محاذير في فهم الإعلام الأمريكي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

فرض الإعلام الأمريكي نفسه على كثير من دول العالم الإسلامي والعالم العربي بصورة الإعلام الصادق والمتميز والمعتدل. وساهم في تضخيم هذه الصورة ضحالة الإعلام الحكومي الموجه في كثير من بلدان العالم الإسلامي، وانخفاض وقلة استخدام الوسائل التقنية الحديثة لإيصال المعلومة بأكفأ وأسهل طريق إلى أكبر قطاع ممكن من الشعب، وكذلك تنافس وسائل الإعلام العربية والإسلامية في إبراز الغرب وكافة وسائلة الإعلامية وأدواته الثقافية بصورة وردية مشرقة ومبهرة.

وفي عالم تزيد عدد اللغات فيه عن 6000 لغة، وتتنوع وتتباين فيه القيم الحضارية والدينية، نجد أن الإعلام الغربي يمثل أكثر من 90% من حركة الإعلام المتدفق بين أرجاء العالم في السنوات الأخيرة. ولا شك أن لهذه الهيمنة آثاراً على محاولات الحفاظ على الهوية الدينية، واللغات والثقافات غير الغربية، والوقاية من الأمراض الأخلاقية الغربية التي تتسرب إلى الشعوب من خلال تدفق المعلومات.

ويستدعي هذا الأمر محاولة جادة لفهم هذا الإعلام وكيف يعمل. وفي هذا المقال إطلالة على بعض المحاذير التي ينبغي الانتباه لها عند التعامل مع الإعلام الغربي بشكل عام، والأمريكي بشكل أكثر خصوصية. ويركز المقال على علاقة الشخصية الغربية بنوع الإعلام الغربي الذي يوجه إلى العالم الخارجي، ومعرفة أثر الثقافة المحلية والجوانب الفكرية الأمريكية على هذا الإعلام. وأخيراً علاقة الإعلام الأمريكي باللوبي الموالي للحركة الصهيونية.

 

1- فهم العقلية الغربية

إن من الخطورة بمكان - قبل أن نفسر المواقف الغربية - أن نحاول البحث عن الدوافع الأمريكية والغربية من خلال منطلقات وعقلية عربية إسلامية بحتة دون فهم الخلفيات الفكرية التي ينطلق الإنسان الغربي منها في حياته اليومية وتعامله مع قضايا العالم. إن المتابع للغرب يعلم يقيناً أن الإعلام الغربي والأمريكي تحديداً ليس كتلة صماء ذات موقف واحد من القضايا التي تعترض الشعب الأمريكي، وإنما هو نتاج توازن مجموعات من قوى الضغط ذات المصالح الداخلية المتضاربة، ولكن تجمع هذه القوى في الوقت نفسه على أهمية استغلال العالم أجمع من أجل تحقيق السيطرة الأمريكية الكاملة على الواقع العالمي. وتتداخل مجموعة من العناصر الاقتصادية والسياسية والفكرية والدينية لتساهم في تشكيل الرسالة الإعلامية في أمريكا.

\"إن الإعلام والصحفي الأمريكي يبحث عن الخبر والمعلومة ليس من أجل قيمتها الثقافية أو المعرفية، وإنما من أجل مساحة الإثارة والاهتمام التي تحدثها لدى الرأي العام، الذي يمكن أن يستثيره الخبر. \"

ليو جيفري، مجلة أخبار الصحافة، “تغير دور الصحفي في عصر التلفاز”

ومن المهم كذلك إدراك أن التيار الغالب على الحياة الأمريكية الإعلامية والسياسية هو تيار لا ديني يستخدم الدين والدنيا معاً لتحقيق مطامعه في السيادة والهيمنة، وليس تياراً دينياً يسعى إلى نشر رسالة أو الدعوة إلى موقف عقدي. ولا يعني ذلك انعدام وجود المتدينين، ولكن يبقى دور الدين في الحياة السياسية والإعلامية الأمريكية محدوداً في عالم تدافع المصالح والرغبة الأمريكية الجامحة في السيطرة على العالم، وسحق أي بديل حضاري يمكن أن يهدد هذه الرغبة.

 

2- الإعلام المحلي مقابل الإعلام القومي

يغطي الإعلام الأمريكي قارة بأكملها ويهدف إلى توفير المعلومة والخبر إلى أكثر من 280 مليون نسمة تقطن الولايات المتحدة. ولذلك فإن الإعلام المحلي له من القوة والتأثير على الرأي العام ما لا يتوفر لكثير من وسائل الإعلام القومية، ويختلف ذلك عن الصورة المعتادة للإعلام في العالم العربي إذ أن الصحف القومية تتمتع بغالبية القراء. أما في الولايات المتحدة فإن رجل الشارع الأمريكي لا يقرأ في الغالب صحيفة النيويورك تايمز أو الواشنطن بوست إذا لم يكن من سكان نيويورك أو واشنطن، ولكنه قد يقرأ الصحيفة الهامة في مدينته.

ولعل هذا ما يفسر وجود أكثر من 1500 صحيفة يومية أمريكية. ولتوضيح ذلك، فإن مجمل ما يطبع يومياً من الصحف الرئيسية الكبرى [وول ستريت - نيويورك تايمز - واشنطن بوست - يو إس توداي] لا يتجاوز 5 مليون نسخة، بينما يطبع يومياً من الصحف الأخرى ما يزيد عن 55 مليون نسخة. أي أن الصحف الكبرى لا تحظى بأكثر من 10% من إجمالي القراء في أي يوم. أما باقي القراء فيعتمدون على الصحف المحلية كمصدر أساس للأخبار والتحليلات والمواقف السياسية والفكرية.

لا يعني ذلك التقليل من أثر وقيمة الصحف الكبرى، فلا شك أن كثير من هذه الصحف المحلية تتأثر بالتيار الإعلامي العام الموجه من قبل الصحف الكبرى، إلا أن الاستقلالية تمثل أيضاً سمتاً رئيساً تعتز به الكثير من هذه المؤسسات الصحفية الصغيرة نسبياً. وتتكرر الصورة إلى حد ما في الإذاعة والبرامج الإخبارية في قنوات التلفزيون المحلية.

\" إن الصحف لم تعد وسائل نقل أخبار مباشرة ودقيقة، وآراء تحريرية واضحة. لقد تحولت الصحف إلى قلاع للجبناء من الصحفيين الذين تحركهم الأهواء الفكرية\"

جيرارد جاكسون، “الغضب المقدس، والكذب الإعلامي”

وأهمية هذه النقطة تكمن في أنه مع تقدم وسائل نشر الأخبار، وتعدد مصادرها، والنقلة الهائلة في إمكانات الإعلام البديل التي وفرتها شبكة الإنترنت، ووسائل الاتصال الحديثة، فإن التحكم الكامل في الإعلام الأمريكي شبه مستحيل، وذلك لكثرة وسائل الإعلام، وتنوع الأفكار التي يمكن أن تطرح من خلال هذه الوسائل المختلفة، وتنوع الشخصيات الإعلامية تبعاً للمناطق الجغرافية المختلفة من القارة. ولذلك فالمستقبل يحمل علامات استفهام كبرى أمام استمرار محاولات الهيمنة الإعلامية للتيار الصهيوني في القارة الأمريكية.

 

3- هل اللوبي الصهيوني مسيطر حقاً على الإعلام

إن أهم هدفين رئيسين يسعى الإعلام الموجه من قبل اللوبي الصهيوني إلى تحقيقهما، هما إرباك الرأي العام الأمريكي تجاه الإسلام والعالم الإسلامي، وإيجاد حالة من الخوف والترقب من كل منهما. ولا شك أن تأثير اللوبي الصهيوني على الإعلام الأمريكي واضح وملموس، ويستمد قوته من عدد من العناصر الهامة، ومنها:

التغلغل الإعلامي: وصول عدد كبير من الموالين لهذا اللوبي إلى مراكز إعلامية هامة، وسيطرتهم على عدد كبير من غرف التحرير في الصحف والمجلات والقنوات التلفزيوينة.

القوة الإعلانية: إن للقوة المالية التي تتمتع بها الشركات المرتبطة بهذا اللوبي، قدرة على استخدام الميزانيات الإعلانية كوسيلة ضغط لتحقيق أهداف فكرية وسياسية. ونظراً لأن أغلب وسائل الإعلام الأمريكية هي مؤسسات ربحية بالدرجة الأولى، فإن الإعلان يعد أهم مصدر من مصادر التمويل والربح لهذه المؤسسات الإعلامية. وبالتالي فإن من يملك التصرف في الميزانيات الإعلانية يمكن أن يتحكم في المحتوى الفكري للرسالة الإعلامية ويمكن أن يؤثر أيضاً على المصداقية الصحفية لوسيلة الإعلام.

ملكية وسائل الإعلام: قام التيار الصهيوني منذ أكثر من قرن ميلادي بشراء العديد من الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الأخرى، وإخضاعها بصورة أو أخرى لأهداف التيار بشكل غير مباشر، مع استمالة الرأي العام عن طريق اللعب على الغرائز، والإسفاف الإعلامي، وغير ذلك من الوسائل التي اشتهر بها هذا التيار تاريخيا.

جهل الرأي العام: المجتمع الأمريكي بطبعه لا يهتم بقضايا العالم الخارجي، ولا يعنى بصراعات العالم طالما أنها لا تؤثر على حياته اليومية. ولذلك نجح اللوبي الصهيوني في استغلال هذا الجهل العام لإعادة صياغة رؤية الرأي العام الأمريكي تجاه أولويات اللوبي الصهيوني.

 

خيارات للجميع

في مقابل ما ذكر أعلاه من تأثير اللوبي الصهيوني على الإعلام الأمريكي، فإن نفس هذه العوامل مجتمعة يمكن أن تستخدم من قبل أي تيار آخر لتحقيق نتائج متشابهة. ويعني ذلك أن الهيمنة لم تنتج بسبب ميل طبيعي أو فطري للرأي العام الأمريكي لمناصرة اللوبي الصهيوني، وإنما نتجت من تخطيط جاد ومثابر، واستخدام كفء للموارد، واستغلال طبيعة المجتمع الأمريكي لتحقيق النتائج التي يهدف إليها اللوبي. وجميع الوسائل السابقة يمكن أن يستخدمها لوبي آخر أو تيار معارض لتحقيق نتائج شبيهة أو مقاربة.

ولذلك فإن دعاوى السيطرة التامة للوبي الصهيوني على الأعلام الأمريكي، وإن كانت صحيحة إلى حد ما مرحلياً، إلا أنها ليست مطلقة، ومن الممكن زعزعة عوامل استقرارها، ولكنه طريق طويل وجاد ولا يثمر نتائج فورية أو عاجلة.

إن 45 دولة إسلامية في العالم، وأكثر من مليار مسلم لن يحصلوا أبداً على تغطية إعلامية عادلة من إي من وسائل الإعلام المكتوب والمرئي إلى أن يكون لهم صحيفة متميزة تمثل وجهة نظرهم. وليس مهماً كم تكون البداية متواضعة، فإن هناك عدد كاف من القراء لدعم مثل هذه الصحيفة التي قد تبدأ أسبوعياً ثم تتحول يومية، ويمكن أن ينشأ عنها إذا أو قناة تلفزيونية أيضاً

ريشارد كيرتس، “من يتحكم في الإعلام” مجلة واشنطون ريبورت.

 

4- الانعزال الفكري وآلية التحيز

إن الإعلامي الأمريكي لم يعد قادراً على تمييز تحيزه ضد العرب والمسلمين. إن تقوقع الصحفي الأمريكي حول مجموعة من المسلمات الخاطئة تراكمت من جراء سنوات من التعتيم وتشويه المواقف قد أفرز صحافة أمريكية وإعلاماً أمريكياً منعزل فكرياً عن باقي العالم رغم قوة وصوله إلى مختلف أنحاء الأرض. فهو إعلام منعزل من ناحية مصادر تغذيته بالأفكار والأخبار، ولكنه بالمقابل إعلام منفتح من ناحية الوصول إلى القراء والمشاهدين في كافة أنحاء الأرض. إنها معادلة صعبة حقاً، وقد لا ترى بسهولة لمن ينبهر بمظاهر التعددية الزائفة في الإعلام الأمريكي.

ولذلك فإن الإعلام الأمريكي اليوم يقوم بنوع من الفرز الآلي للأخبار والأحداث، فما وافق منها توجهاته الفكرية العامة أصبح خبراً واعتبر حقيقة، وما خالفها أصبح دليلاً على عدم عدالة الخصم. وهكذا يمكن إيجاد آلية ظاهرها المنطق والعقل، ولكنها تخفي في طياتها أبشع أنواع التعصب والحجر على الرأي الآخر. إن عدم الحياد في الإعلام الأمريكي ليس أحادي الاتجاه، ولكنه متنوع الأشكال أيضاً، ولكن محوره الرئيس هو طابع الانحياز الفكري، فهو لا يملك التفريق بين التغطية غير المحايدة لخبر ما، وبين تغطية الخبر الذي يختلف مع وجهة نظر المحرر أو الإعلامي.

إن الصحافة الأمريكية قد تدعي أنها تسعى إلى عرض كل وجهات النظر المحيطة بموضوع ما، ولكن الحقيقة أن الإعلام الأمريكي يسعى إلى الدعاية إلى موقف مسبق، ولكنه يقوم بذلك بشكل إعلامي يبدو متوازنا.

 

وبعد

لقد أظهرت تداعيات أحداث سبتمبر وما تلاها من الحرب على الإرهاب وتغيير النظام الحاكم في كل من العراق وأفغانستان، والاحتلال الحالي للعراق أن من يملك الإعلام يملك زمام الشعوب ويدفعها في الاتجاهات التي تهم من يمتلك هذه الوسيلة من وسائل التأثير على الرأي العام وتوجيهه. وكان لتكاتف الإعلام الأمريكي مع الآلة العسكرية والسياسية أثراً واضحاً في توجيه الرأي العام الأمريكي والعالمي في تلك الفترة.

وفي عالم تحول إلى قرية صغيرة تطورت فيه وسائل الإعلام والاتصالات، وغزت فيه الأفكار والقيم الواردة من كل أنحاء العالم القرى النائية في عالمنا العربي والإسلامي عن طريق الأقمار الصناعية والقنوات الفضائية والشبكات الإليكترونية، أصبح من المهم بل من الضروري فهم آليات وطرق عمل الإعلام الأمريكي على توجيه وحسم دفة الصراعات والخلافات الفكرية وغير ذلك في هذه القرية العالمية، وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي حولت العالم الإسلامي من لاعب على الهامش إلى مشارك فعلي في رسم مستقبل البشرية.

إن بذل الجهد في تفهم كيف يعمل الإعلام الأمريكي وكيف يؤثر على الشعوب هو أحد أسرع الطرق لمقاومة التأثير السلبي لهذا الإعلام من ناحية، والاستفادة منه من ناحية أخرى. فليس المطلوب هو مهاجمة الإعلام الأمريكي فهذه المهمة رغم جدواها- فإنها مهمة انبرى له الكثير من أبناء الأمة، ولكن الأهم في هذه المرحلة هو الفهم الصحيح لأحد أهم أساليب التأثير المعاصرة وهو الإعلام الغربي، وكيفية الاستفادة من جوانبه المفيدة ومقاومة ما يحتويه من أفكار أو مبادئ أو حقائق مخالفة لأهداف ورغبات الأمة.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply