بسم الله الرحمن الرحيم
الزمنُ متغيرُ الأطوار، متحولُ الأحوال، و المرءُُ فيه متواكبٌ معَ ظروفٍ, تُلِمُ به، و أحداثٍ, تعتريه، و هو في ذلك رجلُ الموقف، و صاحبُ القرار، فإما إن يُمرَّ ذلك على نفسه بِحُسن الاستخدام، و إما أن يكون المُضَيِّعُ.
(الإعرابُ) و (البناء) مُصطلحان نَحويان معتبران، فالأولُ يتعلَّقُ بالتغيٌّر، و الثاني يتعلَّقُ بالثبات، و ما أحراهما أن يكون في الداعية.
إنَّ الركودَ على حالٍ, واحدة دونَ تغيٌّرٍ, لها ليس من المحمودات عند العقلاء، و كذلك التغيًٌّر المفرط، و إنما الأمرُ عوانٌ بين ذلك.
إنَّ (الإعرابَ) في الداعية مطلوبٌ بقوة، و مهم جداً في حياته الدعوية، فلا سبيل لتحصيل مقاصد دعوته إذا لم يكن ثمَّةَ تغييرٌ و تحويل، إلا أننا لابُدَّ لنا من رعايةٍ, لذلك التغيير، و ضَبطه و ضمانه، حتى لا ينفرطَ الخيط فينتثرُ الدرٌّ.
بعضٌ يظنٌّ أنه في حال تغيٌّرِه قد أصبحَ شيئاً آخرَ غيرَ نفسه قبلُ فيتغيَّرُ جملةً، و هذا ليس صحيحاً، لأننا نطالبُ بالتغيير في أشياءَ دون أشياءَ، و أمورٍ, دون أمورٍ,.
فَبِمَ يكون (الإعراب) في الداعية؟
إنَّ التغييرُ يكون في غير الثوابت و القطعيات، و التي كان عليها كلام أهل العلم عامةً، و إنما هو في سواها من أمور خلافيةٍ,، و غير قطعية، و على هذا التحريرُ من أهل العلم و الفقه - رضي الله عنهم -.
فلا يأتينا داعيةٌ يتبنَّى قضيةَ التغييرَ الدعوي، فينادى بأعلى صوته بالتغييرِ في ثوابتِ ديننا، و تحويل قطعيات إلى مسائلَ نقاشٍ, في الساحة، فإن هذا مرفوضٌ و مردود.
و إنما التغييرُ يكون في:
أولاً: الوسائل المستعملة في نشر الدعوة، فإنَّ لكل زمنٍ, وسائله، و لكل قومٍ, ما يناسبهم، و الركود على وسيلةٍ, واحدة يتعاقَبُ عليها أعدادٌ هائلة من السائرين في الدعوة يجعلها صارفةً الناسَ عنها في بواطنهم، و لمَّا لم يكن إلا هيَ أقبلَ الناسُ عليها، و في تغييرها بعضَ الشيء، و التحوٌّلُ منها إلى غيرها تركها الناسُ خلفهم ظهرياً، و لا يلوون على شيءٍ, منها.
و الوسائل كثيرة، و التي في الذهن أكثر و أكثر، و ما أحرانا باستعمال (العصف الذهني) لاستخراج مئات الوسائل الدعوية، و كما قيلَ قبلُ (الحاجة أم الاختراع).
ثانياً: تغييرُ صنفِ المدعوين، فليس الداعية مطالباً بأن تكون دعوته حكراً على صنفٍ, من الناس دون غيرهم، كما أنه ليس مطالباً ببذلها لكل أحد دون تمييزٍ,، بل الأمرُ يفتقرُ إلى المصالح و المفاسد، و النتائج و الثمار من بذل الدعوة و توجيهها.
نرى في الشارع الدعوى اهتمامَ أشخاصٍ, بصنفٍ, معيَّنٍ, من الناس، يخاطبونهم في دعوتهم، و هذا حسَنٌ إذا كان فيه إنتاجٌ حسن، و عكساً لذلك إذا كانت هناك نتائج ضئيلة، أو لم تكن ثمةَ نتائج.
و مقابل ذلك من نراه يخاطبُ كلَّ الفئات دون تمييزٍ,، فلا تدري أدعوته لفئة الشباب، أم لفئة المشتغلين بالعلم، إلى غير ذلك.
فمراعاة الفئة المدعوَّة مهمٌ جداً، حتى تكون الأطروحات الدعوية موحدة، و توجيهها إلى أحسن و أفضل.
و هذا كان موجوداً في سيرة سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، و ذلك في قصة إرساله سيدنا معاذ إلى اليمن، فإنه بيَّن له صنفَ المدعوين، و أنهم من أهل الكتاب، فما كان من - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه أرشده إلى طريقةِ دعوتهم، و أولويات الدعوة.
إلى أشياءَ أُخَر يكون التغييرُ فيها مطالَبَاً به المرءُ الداعيةُ إلى الله، يعرفها من اشتغلَ في الدعوة و التبليغ للرسالة.
و كما أنَّ هذا التوجيهُ للداعيةِ في تغييرِ حياته الدعوية، و جعلها (مُعرَبَةً) فإننا إن لم نكن معه على نسقِ العون له، و الوقوف معه فلا مسيرة صحيحةَ لدعوتنا، فلا بد من التأييد، و المعاونة، و المؤازرة، و كلُّ منَّا بأخِهِ.
و مع دعوتنا إلى التغيير في العمل الدعوي فإننا ندعو إلى (البناء) الدعوي، و هو يتعلَّقُ بالثبات.
فنريد داعيةً يكون ثابتاً على منهاجه، ملازماً لقانون دعوته التي رسمَ معالمها، غيرَ مخالفٍ, لقطعياتٍ, دينية، و لا مرتكباً لنقضِ ثوابتَ شرعية.
و يكون ثابتاً في مسيرته الدعوية، فلا تعتريه فَترَةُ خمولٍ, و كسَلٍ,، و لا يعتريه عجزُ و خَوَرٌ، بل يكون حاملاً نفسه بيده، سائراً بها في سبيل دعوته.
إنَّ داعيةً يأخذُ (الإعراب) الدعوي فيجعله في ثوابت الشريعة، أو يأخذُ (البناء) الدعوي فيجعله في ما جرى الخلافُ فيه بين أئمة الإسلام، إنَّ هذا داعيةٌ يعيشُ في عقلٍ, منعزلٍ, عن الناس، و تفكيرٍ, مُقصى من العالم.
إذا حققنا (الإعراب) و (البناءَ) في مسيرة دعوتنا عرفنا كيف نتعاملُ مع أصنافِ المدعوين من الناس، و عرفنا كيف نُدخل الدعوة في قلوبهم عن طريقٍ, مقبولة.
إلا أننا لابُد من تبيانٍ, لأمور ذات بال:
الأول: أن المرجعَ في معرفة الثوابت و خلافها في شريعتنا إلى الشرع ذاته، و إلى ما هو مقرَّرٌ في مذاهب الأئمة الفقهية المتبوعة، و إلى ما عليه اعتقاد أهل السنة أجمع، فليس المرجعُ في ذلك إلى رجالٍ, نالوا قدسية في نفوسِ بعضٍ,، و لا إلى مناهج فردية، و إنما الأمرُ كما ذكر.
الثاني: بمعرفة السابق يكون اعتبارنا بمسائل الخلاف، و أنَّ المعوَّلَ عليه في المرجعية بابُ خلافها واسع، فالعذرُ مقبول، و العمل على ما اتٌّفِقَ عليه بين كلٍّ,، و ما جرى قدرُ الله - تعالى -به فكان الخلاف قائماً فيه فإنَّ لكلٍ, مرجعه من أصول الأدلة و فروعها، و الحمد لله الذي جعل خلاف أمتنا رحمة.
الثالث: للناس عوائد، و للأقاليم أعراف، و المروءة مراعاة ذلك ما لم يكن مخالفاً للشرع، و أما ما خالف الشرعَ من قريبٍ, أو بعيد فالمعوَّلُ على الشرع.
هذه خاطرةٌ أحسبها أفادت شيئاً مما يُعينُ في ساحة الدعوة، و الأمرُ يحتاج إلى تمحيص، و ما ذكرتُ غيضٌ من فيضِ الخواطر الدعوية، و قليل من كثير، و لكن الأملُ بالله - تعالى -كبير، و الأمةُ إلى خير، و بارك الله في الجهود.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد