بلاغ عام إلى الشارع الإسلامي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

ألم على ألم ومثلي يألم*** ما ناح نائح أو تجدد مأتم

والقدس تبكي والفرات مكبل*** والكرب نازل والبلاء معمم

 

لم يرعوي العدو عن غيه، وما كان له أن يرعوي، لأن عدوانه الأثيم لن يتوقف من تلقاء نفسه وتلك بديهية للعقلاء فقط ولن يتوقف عدوانه الغاشم عند حد بعدما تجاوز كل حد، وليس العدو بملوم لأننا ببساطة لم نفعل شيئا.. ولم نقدم شيئا لردع هذا العدوان أو وقفه أو صده.. اغتال العدو الغشوم شيخ المجاهدين الشيخ أحمد ياسين بطائرات الأباتشي الصهيوأمريكية، وهبت الشعوب المسلمة من أقصى الأمة إلى أقصاها تصرخ وتبكي وتندد وتشجب وتطالب وتناشد، ثم...، ثم برد الجرح وهدأت الثورة وخف الألم وضاع طعم الغصة في الحلوق.. ثم نام كل شيء وهدأ.. ولم تمر أربعة أسابيع على الجريمة النكراء التي لم تكن الأولى من نوعها ولا في خستها حتى قامت الطائرات الصهيوأمريكية باغتيال الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، وخلال الأسابيع الأربعة لم يتوقف القصف الأمريكي لمدن العراق لا سيما الفلوجة، إلا لإجراء بعض المناورات المكشوفة..

والأمة المسكينة تنادي أنظمتها الراقدة أو المتناومة لعل وعسى والحقيقة الوحيدة المعقولة أنه لا حياة لمن تنادي، وتستمر الجماهير الغاضبة تستصرخ الأنظمة وتستنصرها في أكبر وأوسع عملية منظمة لخداع النفس عبر الشارع الإسلامي كله من ماليزيا إلى المغرب.. أقول للجماهير الغاضبة الشاجبة المستصرخة المستنصرة، لو أنكم استصرختم من في القبور واستنصرتم بالفاتح وصلاح الدين وقطز فلو أجابوكم هؤلاء من رقدتهم الأبدية وما كان لهم أن يجيبوكم عقيدة وعقلا - كان ذلك أقرب من أن تجيبكم الأنظمة الحاكمة..

 

يا عروس غالها الحقد فباتت  *** ترتدي ثوبا من الأحزان أسود

يلتقي بالصمت كالموتى جوابا ***  لسؤال في الحنايا يتردد

يا صلاح الدين والأقصى جريح *** قم وكبر فالرزايا تتجدد

قل لمن ناموا على الأمجاد دهرا  *** في ظلال السيف صار الله يعبد

 

فالأنظمة الحاكمة لم تعد الشعوب بشيء من تحرير فلسطين، لم تطرح ذلك في برامجها الانتخابية للذين يأتون منها بصناديق الانتخاب سواء النزيهة منها أو المزيفة  ولا في بياناتها الثورية للذين يأتون عبر الانقلابات العسكرية، ثم هي لا تملك برنامجا محددا لحل المشكلة الفلسطينية، كما أعلن ناصر زعيم القومية العربية عام 59 أنه لا يملك حلا لقضية فلسطين ..

وإن أي محلل نفساني يدرك أن ما يمارسه الشارع الإسلامي بالتعويل على الأنظمة أو مناشدتها لفعل شيء هو ممارسة للأحلام الهروبية في أبسط صورها وأكثرها وضوحا..

وهو نوع من إلقاء التبعة على الآخرين، وتعليق الجرس في رقبة الأنظمة، أو قذف الكرة بعيدا في ملعبها، والحقيقة الدامغة تؤكد أن الحلول الواقعية دائما كانت ملك الشعوب لا الأنظمة، وبداية وحتى لا يختلف أحد مع هذا الطرح أحب التمييز بين القيادة الراشدة التي تقود الجماهير نحو الأهداف العليا للأمة وبين الأنظمة، فالقيادة الراشدة التي توجه الجماهير وتحركها نحو الفعل الإيجابي ضرورة حتمية لتحقيق تلك الأهداف، والجماهير بلا قيادة جماهير عاجزة عن توظيف طاقتها واستغلال إمكاناتها، وبلورة انفعالاتها في صورة أكثر إيجابية من مجرد التعبير عن الغضب والرفض، تلك حقيقة لا مراء فيها ولا جدال، أما الأنظمة الحاكمة عندما تسلخ نفسها بعيدا عن القيادة الواقعية للجماهير فإنها لا تصبح ضرورة لتنجز الشعوب أو الأمة عملها وتصل إلى أهدافها ومثال ذلك أن القيادة الواعية في مجتمع ما قد تقود الشعب إلى ثورة على النظام، وينجح الشعب في تحقيق ذلك وجورجيا وهاييتي أمثلة أخيرة على ذلك ولو اعتمدت الشعوب على الأنظمة في كل شيء ما استطاعت أن تنجز البشرية ثوراتها ولا منجزاتها عبر تاريخها الطويل، فالشعوب بحاجة ماسة بالضرورة الحتمية إلى قيادة، ولكن هذه القيادة ليست بالضرورة هي الأنظمة الحاكمة..ولا أختلف كذلك مع أحد على أن الأنظمة إذا التحمت بشعوبها وحملت آمالها وآلامها وسعت نحو تحقيق مشروعها فإن ذلك يسهل كثيرا من مهمة الأمة، حيث تتفق إرادة الأمة شعوبا وحكومات، بما لا يسمح بحدوث الصدام أو تشتيت الجهود وتفتيتها، هذه حقيقة نتفق عليها كذلك.. لكن المشكلة القائمة الآن أن هناك انفصالا حقيقيا وواقعيا بين الأنظمة والشعوب على الأقل بما يخص قضية فلسطين والقضايا الإسلامية المشابهة، وبالتالي فإن الدخول في جدل عقيم حول تقاعس الأنظمة أو سلبيتها، هو نوع من الهروب من العمل الإيجابي، يقول الرافعي على لسان الباشا الوزير وهو يخاطب الشاب الثائر في أعقاب قيام قوات الأمن بالتعاون مع قوات الاحتلال بقمع مظاهرة وطنية تنادي بالاستقلال والجلاء، يقول له: \" إن الأمل كله معقود على الشباب أما الشيوخ والكبار الذين علمتهم التجارب الحكمة والمداهنة فلا تنتظرون منهم شيئا، لا تنتظرون منا دعما ولا عونا ولكن انتزعوا حقوقكم بأيديكم وأشعرونا بأنكم قوة لا يمكن تجاهلها أو الالتفاف حولها أو ضربها، وقتها فقط عندما تدركون دوركم وطريقكم سوف نضطر اضطرارا إلى الاعتراف بجهدكم وجهادكم وندخلكم في المعادلة رغم أن في بعضنا تعاطفا معكم ومع حماستكم، لكنه تعاطف هذبته السنون والتجارب \"، ويقول محمد جلال كشك عن الحشود المنفعلة التائهة للأمة في أعقاب الأحداث وأوقات المحن والنوازل واصفا حال الجماهير المصرية في موقعة امبابة بين الفرنسيين والمماليك منذ أكثر من مائتي عام: \" وهكذا تمت التعبئة العربية التقليدية التي لم يخرج عنها الكفاح العربي حتى اليوم، التعبئة التي تحشد الجميع للمعركة ولا تتيح لأحد أي دور حقيقي في المعركة، التعبئة التي تتيح للجميع أن يصرخوا ويهللوا ويهتفوا ويتألموا، ويقاسوا من أجل المعركة من دون مساهمة حقيقية في المعركة ولا تحقيق أي نفع يخدم المعركة... وحيث تحرص كل الأوضاع على إبعاد الشعب عن المعركة أو عن الفعل الإيجابي الوحيد المطلوب... \" هذا الوصف الذي سجله كشك منذ أكثر من 35 عام والذي رصده مؤرخ مصر الجبرتي قبله بمائة وسبعين عاما هل تراه يصدق علينا اليوم؟

فما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه الشعوب وما هو الفعل الإيجابي الوحيد الذي يجب أن تقوم به جماهير الأمة لو أرادت التعبئة بطريقة غير تقليدية؟ وقبل أن نطرح إجابة على هذا السؤال المباشر الذي تحار العقول كثيرا في إيجاد الإجابة المحددة الواضحة عليه فتبقى غائمة منقوصة.. قبل ذلك نتساءل سؤالا آخر : هل ما يصيب الأمة في العراق وفلسطين وغيرها من مواقع.. هل هو عرض أم مرض؟ يجب أن نتفق أن ما يمر بالأمة اليوم من حوادث جسام لا يتعدى كونه أعراض لمرض كبير مزمن هو مرض انهيار الأمة.. انهيارها في كافة شؤونها، وبعيدا عن تحليل الأسباب والظواهر نؤكد على أن العلاج لا يجب أن يكون للأعراض ولكن يبقى العلاج الناجع المفيد هو لأصل الداء.. إننا في حاجة إلى تدارك انهيار الأمة أولا قبل أن نفكر في تحرير الأرض هنا أو هناك.. إن تدارك هذا الانهيار ووقفه والتصدي له ، ثم البناء الجديد للحضارة الإسلامية هو الهدف المرحلي الأساسي في هذا العصر، هو الهدف الذي يؤدي فيما بعد - ربما بعد جيل أو عدة أجيال - إلى تحقيق الأهداف الكبرى للأمة وعلى رأسها تحرير أراضيها المغتصبة هنا وهناك.. إن البناء العالي الشامخ يحتاج دائما في بدايته إلى أن نحفر في الأرض لوضع الأساسات، ولقد قال الحكماء: لا مانع من أن تتراجع خطوة للوراء لتتقدم خطوات إلى الأمام..

على شعوب الأمة الإسلامية الغاضبة الرافضة أن تدرك مسؤوليتها التاريخية، عليها أن تدرك أن القضايا المصيرية للأمة لو كانت تحيا في نفوسنا مثل القضايا اليومية الملحة من لقمة العيش والاستقرار الأسري والبحث عن المسكن والملبس وخلافه، لو كانت كذلك، ما كنا انتظرنا حتى ترفعها عنا الأنظمة.. كلنا يشتكي من انهيار الوضع الاقتصادي، لكننا جميعا لا ننتظر تحرك الآخرين، ونجتهد في البحث عن كل البدائل المتاحة وغير المتاحة لحل مشاكلنا اليومية المتراكمة لوعينا بأنه لا أحد سوانا سوف يحملها عن كاهلنا ويوم تصبح قضايا الأمة هاجس حياتنا اليومية دون تعليقها على شماعة الأنظمة والظروف غير المواتية - سوف ننجز لحلها أمورا تذهلنا نحن أنفسنا قبل أن تذهل الآخرين.. إن التعبير عن الغضب مطلوب لأنه يعبر بداية على أن الأمة مازالت حية تنبض وتشعر وتتألم، لكن التعبير عن الغضب ليس

كل شيء، وتحويل الغضب إلى فعل إيجابي موظف لصالح قضية النهوض بالأمة من كبوتها هو الحل الوحيد المفيد والممكن.. إن أكبر قطاعات التعبير عن الغضب الشعبي هو قطاع الشباب، والشباب يملكون تقديم حلول غير تقليدية من ذلك:

1 التركيز على فكرة مجموعات العمل الصغيرة في إنجاز مهمات علمية واقتصادية وإعلامية واجتماعية والإصلاح في هذه المجالات المتنوعة المختلفة..

2 حشد الدعم المادي لدعم قضايا الأمة وبناء نهضتها بصورة مستمرة دائمة فقليل دائم خير من كثير منقطع.

3 التركيز على مبدأ ألا يكون النفع الخاص متعارضا مع النفع العام للأمة.. لا سيما في المشروعات الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة، فالتركيز على الاستثمار في السلع الاستهلاكية والمستوردة، على حساب الاستثمار في السلع الإنتاجية والمعمرة والصناعية والاعتماد على الموارد المحلية قد يكون أكثر ربحا على المستويات الشخصية لكنه لا يساهم في بناء الأمة.. والاختيار الثاني أكثر نفعا على المدى البعيد.

4 توظيف التخصص العلمي والأكاديمي والمهني أو الحرفي في التخصصات النادرة والضرورية والحيوية بعيدا عن الألقاب المرموقة والأعمال السهلة الروتينية التي لا تخدم الأمة خدمة نوعية متميزة.

5 وضوح الرؤية الكلية العامة عند تخطيط الأهداف الشخصية الخاصة، بحيث يكون الشخصي دائما يصب في العام ويؤدي إليه.. واعتماد المبدأ الإنجليزي (بطيء ولكنه أكيد) (SLOW BUT SURE)..

إن هذه مجرد رؤوس أقلام ومدخل لأفكار نوعية يجب أن تجدها الأمة وتجيدها لوقف انهيارها وتحقيق نهضتها..

إن صناع التاريخ ليسوا بالضرورة حكاما عظاما، لكن القادة الشعبيين باستطاعتهم صناعة التاريخ، والنوابغ في كل فن وعلم يستطيعون صناعة التاريخ، والجماهير الواعية المدركة لرسالتها تستطيع صناعة التاريخ.. وإذا كان التاريخ قد حدثنا عن صلاح الدين والفاتح وقطز وغيرهم، فقد حدثنا أيضا عن نماذج شعبية في صناعة التاريخ مثل الثورة الفرنسية التي ينسبها التاريخ إلى الجماهير ولو برزت فيها بعض الأسماء اللامعة غير أن قوة الجماهير تبقى القوة المحركة الأولى للثورة، وكذلك ثورة القاهرة الأولى والثانية ضد الحملة الفرنسية صنعتها جماهير الأمة الإسلامية التي تضافرت جهودها مع مصر لتحريرها من الغزو الفرنسي ولقد كان الأزهر بمجاوريه من المصريين والمسلمين من مختلف الأنحاء مسرح أحداث الثورة، ولئن وعت ذاكرة التاريخ أسماء سليمان الحلبي وقد كان حلبيا وعمر مكرم نقيب الأشراف، والشيخ السادات والجبرتي والشرقاوي وغيرهم، فإن سطوره عجزت عن تخليد أسماء الجماهير التي ضحت بحياتها ودفنت تحت أنقاض القاهرة لتصنع التحرير لكننا بقينا ندرك بداهة أن الثورة لم يصنعها شخص واحد ولا مجموعة من الأشخاص، ولكن صنعتها أمة.. يقول هيرولد: إن موقف من المواقف لا يصبح تاريخيا إلا لأحد أمرين: إما لأن المشاركين فيه على وعي بأنهم يصنعون التاريخ، وإما بفضل نتائج أعمالهم \"، إن شرطي صناعة التاريخ أن يدرك القائمون بالأحداث رسالتهم في صناعة التاريخ، يدركون أنهم يقومون بوعي بالمساهمة في صناعة التاريخ، أو أن يكون ما قام به الجيل يحقق إنجازا ضخما أو تحولا جذريا في مجرى الأحداث، ونحن نطالب أنفسنا وجماهيرنا بأن نملك الشرطين معا.. فهل تصدق أن ثورة القاهرة الثانية ضد الحملة الفرنسية وقفت على أعتاب الثورة الصناعية التي لم ننجزها حتى اليوم لقد كانت الأمة في مجموعها في أحط وأصعب ظروفها وأشد مراحل تدهورها ، ومع ذلك يقول كليبر في يومياته عن المصريين: وأنشأوا معامل للبارود ومصانع لصب المدافع وعمل القنابل، هل تدرون ما هي الإمكانيات التي كانت متاحة أمامهم وقتها لإنجاز هذه الثورة الصناعية المذهلة؟

يقول الجبرتي: وأحضروا ما يحتاجون إليه من الأخشاب وفروع الأشجار والحديد، وجمعوا إلى ذلك الحدادين والنجارين والسباكين وأرباب الصنائع الذين يعرفون ذلك فصار هذا كله يصنع ببيت القاضي والخان الذي بجانبه والرحبة التي عند بيت القاضي من جهة المشهد الحسيني !!!

فهذه هي البشرى إن صناعة التاريخ وعي وإرادة.. وتبقى البشرى الكبرى:

 (والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا)

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply