل، وهذه التغيرات لم يصاحبها توعية كافية للفتيات بالكيفية المرادة للحصول على حقوقها، ولم يتم توعيتها من أجل الإبقاء على الأسرة والزواج مع أخذ حقوقها بحيث لا تشذ عن الأوضاع الفطرية والطبيعية، فالدعاوى البراقة كثيراً ما تخدع المرأة وتجعلها تتنازل في مقابل حقوقها المزعومة عن أسرتها واستقرارها، فحدث تغير أدوار داخل الأسرة، فحتى الثلاثين عاماً الماضية كان الزوج يقود الأسرة بسلام وهدوء بدون دعاوى وشعارات، لكن مع مساهمة المرأة في الإنفاق على الأسرة جعلها تطالب بالمساواة، وقد تصدر القرارات الأسرية من منطلق أنها تساهم مثله في نفقات المنزل لأن المرأة في هذه الحالة تستقوي على زوجها وتطالب بالطلاق عند أي خلاف.

 

* ماذا تقول الدراسات الاجتماعية في سلبية شعوبنا العربية من الرد على اغتصاب حقوقها السياسية وسلب إرادتها؟

** من الطبيعي والمنطقي في العالم الثالث ذي النظم الشمولية ألا يستمع الحكام إلى صوت الشعوب لسبب بسيط هو أن هذه الشعوب لم تأت بهم إلى الحكم أو السلطة وإنما فرضوا أنفسهم على الشعوب، ولهذا فهم لا يدينون لهذا الشعب بشيء، فمن الطبيعي إذن أن يشعر الحاكم في دول العالم الثالث بالإلوهية لأنه اعتاد، بفضل ضعاف النفوس أن يقول يأمر فيطاع. وهو ما يشعرهم بالغرور وبالتالي يصفون أي صوت آخر يخرج من أي فئة من الشعب بأنه جحود وكفر بالزعامة، وأن هذه الفئة جديرة بالعقاب. وهذا لا يحدث مطلقا في الدول الديمقراطية، فدائما تكون هناك رقابة علي الحاكم الذي يعلم أن بقاءه مرهون بالاستماع لرأي الشعب الذي انتخبه، أما في الدول العربية فقد جاء الحكام إما بالانقلابات العسكرية أو بالتزوير لإرادة الشعب حتى إن الوزراء الذين يأتون لا يدينون بالولاء للشعب وإنما يدينون للحاكم فهو الذي أتي بهم إلى الوزارة وهو القادر علي عزلهم، لهذا لا يعنيهم الشعب وسماع ما يقول وإنما يعنيهم الحاكم وقراراته واجبة التنفيذ.

إن الحكام في العالم الثالث يعاملون المسئولين باستعلاء فما بالنا بمعاملتهم لشعوبهم!! فقد أفرزت هذه الأنظمة شعوبا تعودت على العبودية والخوف والذل. وأفرزت هذه الأنظمة فئة المحيطين الذين يقررون ما يريده الحاكم فقط، وما يحب أن يسمعه، وفي سبيل ذلك يحققون مصالحهم الشخصية، والحكام هم السبب في ذلك لأنهم يأتون بمن يقدم فروض الطاعة والولاء.

كما أفرزت هذه الأنظمة الخوف داخل المسئولين الذين يخافون من رأس الذئب الطائر فلا يقولون ولا يفعلون إلا ما يرضي الحكام، والخوف أيضا في قلوب الشعوب مما يبشر بأن ما يقال أن التجربة الديمقراطية لن تنجح في بلادنا طالما زرع الخوف في قلوبنا.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply