المسجد بيت الله ومدرسة المؤمن


 

بسم الله الرحمن الرحيم

  

لا يزال المسجد يقوم بدور تعجِز عن القيام به دول وشعوب بأسرها، ولا يختلف الأمر في فلسطين عن بقية دول العالم، إلا أن الخصوصية التي تميزها تجعل المسجد يمتاز عن بقية المساجد في العالمين العربي والإسلامي.

يقول الشيخ حامد البيتاوي رئيس رابطة علماء فلسطين وخطيب المسجد الأقصى المبارك: \" إن الأراضي الفلسطينية منذ سنوات تشهد صحوة إسلامية واسعة، ورغم مخططات المحتلين الصهاينة التي وضعوها لإبعاد الفلسطينيين عن دينهم فإنها باءت بالفشل، فكانت كثرة بناء المساجد في كافة المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية خير دليل على ذلك، إما بتبرع أحد المحسنين، أو من خلال جمع الأموال من المصلين، وقد تضاعفت عدد المساجد في فلسطين بصورة لافتة للأنظار خاصة بعد عام 1967م، ويستشهد بأن عدد المساجد في مدن جنين وطولكرم وقلقيلية كان ثلاثة مساجد بكل مدينة، أما الآن فيوجد في كل منها ما يربو على 15 مسجداً، وفي نابلس فقد كان عدد المساجد 10، أما الآن فيزيد على 75 مسجداً، حتى أطلق عليها لقب \"مدينة المساجد\".

ويضيف الشيخ حامد أن الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها الفلسطينيون خلال الانتفاضة لم تقف عائقاً في وجه بناء المزيد من المساجد، فقد منع الناس أنفسهم من الطعام والشراب، وتبرعوا بأموالهم لبناء بيوت الله.

فالفلسطينيون يخاطرون بحياتهم للوصول للمسجد خاصة في ظل منع التجول، والحصار الشديد المفروض عليهم، ويخرج الفلسطيني من بيته متوجهاً لأداء الصلاة، وهو يعلم يقيناً أن الدوريات العسكرية الإسرائيلية قد تأتي في أي لحظة وتقف على باب المسجد وتمنع المصلين من الدخول إليه أو الخروج منه، كما أن الجنود قد يطلقون نيران أسلحتهم الفتاكة باتجاه المصلين دون أي رادع، أو احترام لقدسية ومكانة المسجد.

وتشكل صلاتا المغرب والعشاء \"ومن ضمنها صلاة التراويح\" خطراً كبيراً على المصلين خاصة مع حلول الليل، حيث ما تلبث دبابات الاحتلال أن تعود لوسط المدن، وتمنع المواطنين من التجول أو الخروج من بيوتهم، ومع أن كثيراً من الأئمة خلال أيام منع التجول كانوا قد أجازوا للمصلين الجمع بين الصلاتين تيسيراً لهم، وبسبب الخوف وفقدان الأمنº فإن الكثير منهم رفض هذه الرخصة في خطوة اعتبروها تحدياً ورفضاً للخضوع والهوان الذي تحاول الدبابات فرضه كأمر واقع عليهم.

ويقول الشيخ حامد: إن الدين الإسلامي لا يعلّم المسلم الخضوع والإذلال بل يشعره بالتحدي والقدرة على الصمود حتى في صلاته، فهو دين رباط ومقاومة، فالمساجد في فلسطين تحولت لخلية نحل تعج بالحركة والنشاط، وتحول كل ركن من أركانه إلى نقطة إشعاع وعلم، فهناك دورات للقرآن الكريم تخرج مئات الحفظة لكتاب الله، وتدرس أحكام التجويد، وتقام الدروس والندوات، ويتم إحياء المناسبات الدينية.

ويشير إلى أنه مع وجود الاحتلال وسيطرته على كامل المدينة فإن المسجد لا يفرغ من المصلين والدعاة، حيث بات يعمل على ترتيب نفسية الناس، وشحذ هممهم وصمودهم، وجعلهم يرفضون الاستسلام، كما تحول لبؤرة صياغة لنفسية المسلم وخاصة المقاوم، ففي أثناء منع التجول وخاصة أيام الجمع كان لا يتخلف أحد من سكان الحي عن الحضور للصلاة، ويتحول المسجد بعدها إلى مركز للمؤتمرات يتفقد الناس أحوالهم، ويتحدثون في شؤون حياتهم، فيجتمع الإخوة والأقارب، ويطمئن الجار على جاره، لذا فهو يقوم بدور اجتماعي متميز، ويؤثر على سلوك الجميع بصورة إيجابية.

وخلال إغلاق المدارس ومنع المدرسين والطلبة من الوصول لمدارسهم لم يجد الناس سوى المسجد مركزاً يحل مكان المدرسة، فمن خلاله انتشرت فكرة التعليم الشعبي التي ساهمت بدور كبير في استمرار الحياة التعليمية التي هدف الاحتلال الإسرائيلي وأدها.

كما عمل المسجد على المحافظة على القيم والأخلاق الإسلامية، وساهم في الكشف عن السلبيات وحذر منها، فخلال الانتفاضة طفت على السطح العديد من الظواهر السلبية داخل المجتمع الفلسطيني كالتعاون مع العدو الإسرائيلي على سبيل المثال، وكان لخطبة الجمعة دور مميز، حيث يعمد الخطباء إلى تحذير الناس من الوقوع في المحظور وفي شباك المخابرات الصهيونية.

وشكلت \"موائد الرحمن\" التي تقام في المساجد خلال شهر رمضان دوراً كبيراً في تحقيق التكافل والتضامن بين المسلمين، حيث يجتمع المئات حولها في صورة تكيد أعداء هذا الدين العظيم.

ويستغل كثير من الدعاة اكتظاظ المساجد بالمصلين، خاصة في أوقات منع التجول لجمع تبرعات للعائلات الفقيرة، ومساندة حملة دعم الطالب المحتاج، وجمع الملابس المستعملة لتوزيعها على العائلات المستورة.

ويرى الدكتور \"ناصر\" أن التكافل والتضامن الاقتصادي هو نقلة نوعية في دعم المرابطين في فلسطين، والذين يتعرضون لشتى أنواع الاضطهاد والتعذيب على أيدي أقوى ترسانة عسكرية في الشرق الأوسط.

 

مقاومة المساجد:

ويشير الدكتور ناصر الدين الشاعر عميد كلية الشريعة بجامعة النجاح الوطنية إلى أهمية المسجد في دعم المقاومة واستمرار الانتفاضة الفلسطينية، فخلال سنتين من عمر الانتفاضة كان المسجد مركزاً يجتمع فيه الناس وينطلقون بعدها يقاومون المحتل الإسرائيلي الغاشم، فعلى سبيل المثال يمثل مسجد \"النصر\" وهو من أكبر مساجد نابلس نقطة انطلاق للمسيرات والمظاهرات التي تضم عشرات الآلاف الذين يخرجون دعماً للانتفاضة، وداعين لاستمرارها، أو لتشييع جثث الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن أرض فلسطين.

كما يشارك مسجد \"عباد الرحمن\" بمخيم بلاطة مسجد النصر الدور ذاته، حيث تنطلق منه عقب كل صلاة جمعة مسيرة بالآلاف تتجه لوسط المخيم تدعو لاستمرار الانتفاضة والمقاومة، وتحيي الشهداء، وتؤكد على حق اللاجئين في العودة لديارهم المسلوبة.

كما تحول مسجد \"لبيك\" في البلدة القديمة بنابلس لمستشفى ميداني خلال عملية السور الواقي التي اجتاحت بموجبها مئات الدبابات الإسرائيلية المدينة، وتركزت المواجهات داخل أحياء المدينة القديمة استمرت أياماً متواصلة، وسقط خلالها 88 شهيداً بالإضافة لمئات المصابين، حيث تم تقسيم المسجد لكي يستوعب الأعداد المتزايدة من الشهداء والجرحى، وعندما تراكمت الجثث فوق بعضها البعض فتحت باحة المسجد ذراعيها لتحتضنهم في جوفها.

وأضاف الدكتور ناصر أنه عندما أدركت إسرائيل مدى أهمية الدور الذي يقوم به المسجد عملت جاهدة خلال اجتياحها للمدن والقرى والمخيمات الفلسطينية للقضاء كلياً أو محاولة التقليل من دور المسجد في حياة الفلسطينيين، فقامت بفرض منع التجول، مما حال دون وصول عشرات الآلاف من المصلين للمساجد لأداء الصلوات، واستمرت في سياستها هذه لعدة أشهر متواصلة.

ولا يزال مسجد \"عثمان بن عفان\" في نابلس مغلقاً منذ أكثر من أربعة أشهر متتالية، حيث أقامت القوات الإسرائيلية بجانبه حاجزاً عسكرياً يقسم المدينة إلى جزءين منفصلين عن بعضهما البعض.

وعمدت قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى هدم عدد من المساجد بعد قصفها بالصواريخ والقذائف من الطائرات الحربية والدبابات، كما حصل لمسجد \"الخضراء\" في منطقة رأس العين بنابلس، ومسجد \"عز الدين القسام\" في مخيم جنين، وساوتهما بالأرض.

وشكل اعتقال الأئمة والخطباء أولى الخطوات التي وضعتها إسرائيل في سبيل وقف \"العمليات الاستشهادية\" بوصفهم محرضين عليها، وداعين لها، خاصة أن معظم المجاهدين الاستشهاديين هم من أبناء المساجد، ومن الحافظين لكتاب الله، فخلال يومين فقط اعتقلت القوات الإسرائيلية أكثر من 15 إماماً وخطيباً في نابلس وجنين، كما تقوم بعمليات دهم وتفتيش دورية لمعظم المساجد في المدن التي تعيد احتلالها، وتعبث بمحتوياتها بحجة التفتيش عن أسلحة وأدوات تحريضية يستخدمها الفلسطينيون في انتفاضتهم.

ولم يكن المسجد الأقصى المبارك بمنأى عن الاعتداءات الإسرائيلية، فقد انطلقت الشرارة الأولى للانتفاضة الحالية من ساحاته التي شهدت مواجهات دموية بين المصلين الفلسطينيين والجنود الإسرائيليين، حيث سقط سبعة شهداء وعشرات المصابين في حينها، لتعم المواجهات بعدها بقية المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية في خطوة عبر الفلسطينيون بها عن مقدرتهم في تقديم الغالي والنفيس في سبيل الدفاع عن مقدساتهم الدينية.

وأما عن الشعائر الرمضانية التي تقام بالمسجد الأقصى المبارك فإن الفلسطينيين من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال ومن جميع المدن الفلسطينية - سواء من الضفة أو القطاع أو من سكان الأراضي المحتلة عام 1948 - يشدون الرحال للصلاة فيه، حيث يصل عددهم خاصة في الجمعة الأخيرة من رمضان إلى ما يزيد على نصف مليون مصلٍّ,، كان هذا قبل أن تمنع القوات الإسرائيلية مئات الآلاف من المصلين من الصلاة في المسجد الأقصى، حيث أقامت عشرات الحواجز العسكرية على حدود مدينة القدس، وحددت أعمار من يسمح لهم بالمرور، ومنعت الشبان من الوصول للأقصى الشريف.

ونختم بالقول بأن المساجد في فلسطين كما في بقية المساجد في العالم عملت على خلق جيل متجرد وغير متعلق بمتع الدنيا الزائلة إنما له أشواق روحية، فهو من جهة يشعر بلذة عندما يقدم خدماته المجانية لإخوانه المؤمنين، وباللذة عندما يعاني ويضحي دفاعاً عن حقوقهم، أو يسهر على راحتهم، أو يسعى لتحسين أوضاعهم، كل ذلك لا يمكن أن يحدث إلا عندما تكون أساليب التربية والمادة التربوية المقدمة تخدم هذا الغرض، خاصة أننا نعيش على أرض تعاني من وطأة الاحتلال الغاصب، وهذا يفرض وجود كثيرين مستعدين للتضحية من أجل غيرهم، ويعيشون لا لذواتهم ولكن لأمتهم ودينهم، ويتجردون من كل شيء دنيوي إذا لزم الأمر في سبيل مبادئهم وقيمهم النبيلة. 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply