خطبة الجمعة الاختيار والتجهيز والإلقاء


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

للخطابة منذ أقدم الأمم أثرها غير المنكور، عند اليونان والرومان والهنود والفرس والعرب، وقد كانت القبائل العربية قديماً تقيم الأفراح إذا نبغ فيها خطيب أو شاعر، فهو وسيلة إعلامها والمحامي عن شرفها، وكلما كان الخطيب أمهر، وعلاقته بربه إن كان مسلماً أوفر، أو بالمبدأ الذي يدعو إليه أكبر، كان تأثيره أكثر، لأن الدافع المحفِّز للخطابة يكون قوياً فيدفع الخطيب إلى شحذ قواه الروحية، وملكاته التأثيرية·

والخطابة في حقيقتها عمل قلب وعقل في مئات القلوب والعقول، أو آلافها، وكلما اتسعت آفاق هذا القلب وتراحب ذلك العقل، وعظمت همته، وزاد بما يدعو إليه تأثيره كلما كان تأثيره أكبر·

والمبادئ همُّ مقيم في قلوب ورؤوس معتنقيها المخلصين لها، لذا تراهم في همِّ مقيم، لأنهم يريدون لها الذيوع والانتشار، فإذا لم يحدث مرادهم اغتموا، وربما زاد جهدهم، أو نكصوا على أعقابهم، وانظروا تصوير القرآن لمشاعر رسولنا - صلى الله عليه وسلم - تجاه صد الكافرين عن قبول رسالة الإسلام، قال - تعالى -: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) الشعراء: 3، (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً) الكهف: 6·

وفي تنقله - صلى الله عليه وسلم - في موسم الحج وغيره من جمع إلى جمع، ومن قبيلة إلى قبيلة، دليل على عظيم اهتمامه بتبليغ الرسالة·

والخطابة ملكة موهوبة ترجع إلى التكوين الجسدي والروحي والنفسي والعقلي، وهذه هي الخطابة الفطرية، وقد تكتسب بحفظ خطب البلغاء والمرس على أساليبهم، وسماع الخطباء الجيدين، لكن الفطرية المصقولة أجدى وأنفع·

فأما ما يساعد على إجادتها فطرية كانت أو مكتسبة، فالاطلاع على علوم: التفسير والحديث واللغة والنفس والأخلاق والفقه والعقائد والأصول والسيرة والتاريخ والآداب والبلاغة وغيرها، مع حفظ الكثير من المنظوم والمنثور، ومن أساسياتها الزاد الوفير من القرآن والسنَّة·

 

خطبة الجمعة:

هي وسيلة من وسائل الهداية إلى الخير، ونشر الإسلام، والتوعية بما يجب أن يكون عليه المسلم من عمل بدين الله، والتحذير من آثار الانصراف عن منهج الله، ولذا يجب الاستعداد لها استعداداً جيداً، وتحضيرها تحضيراً ممتازاً، وهي لدى مجربيها عبء ثقيل، يحشدون له كل طاقاتهم وربما حرمهم الاستنفار لها من المنام والطعام وغيرهما، وقد سئل عبد الملك بن مروان عن ما عجل الشيب إلى رأسه؟ فقال: ألا ترون أني أعرض عقلي على الناس كل جمعة، لقد شيبته خطبة الجمعة، وهو العربي القح والخطيب الفذ، فكيف بغيره(1).

وأحب أن أشير هنا إلى أنه ليس معنى استنفار كل الطاقات، وحشد كل الملكات، والتنقيب في دواوين العلم والأدب أن الخطيب ناجح، فقد يجتمع له كل ذلك ولا ينجح، لأن هناك عاملاً أهم في إدراك النجاح، وهو الإخلاص لله، وقصد وجهه في هداية العباد إلى طريق الرشاد.

 

المراحل التي تمر بها خطبة الجمعة:

المرحلة الأولى: تخير الموضوع:

 كثيراً ما يحدثنا علماء العقائد عن النبي والمتنبئ، والنائحة المستأجرة، والنائحة الثكلى، فالنبي يبذل أقصى ما وسعه في نشر الدعوة، وإن قتل، أو طرد أو أوذي أو شُرِّد، والمتنبئ قناص فرص، طالب منفعة، والنبي لا ينكص أبداً عن دعوته، ويصور حاله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمه: \"والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه\" والمتنبئ سريع النكوص وكذلك النائحة المستأجرة تأكل وتشرب، وإذا أضحكت ضحكت·

والخطيب المخلص يُعني نفسه في اختيار موضوعات خطبه، فنراه بين الناس يعيش بعين الناقد البصير، وبعقل الطبيب المداوي، وبقلب المصلح المحب الوامق، فيعمد إلى أكثر المنكرات الفاشية في المجتمع حسب رؤيته وسمعه، سواء في أعمال الناس ومعاملاتهم أو أحاديثهم، أو وسائل إعلامهم، أو مدارسهم، أو محاكمهم، فيختار أشدها ضرراً وأشدها فتكاً، فيجعله محور خطابته، وبذا يعايش الواقع، فلا يكون في واد والمجتمع الذي يعيش فيه في واد آخر·

وحين يتجمع لديه موضوعات عدة يرتبها حسب أهميتها، ويسجلها في دفتره حتى تحين فرصة تناولها واحداً بعد آخر، على أن يكون مستعداً دائماً للطوارئ التي تطرأ، فتجعله يغير موضوع خطبته في أي لحظة·

 

ثانياً: مرحلة دراسة موضوع الخطبة:

تمر مرحلة دراسة الموضوع في عقل الخطيب بمراحل منها:

1 ـ حدد الأضرار المتصلة بالعقيدة والأخلاق والاجتماع والصحة والاقتصاد والعبادة إذا كنت ستدخل في الترهيب، وحدد المنافع العائدة على الفرد والجماعة، إذا كانت في الترغيب وسجلها بقلمك، أو في ذهنك، والأولى أولى خاصة عند كبر السن، وحين تحتاج إلى المراجعة للتنقيح، أو التذكر، أو التأليف، وحتى لا تعني نفسك بالبحث مرة أخرى·

2 ـ استحضر ما جاء في الموضوع المراد جعله خطبة من آيات، وأحاديث صحيحة من حفظك أو من المعجم المفهرس للقرآن والسنَّة، وإذا ذكرت حديثاً ضعيفاً فكن على علم بحاله جيداً ومع آيات القرآن والأحاديث، استحضر بعض الآثار عن السلف.

وراجع الآيات والأحاديث في شروحها وتفاسيرها وبعض القواميس إن احتجت لذلك مع قليل من شعر الحكمة، وبعض القصص المقبول غير المخالف للكتاب والسنَّة والعقل مع المحافظة على شرط الإيجاز، وكن دائماً حريصاً على معرفة أسماء المراجع التي ترجع إليها، وأكثر من ذلك أن تعرف رقم الجزء الذي رجعت إليه، والصفحة والطبعة·

وحبذا لو بعدت عن الإسرائيليات ما أمكن.

3 ـ اكتب الموضوع كاملاً باختصار إذا كنت مبتدئاً، ثم احفظه، وذلك شاق على النفس، واكتب عناصره بعد تقسيمه إلى عناصر مرتبة ترتيباً منطقياً، المقدمة تسلم إلى الموضوع والعناصر يسلم بعضها إلى بعض، والخاتمة لبيان ضرورة العمل أو الترك حسب الموضوع، وقلل عدد العناصر ما أمكن، فهذا أعون على التذكر، وخصوصاً عند تقدم السن، وقد يلجأ المبتدئ إلى ديوان خطب، فيحفظ منه خطبة، ثم يلقيها، ويحسن اللجوء إلى الدواوين الموجزة كما لا يحسن أن يظل الخطيب معتمداً عليها، لأن ذلك سيمس موهبته، ويضيع شخصيته.

4 ـ تجنب الكتابة المسجوعة، والمحسِّنات البديعية فيما تكتب أو تحفظ، واجعل كلامك مرسلاً عادياً، فهذا أعون على التأثير في الناس·

واترك دائماً صفحات بيضاء في نهاية كل موضوع تكتبه لتضيف فيها بعض ما تلاقيه في أثناء الاطلاع، أو اكتب على صفحة، واترك الأخرى بيضاء.

5 ـ أجعل ذهنك يجول في الموضوع، وتأمل فيه، وانشغل به مركزاً ذهنك فيه، حتى يصير لديك تصور له، ولأفضل الترتيبات التي يكون عليها، وأحسن النتائج التي تترتب عليه وتخيل تأثيره على نفسك، لتعرف مدى تأثيره على غيرك، وحاول أن تلقيه على نفسك منفرداً، فأنت مثل من يسمعونك في تأثيرك وتأثرك·

 

ثالثاً: مرحلة الإلقاء

الإلقاء هو الثوب الذي ستلبسه الكلمات بعد اختيارها لأداء المعاني، ويمثل الإلقاء نصف عناصر النجاح، ولكل معنى ما يناسبه من الكلمات، وما يناسبه من الإلقاء، وهذه خاصية من خواص لغتنا، فالمعاني القوية تختار لها ألفاظاً قوية، والمعاني السهلة يُختار لها ألفاظ سهلة، وانظر في هذا مثلاً قوله - تعالى -: (أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً من سندس واستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقاً) الكهف: 31·

وانظر في المقابل: (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعاً· وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً· الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً) الكهف: 99 ـ 101·

ومما يجب النصح به الارتجال، فمن ليس عنده زاد كثير للإقلال من الوقت، ويحرص على ألا يلقي خطبته مكتوبة على ورقة، وأنا أرى أن القراءة في الورقة تُذهِب سبعين في المئة من عناصر التأثير، وتبقي ثلاثين ولو وزعت على عوامل النجاح ما نال الخطيب القارئ من الورقة نصفها، لذا فإنه يعتبر ضعيفاً جداً·

ويجب ملاحظة ما يلي في مرحلة الإلقاء:

1 ـ وضوح العبارات، بحيث تستفيد منها كل المستويات الثقافية، مع رعاية مقتضى الحال، وتجنب التطويل الممل، والإيجاز المخل، قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: حدِّث الناس ما دحجوك بأبصارهم، وأذنوا لك بأسماعهم، ولحظوك بأبصارهم، وإذا رأيت منهم فترة فأمسك·(2)

2 ـ التجافي عن زخرفة الكلام وتنميقه، وعن ممجوجه وقبيحه، وعن محاكات كلام العامة والسفلة فوق المنبر، وعن التصريح بالأسماء والعائلات والوظائف، فهذا فضح للناس، وتنفير لهم، فالخطابة أدب، وتوجيه بالتي هي أحسن، وتحاشٍ, للاستطراد، حتى لا يتخرق الموضوع، ويجب الحرص على وحدة الموضوع، حتى لا تشتت أفكار المستمعين.

3 ـ قصر المقاطع فهو أعون على المتابعة، وجذب الاهتمام، والتأثير في المستمع، لأن طول المقاطع يقلل الحماس والانتباه، وينوِّم المستمعين· فالقضايا المحتاجة إلى إقناع تحتاج إلى حمية الكلام، وهذا لا يكون إلا في الجمل القصيرة، ومثال هذا في القرآن المكي عموماً، ولذا كان من مزاياه قصر المقاطع، فقد كان يؤسس الجماعة ويبني عقائدها في الله ورسوله، واليوم الآخر.

4 ـ اختلاف نبرات الصوت عند الإلقاء، فلا يكون منخفضاً ميتاً، ولا يكون عالياً صاكاً للأسماع مؤذياً للسامعين، مختلطاً بتشنج الخطيب، وإنما يعلو وينخفض إذا استدعى الموقف ذلك، ففي موقف الشدة يشتد، وفي موقف اللين يلين، وهذا التنويع في طبقات الصوت يجب الحضور للسماع والمتابعة، ويريح الخطيب من متاعب علو الصوت، ويريح آذان المسلمين من تأثير مكبرات الصوت عليهم.

5 ـ ضبط العبارات نحوياً، فالخطأ في الإعراب كالجدري في الوجه، ومن لا يعرف النحو قد يخطئ في قراءة الآيات والأحاديث، ونطق آثار السلف، والحرص على إخراج الحروف من مخارجها مرققة أو مفخمة، كما يحرص على معرفة قواعد القراءة القرآنية، وذلك فيه احترام لنفسه، ولسامعيه، ولكتاب الله، وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كما أن القراءة حسب أصولها تعطي المقروء جمالاً وكمالاً يجعل تأثيره على سامعيه أكثر، يقول الجاحظ: \"ومتى سمعت ـ حفظك الله ـ بنادرة من كلام الأعراب فإياك أن تحكيها إلا مع إعرابها، ومخارج ألفاظها، فإنك إن غيرتها بأن تلحن في إعرابها··· خرجت من تلك لحكاية، وعليك فضل كبير··· ثم اعلم أن أقبح اللحن لحن أصحاب التقعير والتشديق والتمطيط والجهورة والتفخيم\"(3)·

6 ـ إظهار التأثر بما يقال بالتعايش مع الموعظة، فالوعظ نصاب زكاته الاتعاظ، والناس ليسوا أغبياء، والمخلص العامل موصل جيد للعظة، والكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان، وهذه المراحل التي يمر بها تكوين الخطبة هي ما يعبر عنه \"بالإيجاد والتنسيق والتعبير\"(4)، وهي مراحل يسلم بعضها إلى بعض، وقوة العناصر جميعاً تؤدي إلى خطابة قوية، وضعف أي عنصر من العناصر الثلاثة يؤدي إلى ضعف الخطابة، فعلى الخطيب الحرص على قوة خطبته بقوة عناصرها الثلاثة.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1 ـ راجع البيان والتبيين للجاحظ، ج1، ص135·

2 ـ الجاحظ في البيان والتبيين، ج1، ص104، تحقيق عبد السلام هارون، ط الخانجي، ط5، 1405هـ ـ 1985م·

3 ـ راجع البيان والتبيين، ج1، 145: 146·

4 ـ راجع الخطابة للشيخ علي محفوظ، ص28·

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply