حول دور العلم والانفتاح في الفكر الإسلامي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 يبدو أن المراكز الإسلامية المتقدمة المتفتحة، رغم أنها تريد الإفادة من العلم، إلا أنها تبدأ سيرها بالتأكيد على أنه في مجال المنهج الأساسي أو النظام الأساسي فإنها تستمد من الشريعة المنزلة. وهي لذلك تُحذّرُ من التهاون في هذا الأمر خشية أن تصبح مراكز علمانية مادية، فيضيع بذلك هدفها الأصلي وهو تحقيق حياة إسلامية صافية. ويتركز مثل هذا الطرح في أن بإمكاننا أن نقتبس من غيرنا على مستويات أدنى من المنهج الأساسي، أي على مستوى التنزيلات والتطبيقات، فهنا لا حرج في أن تقتبس الحضارات بعضها من بعض، ولكن بعد أن ينتبه أمناء الحضارة - كما ذكرنا - على المحافظة على الهوية الأساسية للأمةº لأن هذا هو مبرر وجودها، وهو أيضا طريق الخلاص في الدنيا والآخرة.

 

 والغرض من هذا المقال هو مناقشة بضع ملاحظات تتعلق بمثل ذلك المنهج:

1. هل علينا أن نكون خارج العالم أم داخله؟

 ربما على من يحاول رسم ذلك المنهج أن يتأمل قليلا كم بإمكانه أن يكون متميزا فعلا، وكم عليه أن يكون متميزا قبل ذلك. نستطيع بالطبع أن نكون أبعد ما يكون عن الحضارة السائدة، وهناك الكثيرون ممن يسرهم أن يؤكدوا على نفورهم من تلك الحضارة، سعيا منهم إلى التميز والأصالة. ولكن من يفعل ذلك لا يفيد أمته - في رأيي - وإنما يزيد من تهميشها وبقائها في نهاية ركب البشر.

 

 إن من الخطأ الكبير أن ننسى أننا كلما أخفقنا في أن نخاطب العالم بلغة مفهومة لديه فإنه سيبقى يتحرك دون أن يأخذ رأينا، وسيبقى يجرّنا وراءه سواء أردنا ذلك أم أبيناه. إن ضخامة وأهمية الحاجة أن ندخل في عالم جديد تُقدَّمُ إلى أمتنا على أنها خيانة. فنبقى في نفس تفكير الآباء الذي ورثناه، وكأن هذا نهاية التفكير. هذا مع أن القرآن الكريم يدعونا - من ناحية - إلى أن لا نبقى متقيدين محصورين بما كان سائدا من تفكير من قبلنا، ويدعونا - من ناحية أخرى - إلى أن لا ننبذ ما هو سائد في أمم أخرى على أنه دوما باطل، وبذلك فإنه يدعونا إلى الحكم بالقسط والشهادة بالحق على القريب والبعيد {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} (النساء:135)، {وإذا قلتم فاعدلوا} (الأنعام:152)، {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى} (المائدة:8)، {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} (الأعراف:85). إنه لا فائدة في التعالي على الناس إلا أن نبقى هامشيين وعالة على الناس..

 

 إن هناك على العموم طريقتين في التفكير لإيجاد منهج إسلامي: طريقة إغفال ما في العالم وكتابة المنهج وكأن العالم غير موجود، وطريقة فهم ما في العالم حتى نكون أكثر الناس فهما وأقدر الناس على أخذ الصواب ونبذ الخطأ، ومعنا الكتاب والسنة نستهدي بهديهما. ومع أن أي مسلم عاقل سيختار الطريق الثاني على أنه أقرب للصواب، إلا أنني أشعر - من الناحية الواقعية - أن إغفال ما في العالم والمسارعة إلى إدانته لا يزال هو الذي يُشعرُ أكثر المسلمين بالأمان والنجاة. والذي أريد أن أؤكد عليه - في هذا المجال - أن ارتفاعنا إلى أعلى مستوىً مما هو متوافر من المعرفة البشرية أمر أساسي حتى يستحق كلامنا أن يكسب الاحترام بين ناشئتنا وفي أعين الآخرين. فليرتفع مثقفونا إلى المستوى العلمي اللائق، ثم ليقولوا ما يريدون ولو كان يخالف ما يقوله غيرهم إلى أقصى الحدود، ذلك أن من له قيمة في أي مكان من هذا العالم لا تكون قيمته - ابتداءً - بأن يردد ما يقوله غيره. إلا أن الحقيقة تقول أنه لم يعد يمكن الآن مخاطبة العالم بدون علم متين. ولا يفوتني - في هذا الموضع بالذات - أن أعيد التأكيد على أنه لا فائدة في أن نقلل من فهمنا للقرآن والسنة والتراث بينما نحاول متابعة المعرفة المنتشرة في العالم، لأن كل ما نحققه حينئذ هو أن ننتقل من عرَجٍ, باليسار إلى عرجٍ, باليمين.

 

 إنه ليس هناك ما يمنع أن يكون إنسانٌ من عالمنا أكثر أصالةً وفهما من مفكري العالم في الغرب والشرق، فهذا ممكن نظريا. ولكن هذا الأمر ليس هو الذي يحدث غالبا في هذه القرون الأخيرة. وعوضا عن ذلك، فإن المفكر فينا لا يتهيأ بما يكفي من العلم ليشق طريقاً لم يُسبَق إليه، وإنما يتحدث بكلامٍ, يروق لعموم المسلمين، ويُشعرهم بالتعويض عن موقعهم الهامشي التبعي. وكثيرا ما نُدخل السرور في قلوب الناس من حولنا بأن نُظهر لهم أننا مختلفون أشد الاختلاف عن الآخرين، وأن هؤلاء الآخرين يكادون يوشكون على الانهيار، وكأن هذا هو أملنا حتى يعود لنا مكاننا في العالم.

 

 والحقيقة أن هذا المريض، هذا المسلم المنبوذ، لا يفيده أن نخفي عنه الدواء، وهذا الدواء ليس سهلاً ولا سريعاً، لأن تغيرنا من عاجزين عالة إلى فاعلين هو نقلة بعيدة جدا. ولكن الله - تعالى - ييسر الطريق متى عُرفت التركيبات الصحيحة. ولذلك فإننا نحتاج إلى مفكرين وباحثين أكثر عددا وأعلى نوعية مما هو موجود اليوم. ورغم أنه مرّ بنا رجال ومفكرون لا بأس بحجمهم من أمثال مالك وإقبال وجودت، إلا أن نقلتنا تحتاج إلى ألوف من الشباب المقبلين على هضم ما في العالم، وإلا بقوا يتحدثون بلغة تناسب عصرا آخر وعالما آخر. إننا نتفق جميعا على أن التفكر في القرآن والسنة والتراث ضروري ضرورة الأكسجين للحياة، ولكننا نعلم أنه {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} (إبراهيم:4). ولذلك فلا بد لمن يريد أن يتحدث إلى الناس أن يكون قد فهم وهضم الكثير من الكتب التي تنشر في العالم عن شؤونه وشجونه، وأن تصبح لغة أمثال تلك الكتب والبحوث واضحة بديهية حتى يكون في قمة التفكير المتاح في العالم، وليس هذا بطبيعة الحال تبعية وعبودية لغيرنا، بل إنه - في رأيي - لا يحررنا غير ذلك من قيود التبعية والعبودية.

 

 إنني أود أن يلاحظ شبابنا المثقفون أن أمام من يكتبون عن المنهج الإسلامي أحد خيارين: فإما أن يكون جلّ همهم أن يخالفوا ما في العالم، فيكون ما يكتبون غير مناسب للعالم المعاصر، أو أن يحاول أحدهم أن يعيش عصره حقا، فيكون بحاجة إلى أن تكون عينه على ما أُنجز في العالم بمقدار لا يقل عما يفهم من الكتاب والسنة والتراث. وهكذا نرى الشيخ الغزالي - رحمه الله - إذا وصف الشورى في ذلك الكتيب الصغير\"أزمة الشورى في البلاد الإسلامية\"فإنه يصف شيئا لا يختلف عن الديمقراطية، وإذا وصف أحدهم شؤون المرأة باذلا جهده أن يكون كلامه مناسبا لهذا العصر، فإنه يأخذ كثيرا من منجزات النساء والرجال من خارج العالم الإسلامي، وهكذا في حقوق الإنسان، وهكذا في تغير معنى قتل المرتد. وهناك اتجاه واضح للتخلي عن مفهوم: إما الإسلام أو الجزية أو الحرب، فكل مفكر له وزن صار يفكر اليوم بأن الطريقة إلى خطاب الأمم بالإسلام ليس بأن نهددها بشن الحرب عليها. إن هناك مئات من التغييرات في تفكيرنا تحدث على الدوام، وليس المقصود من هذا الكلام أن ننظر نظرة دونيةً إلى أنفسنا، فقد كنا فوق، وكان غيرنا أدنى منا، وبعد جيل أو جيلين ستكون أحوالنا غير ما هي عليه الآن. وواجب أمثالنا أن نزيل ما يمكن من عقبات في الطريق، لأننا سنبقى في عقدتنا طالما نحن لا نشاطر العالم نشاطه العلمي.

 

 إن مصير العالم يرسمه منذ خمسة قرون أناس غير مسلمين وشعوب غير مسلمة. وقد اجتهدوا وعملوا وسيطروا وأنجزوا، وقد ملؤوا حياتنا من كل الجهات، ولهذا فإن من غير الممكن أن ن- تعالى - على ما هو موجود. وإن منهجا لا يأخذ في حسابه ما صار متوافرا من معرفة منهجٌ لا يستحق الحياة. وبالطبع فإنه لا حاجة كذلك إلى أن نكون عاجزين متلقفين ببلاهة، فقد تجاوزت أمم أخرى - مثل دول جنوب شرق آسيا - هذه الحاجة للأخذ السلبي. بل إن هناك أفرادا مسلمين صار لهم فهم ومساهمة وتفكير، ولكن لم يتحرك التيار ولم تدر العجلة على مستوى واضح للعيان حتى الآن.

 

 ولا يعني هذا الكلام أن ما في العالم الآن هو النهاية، فهو عالم مليء بالعيوب كذلك. فقد قال المؤرخ البريطاني \"توينبي\" مثلا أن العصر الحديث انتكس إلى خلف العصور الوسطى في قضية التعصب، فقد كانت أوربا في القرون الوسطى متعصبة على أساس الدين، وهذا أعلى - على المستوى الأخلاقي - من التعصب على أساس العرق واللون، وبينما لم يكن الأوربي الأبيض المسيحي يتكبر على الإفريقي المسيحي في العصور الوسطى، صار الآن العرق والمنطقة الجغرافية مجال التعصب. والخلاصة هنا هي أنه لا أمل حتى لأذكى الأذكياء أن يتجاوز الواقع إلا بخطوة صغيرة.

 

2. ليس أحدنا إلا مرحلة على الطريق:

 حينما يحاول المرء أن يستخلص من الكتاب والسنة، فإن ما يصل إليه هو نظرته الخاصة إلى القرآن والسنة. كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأحد أمرائه ما معناه: إذا سألك أهل الحصن أن ينزلوا على حكم الله ورسوله، فلا تنزلهم على حكم الله ورسوله، وأنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري تصيب فيهم حكم الله ورسوله أم لا. فأن تخطيء في حكمك ويُنسب الخطأ إليك أفضل من أن يُنسب الخطأ إلى الكتاب والسنة. وهكذا، عندما تدخل الآيات والأحاديث في عقلنا يحدث لها عمليات ترتيب وانتقاء وفهم، وتُعطى أوزاناً ترفع من هذا المعنى، وتُنزل من ذاك، بأشكال لا حصر لها. ولا يمكن فهم هذه العملية إلا من خلال علوم عديدة مثل الفلسفة وعلم نفس اللغة والسيميائية وغيرها. وهذه عملية كبرى حقاً، وهناك متعة كبرى في كشفها.

 

 إنه ليس من قصد القرآن أن يكون معناه نهائيا لكل العقولº لأنه وُجد لكل الأمم ولكل العصور. ولذلك فإن من المهم أن نلاحظ أننا لا نجد منهجا أساسيا في الكتاب والسنة إلا بحسب تركيبنا العقلي والمعرفي. وأنا شخصياً أعتقد أن القرآن والسنة لا يمنحاننا من كنوزهما إلا بمقدار اتساع فهمنا لآيات الآفاق والأنفس. وحين يمسك أحدنا بالكتاب والسنة ليرسم منهجا إسلاميا فإنه لا يأتي خالي العقل. إن عقله ليس إناء خاليا يملؤه من الكتاب والسنة، فهذا أمر ليس له وجود. ولذلك فإنني أجد من الخطأ أن يحاول أحد حينما يرسم خطه الأساسي اعتمادا على الكتاب والسنة، أن يحاول الفرار من الحضارات الأخرى أو العلوم الأخرى ظنا أن هذا سيجعل خطته صافية. بل إنه كلما كان أغنى عقلاً بالحقائق المتوفرة في عصره، جاء منهجه أقرب إلى الصواب والتمكن. فالعقل الإسلامي الصافي، بمعنى العقل المُستغني عن فهم العلم المتوفر في العالم هو أضعف العقول وليس أصفاها. إن ما نراه في الكتاب والسنة هو في الحقيقة انطباع لما نحمله نحن من تصورات حينما نُمسك بالكتاب والسنة. ولذلك فإن على راسم كل منهج أن يتذكر هذه الحقائق، وأن يتواضع ويعلم أنه مرحلة على الطريق.

 

3. السؤال الأول هو مقدار مساهمتنا العلمية:

 إن رسم منهج هو أمر تقريبي جداً على كل حال. إنه يعتمد على معلومات كثيرة تحصل بأيدينا بعد أن نساهم في صنع العالم وليس قبل ذلك. فليس للذين لا يساهمون في صنع العالم مشكلة إلا مشكلة خمولهم. وإن أعظم منهج نضعه لهذه المرحلة هو أن نقذف أعدادا لانهاية لها من الشباب في المجالات العلمية بكل قوة، وخاصة في مجال العلوم المتصلة بالإنسان والمجتمع. إن هذا الشباب الفاتر الهمة من حولنا لا يفيدنا في شيء، فهو يدخل في البحث دون إيمان بقيمة عمله، فيخرج كما دخل، بل ربما أسوأ مما دخل، لأنه حمل مقداراً من الغرور بأنه علم شيئا، فتوقف عن طلب المعرفة. فتغيّرنا رهينٌ في النهاية بعدد ونوعية المتخصصين. إننا نحتاج إلى ألف مفكر كبير، فنجد مفكراً أو اثنين لا بأس بهما، وإننا نحتاج إلى سيل من المتخصصين في المجالات الإنسانية والاجتماعية ممن لهم براعة وقدرة على الإبداع والمنافسة، فنجد عُشر العدد المطلوب ومن نوعيةٍ, أقل مما يجب، وكل هذا يفسر ضعف تحركنا. ومن هنا، فإن كل منهج يقرّبنا من مسابقة الأمم في الهمة العلمية والبحث هو منهج ناجح، وكل منهج يضعف من همتنا ويضع المخاوف في طريق الباحثين هو منهج فاشل.

 

4. لا يحمينا إلا مقدار علمنا:

 إن محاولة وضع منهج بقصد الحماية لا يحمي المسلمين من الذوبان أمام غيرهم، ولا يحميهم تصميمهم على الاستقلال، ولا يحميهم زيادة التقوى والتعهد بالبعد عن طرائق الآخرين (دون أن يقلل هذا من أهمية العزم والتصميم والتقوى) وإنما يحميهم أن يكونوا أمام غيرهم على مستوى جيد من العلم يوازي من يقفون أمامه من أمم الأرض، بحيث يضطر من يسمعهم إلى أن يحترم معرفتهم ولو خالفهم أو حتى كرههم. إن هذا هو الذي يحمينا من احتقار ناشئتنا لنا واتجاههم إلى غيرنا. إن كراهيتنا أمريكا أو إعجابنا بها لا يحمينا ولا يحمي منهجنا. وليس موقفنا من هذه الأمم القوية موضوعا مهماً، لأننا سنكون تبعا لها بمقدار ما نأكل على مائدتها في جميع الأحوال.

 

 إن ظهور عقل كبير واحد أو اثنين في العالم الإسلامي لا يحمينا، فأنت ترى كيف أن إقبالاً أو مالك بن نبي يمضي الواحد منهم ولا يظهر خلفه تيار حتى يكون هناك عِلمٌ قوي في الأمة. وإن المرء ليتساءل: كم عدد المشتغلين في أمتنا بالعلوم الإنسانية والاجتماعية؟ وكم من هؤلاء لهم منافسة جيدة وآراء تستحق الاحترام بين الأمم؟ وكم من \"محمد الغزالي\" لدينا، وكم لدينا ممن هو أكبر منه؟ إن بضعة نابغين لا يحملون أمةً بهذه الضخامة، وهنا مكان العمل ومكان العزة والتوازن وأخذ المكانة بين البشر. فمهما كانت اتجاهاتنا نحو اليمين ونحو الشمال، ومهما حاولنا الابتعاد عن أمم معينة، أو الارتماء في أحضان أمم أخرى، فإن هذا لا يحدد وضعنا. إن ما يحدد وضع أمتنا الآن هو قوة ما لدينا من المتخصصين، وما هي نوعية الغذاء الفكري الذي يجري في عروق التحرك الإسلامي. وفي نظري، فإن كل جهد آخر بعيد عن إيجاد هؤلاء المتخصصين هو عمل ثانوي إلى أبعد الدرجات.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply