كيف يبني طالب العلم مكتبته ( 1 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

قال السائل: أرى انه من المهم أن نبدأ بمقدمة حول هذا الموضوع نتحدث فيها عن بداية التدوين والتصنيف متى بدأ هذا الأمر؟

قال الشيخ: الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد، فالمقصود بالتصنيف والمصنفات والكتب والمكتبات سوى القرآن الكريم المحفوظ من التبديل والتغيير الذي أنزله الله على نبيه محمد - عليه الصلاة والسلام - وتكفل بحفظه فنحن لسنا بصدد الحديث عن القرآن وكيفية نزوله وكتابته في عهد النبي - عليه الصلاة والسلام - وفي عهد أبي بكر وفي عهد عثمان والحاجة الداعية إلى ذلك. إنما المقصود بالحديث ما سوى القرآن. ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: \" لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن ومن كتب شيئا غير القرآن فليمحه \". جاء النهي عن الكتابة في عهد النبي - عليه الصلاة والسلام - في أول الأمر خشية أن يعتمد الناس عليها وينسوا الحفظ الذي هو أولى ما ينبغي أن يهتم به طالب العلم، أو أهم المهمات فيما يعتني به طالب العلم، فإذا اعتمد على الكتابة نسي الحفظ وضعف الحفظ. ومن أهل العلم من يرى أن النهي متجه إلى كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط القرآن بغيره، فلما دون القرآن وكتب في الصحف وأُمِن ذلك وزال خشية اللبس أُذِن في الكتابة إذنا عاما. ثبت أيضا في الحديث الصحيح أن النبي - عليه الصلاة والسلام - أمر بالكتابة \" اكتبوا لأبي شاه \" وقال أبو هريرة - رضي الله عنه - \" ما كان أحد أكثر مني حديثا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب \". ولعل هذا على حسب وهمه - رضي الله عنه - وأرضاه وأنه كان يتوقع أن عبد الله بن عمرو أكثر منه لأن المكتوب الذي يرى ليس كالمحفوظ فالمحفوظ موجود في الأذهان، لا وجــود لـه في الأعيان فلا يمكن بيان حجمه ما دام موجود في الأذهان، أو كانت مقولة أبي هريرة - رضي الله عنه - قبل الدعوة النبوية لما طلب منه أن يبسط رداءه فبسطه ثم ضمه بعد أن دعا له النبي - عليه الصلاة والسلام - لم ينس شيئا قط وصار بذلك أحفظ الصحابة وأجمع الصحابة حفظا وأكثرهم رواية ولا يقاربه ولا يدانيه أحد منهم ولجمعه هذا الكم الهائل من السنة وهو صحابي جليل دعا النبي - عليه الصلاة والسلام - أن يحببه إلى الناس وأن يحبب الناس إليه، ولذا لا يبغضه إلا منافق نسأل الله السلامة والعافية، ولا يطعن فيه وفي حفظه وعلمه إلا من يطعن في الدين، وفي السنة على وجه الخصوص، لأننا لم نر أحدا طعن في المقلين من صحابة النبي - عليه الصلاة والسلام - لأن الطعن في المقل الذي لا يروي إلا حديثاً أو حديثين هذا ليس له من الأثر ما لأثر الطعن في المكثر، فنسف قدر أبي هريرة نسف لقدر كبير من السنة و من ثم الدين، \" فأبيض بن حمال \" الذي لا يروي إلا حديثا واحدا لم نجد أحداً يطعن فيه. إذ تتبع مثل هؤلاء متعب. بينما الطعن في واحد يحمل السنة أو جل السنة يريح الخصم. والله المستعان. المقصود أن الكتابة أذن فيها بعد المنع، وأجمع العلماء على جوازها، ولا شك أن للكتابة أثر في الحفظ، فالإنسان الذي يعتمد على الحفظ دون الكتابة تستمر حافظته قوية ويستذكر متى شاء والناس يتفاوتون في هذا الباب، لما أذن في الكتابة صار الناس يكتبون كتابات فردية في المائة الأولى ثم لما جاء عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الثانية أمر بن شهاب الزهري بتدوين السنة وهنا جاء التدوين الرسمي للسنة. فصنفت المصنفات في السنة ثم أخذت تزيد قليلا قليلا حتى جمع ما في الصدور مما تفرق في البلدان فصارت المؤلفات هذا بالنسبة للسنة.

 

السائل: ما كتب عن الصحابة كانت كتابات فردية؟

الشيخ: ما كتب عن الصحابة كانت كتابات فردية كل يكتب لنفسه ثم بعد ذلك أمر عمر بن عبد العزيز محمدا بن مسلم بن شهاب الزهري بالكتابة الرسمية ثم تتابع الناس في التأليف والتصنيف فألفت المصنفات والموطآت والمسانيد والجوامع والسنن وغيرها من فنون الحديث الشريف هذا بالنسبة لعلم الحديث. علم اللغة بعد أن فتحت البلدان واختلط العرب بغيرهم وخيف على اللغة، بل وجدت مظاهر اللحن، احتيج إلى التدوين في اللغة. العلوم الأخرى سبب التدوين فيها الحاجة الماسة إليها ثم بعد أن جمعت الأحاديث والآثار عن الصحابة والتابعين ودُوِّن فقه الصحابة وفقه التابعين، بعد ذلك احتاجوا إلى مسائل وحوادث نازلة فاضطروا الناس إلى أن يقيسوا على ما جاء في الكتاب والسنة وما جاء عن الصحابة والتابعين وتوسعوا في هذا الباب فاحتيج إلى تدوين المسائل الفقهية في كتب الفقه على شتى المذاهب، المذاهب الأربعة المتبوعة وغيرها، ثم احتيج أيضا إلى علوم تخدم الكتاب والسنة وتخدم أيضا ما ثبت عن السلف في أبواب الدين. احتيج إلى ما يسمى بعلوم أصول الفقه ومصطلح الحديث وعلوم القرآن وغيرها من العلوم التي تخدم الأصلين الكتاب والسنة فدونت المصنفات وتشعبت وكثرت كثرة بحيث يستحيل الإحاطة بها وما من عالم إلا ولديه مكتبة وما من عالم إلا وله مصنفات إلا ما ندر إلا ما ضاع منها.

 

السائل: هذا بالنسبة لما يتعلق باللغة العربية وما بعدها؟

الشيخ: نعم وما بعدها من العلوم، كل العلوم احتيج إليها، ألفت الكتب الاصطلاحية التي تعين على فهم الكتاب والسنة كما ذكرنا في علوم القرآن ومصطلح الحديث وأصول الفقه، و ظهرت الفرق المخالفة للمنهج السليم الصافي المستمد من الكتاب والسنة ظهرت طوائف البدع بعد أن ترجمت الكتب فاحتيج إلى التصنيف في العقائد والرد على هؤلاء المخالفين.

 

السائل: لكن نستطيع أن نقول أن هذا التصنيف هو البداية الحقيقية لعناية المسلمين بالمكتبات على شتى الأنواع؟

الشيخ: لا هذا بداية التصنيف. أما لما كثرت هذه المصنفات واحتاج الناس إليها ممن يطلب هذا العلم بدأت العناية بالمكتبات الفردية والجماعية الرسمية والشعبية.

 

السائل: هل نستطيع يا شيخ أن نبين هذه المكتبات أشهرها وأين هي؟

الشيخ: على كل حال كثرة الكتب التي أشرنا إليها لا يمكن الإحاطة بها. وجدت محاولات قديمة وحديثة لجمع أسماء الكتب والمصنفات. صنف ابن النديم كتابه الفهرس فجمع أسماء كتب ومدونات كثيرة جدا لا يتجاوز مبلغ علمنا بها حدود عناوينها، لا نعرف عنها إلا العناوين، ثم بعد ذلك ألف حاجي خليفة كتابه الشهير: \" كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون \" فذكر فيه الألوف من أسماء الكتب التي وصلت إلى علمه ثم ذُيِّل عليه بذيول والكل لا يفي بالمقصود وإن أسقط بعض الواجب. \" كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون \" كتاب نافع في هذا الباب مع ذيوله على أوهام فيه فهو لا يسلم من أوهام. وفي تراجم أهل العلم ذُكر منهم من عني بجمع الكتب وهم كثير جدا. هذا أخ للقاضي الفاضل الكاتب المشهور جمع من الكتب ما يملأ البيوت حتى كان عنده من صحاح الجوهري ست عشرة نسخة. الوزير القفطي ت 646 هـ اشتهر بحبه الشديد للكتب وكلفه بجمعها ووصف بأنه جماعة للكتب حريص عليها جدا كما وصفه بذلك عصريه ياقوت الحموي، ومن كبريات خزائن الكتب القديمة التي طار صيتها خزانة الصاحب بن عباد وخزانة القاضي الفاضل فقد تجاوز عدد كتب كل منها 100.000 مجلد، تصور هذا الكم الهائل من الكتب وليست مطبوعة ولكنها كتب قلمية ومخطوطات وهذا شخص واحد هذا الذي يملك 100.000 كتاب. الآن يوجد من المعاصرين من يملك ما يقرب من هذا العدد لكنها مطبوعات يقتني الكتاب عشرة مجلدات عشرين مجلد في لحظة. أما مثل هذه الكتب متى تكتب ومتى تصحح ومتى تقابل ومتى تجمع؟

 

السائل: لكن يعرف مثلا أن هذه النسخة عند فلان في مكتبة فلان معروفة التاريخ وإذا أراد شخص أن يأخذ منها نسخة يأتي وينقلها نقلا أم ماذا؟

الشيخ: إما أن يستعير ويأخذ منها ما يحتاج ويفيد منها. والمتقدمون أهل العناية بالكتب يشددون في مسألة الإعارة ومن قول أحدهم: (ألا يا مستعير الكتب دعني فإن إعارتي للكتب عار) وضاع كثير من الكتب وتشتت شمل كثير من الموسوعات بهذه الطريقة. نظير ما ذكرت من مكتبة خزانة الصاحب بن عباد والقاضي الفاضل ما يوجد عند أبي مطرف القاضي بقرطبة جمع من الكتب في أنواع العلم ما لم يجمعه أحد من أهل عصره في الأندلس وكان عنده ستة وراقين ينسخون له باستمرار بمثابة مطابع عنده ستة أشخاص ينسخون وهذا كله لمكتبته فهو مثلا يجد كتاباً عند فلان أو في المكتبة الفلانية فيحضره للوراقين بإعارة أو بإجارة فينسخون له نسخة من هذا الكتاب إما أنهم يقتسمون الأجزاء أو كل واحد ينسخ له كتاباً معين. أقول لا يخلو عالم أو طالب علم من مكتبة لأنه لا يمكن أن يستغنى عن الكتب، حتى زاد هذا الاهتمام ووصل إلى حد التكاثر والتفاخر. في \" نفح الطيب \" للمقري في وصف قرطبة قال: وهي أكثر بلاد الأندلس كتبا وأشد الناس اعتناء بخزائن الكتب. صار ذلك عندهم من آلات التعين والرئاسة حتى إن الرئيس منهم الذي لا تكون عنده معرفة، يحتفل ويهتم أن يكون في بيته خزانة كتب. وقد يكون لا يقرأ ولا يكتب وينتخب فيها ليس إلا أن يقال فلان عنده خزانة كتب، الكتاب الفلاني لا يوجد إلا عند فلان لا يوجد عند غيره فصارت المسألة تفاخر وتكاثر.

 

السائل: حتى هذا وُجد في هذا العصر فأحياناً بعض علية القوم تجده يهتم بوجود مكتبة نادرة من أجل هذا.

الشيخ: لا شك في ذلك، وأعظم من ذلك وُجد تحف على هيئة كتب تصف في خزائن بحيث يظن أنها كتب، فأين النيات والله المستعان. ؟

 

في \" نفح الطيب \" نقل: قال الحضرمي: أقمت بقرطبة ولازمت سوق كتبها مدة أترقب فيه وقوع كتاب لي بطلبه اعتناء إلى أن وقع وهو بخط فصيح وتفسير مليح ففرحت به أشد الفرح فجعلت أزيد في ثمنه فيرجع إليّ المنادي بالزيادة عليّ إلى أن بلغ فوق حده فقلت له يا هذا أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلّغه ما لا يساوي. قال: فأراني شخصاً عليه لباس الرئاسة فدنوت منه وقلت له أعز الله سيدنا الفقيه إذا كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حده فقال لي لست بفقيه ولا أدري ما فيه ولكني أقمت خزانة كتب واحتفلت بها لأتجمل بها بين أعيان البلد وبقي فيها موضع يسع هذا الكتاب فلما رأيت حسن الخط وجودت التجليد استحسنته ولم أبالِ بما أزيد فيه والحمد لله على ما انعم به من الرزق فهو كثير. قال الحضرمي: فأحرجني وحملني إلى أن قلت له: نعم لا يكون الرزق كثيراً إلا عند مثلك يُعطى الجوز من لا له أسنان و أنا الذي أعلم ما في الكتاب وأطلب الانتفاع به يكون رزقي قليلاً وتحول فقلت ما بيدي بيني وبينه \" أ. هـ. على كل حال الاعتراض على القدر مذموم يعني كون الإنسان يُزاد في رزقه أو يضيق عليه هذا قدر الله. فكل إنسان مكتوب له رزقه وأجله وليس لإنسان أن يعترض وليس بسط الرزق خير على كل حال وليس ضيق اليد شر محض على كل حال والله المستعان.

 

إذا وصل جمع الكتب والعناية بها إلى هذا الحد صارت ممن يلهي ويشغل عن تحصيل العلم والعمل الصالح فيدخل دخولاً أولياً في قول الله - جل وعلا -: \" ألهاكم التكاثر \" لأنه مجرد تكاثر هذا وجد في المتقدمين والمتأخرين.

 

السائل: هذا يا شيخ ما كنت سأسأل عنه لأن بعضهم يتفاخر بأنه وجد عنده مثلاً أوائل النسخ من هذا الكتاب. فهل لهذا مردود؟

الشيخ: أنا بلغني أن بعض الكتب التي يطبع منها أربع نسخ و خمس نسخ تودع في البنوك خشية أن يُسطا عليها. هل هذا مما يوصل إلى مرضاة الله - عز وجل -؟ يكون العلم المطلوب الشرعي ميسر ولله الحمد بدأً من القرآن \" ولقد يسرنا القرآن للذكر \" تجد أرخص الكتب في المكتبات القرآن كقيمة شرائية لا أعني القيمة الأخرى، فلا يوجد كتاب متعبد بتلاوته سوى القرآن لكن القيمة الشرائية، تجد أحوج الناس أو أشد الناس حاجة إلى كتاب تجده أرخص ما يباع وهذا من السنن الإلهية. يعني أحوج ما يكون الناس إلى شيء تجده أرخص شيء. يعني مثلاً ما يحتاجه الناس في مطاعمهم في الأكل والشرب تجده أرخص شيء ثم بعد ذلك الترف. الكماليات أغلى ثم يأتي ما يزيد عليها من أمور السرف أغلى وأغلى.

 

قس على هذا الكتب بالنسبة للقيمة الشرائية أرخص ما يوجد مثلاً القرآن والبخاري ومسلم ورياض الصالحين والأذكار والكتب التي يحتاجها عامة المسلمين تجدها رخيصة ولله الحمد لكن تأتي إلى كتب الناس ليسوا بحاجة إليها.

 

السائل: نسمع أن بعض الكتب تصل قيمتها 50.000 أو 60.000 ريالاً.

الشيخ: نعم القانون لابن سينا بيع بـ 90.000 لأنه طبعة أوربية نادرة وهذا الكتاب وهو القانون لابن سينا تدري أن النووي أدخله في مكتبته فصعب عليه الحفظ حتى أخرجه من مكتبته. أغلى ما يوجد الآن كتب الذكريات، كتب الرحلات. فهل المسلم بحاجة إلى هذه؟ نعم من حيث العبرة، المتعة، الاستجمام يحتاج إلى مثل هذه الأمور لكن أن تصل إلى هذا الحد هذا مبالغة يدخل في حيز السرف. لكن لو احتاج الإنسان إلى صحيح البخاري ولم يجد نسخة إلا بثمن مرتفع نقول:  (لا أسرف في الخير).

 

على كل حال لو وصل الحد في الجمع أو وصل الجمع والنهم في الكتب إلى هذا الحد صار عائقاً عن التحصيل ولا يَعرف هذا إلا من جَرَّب. تحتاج الكتاب وعندك منه عشر نسخ يغطى بعضها على بعض ويصد بعضها عن بعض قد لا تحصل ولا على نسخة. يقول ابن خلدون: (كثرة التصانيف مشغلة عن التحصيل) على الإنسان أن يكون متوسطاً في أموره كلها، ما يحتاجه من الكتب يقتنيه و ما ينفعه عند المراجعة يقتنيه. أما أن يجمع كل كتاب يسمع عنه يحتاجه أو لا يحتاجه ليقال أن عنده من كل كتاب نسخة مصيبة هذه!!.إن الفائدة من جمع الكتب تحصيل العلم الشرعي، والعلم الشرعي من أمور الأخرى المحضة التي لا يجوز التشريك فيها فإذا دخلت النوايا مثل هذه المقاصد ليقال إن عند فلان مكتبة أو عنده أكبر مكتبة خاصة أو عنده اكبر مكتبة هذه حقيقة مرة وقدح ظاهر في الإخلاص وإن وجدت عند بعض المتعلمين نسأل الله السلامة والعافية.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply