ضوابط السلام في شريعة الإسلام ( 1 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم 

مقدمة:

الحمد لله الذي وهبنا العزّة والتمكين، يوم اعتصمنا به وعبدناه، وأعذر إلينا إنذاراً فمسّنا بسياط الذلة والهوان لمّا تمردنا على شريعته وعصيناه، الذي جاد علينا بفائض أنعُمِه فركنّا إلى الفانية ونسيناه، أتقن صنعته، وأحكم شِرعته، وأوصانا بحبله المتين وعُراه، فالتهينا بما دونه فلم نستمسك به وهجرناه. فغفراً غفراً ربّاه.

 

والصلاة والسلام على رسول الهُدى، ونبي التٌّقى، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن والاه، واقتفى أثره، واستنّ بـهداه. أمّا بعد.

 

فقد ندب إليّ بعض الإخوان، أن أُساهم في هذا المنتدى، بورقات، تلم أطرف ما تناثر من \"ضوابط السلام في شريعة الإسلام\"، فأجبتهم إلى طلبتهم، وكلّي في مثل هذا الخِضَمّ ضعف زادٍ,، وفقد مدادٍ,، ثمّ إنّي على يقين أن صفحات معدودات لا تفيº إحاطة بجوانب هذا الموضوع الخطير المتفجّر ولا تكفي، خاصّة ونحن على نزر من علمٍ, بما بذَله الأعداء من اليهود والنصارى وأشياعهم من بني جلدتنا، من جهد عظيمٍ, مضن، ومكر ملتوٍ, في وقت مديدٍ, مفنٍ,، للتوصل إلى إقناع المسلمين الحاضرين بثقافة \"السلام\" الموهوم مع اليهود، بل وليتجرّع نقيع هذا السمّ الأبناء القادمون جيلاً إثر جيل.

 

ورغم أن غضب انتفاضة رجب، كانت قد آذنت بصرم هذه الأكذوبة، ووأد تلك الألعوبة، عقب طول اللهث في بيداء مفاوضات الحلّ النهائي، وتـهللت أسارير أبناء الأمّة، بدفن هذه الجيفة، ومواراتـها في مزبلة التاريخ بلا رجعة. إلاّ أنّ التصريحات الأخيرة المُنكرة، والتي انبعث صداها من أروقة الجامعة العربية، داعية إلى ولوج نفق مظلم آخر، وتسويق مشروع سلام جديد آثم، قد أذكرت الجميع برائحة تلك الجيفة التي ولَّت حذاءً وأوشكت أن تكون في طي النسيان.

 

وفي ذات الوقت أظهرت بجلاء ما تعانيه أُمّتنا من الفصام النَّكِد، والفارق البعيد بين إرادة الشعوب وآمالها، ومرامي وأهداف النٌّخب الحاكمة. إنّها مباينة تامّة، ومناقضة كليّة يحار منها كلّ مراقب. لقد دمّرت هذه الأنظمة شيم الأخلاق السامية شموخاً، والثابتة رسوخاً، والمنبسطة ذيوعاً بين سائر المسلمين رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، حتى شيمَ النخوة العربية، فبلغ الحال سوءاً إلى الحدِّ الذي أغرى كتّاباً أمريكيين إلى القول مؤخّراً: \"إنّ اعتبار غَضبَة الشعوب العربية أمر لا قيمة له\".

 

وا أسفاً، لقد تقرّحت أكباد الغيورين كمداً مما يجري في الأرض المباركة، في فلسطين كلّ يوم مناظر مفزعة متتابعة، تعجز الأبصار عن ملاحقتها، وعربدةٌ صهيونيّة غادرة تُذهِل كُلّ ذي حجى خسّتها. شهيد تلو شهيد، وأرملة تلو أخرى، ورضيع خلف أمّ، وأمّ خلف رضيع، ومنـزلٌ مُهَدَّم، وشيخٌ حزين، وعجوز بائسة! مشاهد حَفَرت معالمها في ثنايا التاريخ، بل في حنايا قلب كلّ مسلم، ملاحم تسطّرها أشلاء الرّجال، بألوان الدم القاني، وجماجم الشهداء، والجميع يراقب ويتفرّج:

 

بغيُ الطّغـاة وذلٌ من ذوي الرحِـمٍ, *** أحلّ سفك دمي في الأشهر الحُرُمِ

 

يا نادب الحظّ أقصـر والتمس عِوَضاً *** إنّ الأمـاني طوع السيف والقلمِ

 

لولا العزائم ما سـادت بـهـا أمم *** بالعزّ ترفـل لا بالعجز والسّقمِ

 

الله أكـبر مـا كـانت لذي وهـن *** ولا تأتت لذي خورٍ, وذي صمم

 

يهتزّ منها طغـاة الأرض إن برقت *** فوق السيوف بأيــدٍ, حرّة وفمِ

 

عـذراً إليكَ صلاح الدين من رهطٍ, *** ولّـو تولّـوك وانتسبوا لمعتصمِ

 

لقد بات الوقوف على فقه السلام والموادعة وضوابطه في الشريعة الغرّاء ضرورياً. لكثرة الوالغين فيه ختلاً وخداعاً، ولجرأة لصوص الألفاظ الشرعية على التلبيس بـها في المُلمّات ظلماً وعدواناً، ووجد الزعماء من ساسة (السلم) الخانع، أنفسهم مضطرين أن يلتمسوا في كلّ حين سوائم من ذوي الجبب والعمائم، يروجون بـهم فواجع الذلّة والاستسلام، كما يسيغون بحلاوة ليِّ ألسنتهم مرارة الزور وبائقات الباطل والبهتان، فبعد أن كانوا بالأمس يعُدون معاهدات السلام مع دولة اليهود دناءة وخيانة، وذلّة للمسلمين ومهانة، ذهب بعضهم ممن لا حياء عنده يقول بجواز تلك المعاهدات التي كانت في أمس الدابر القريب حراماً وذنباً عظيماً، ولا يقنع بذلك حتى يضرب على ما يقوم به المجاهدون الباذلون لأرواحهم في سبيل الله بالحكم عليهم تجريماً وتأثيماً، ليتضاحك اليهود علينا بملء أفواههم!! أما درى هؤلاء الجاسرون من المنتسبين إلى العلم، أنـهم قد أغروا الناس سخرية بذواتـهم؟، وشهدوا على أنفسهم بما قالوا أنـهم من أجهل البشر، لأنّ كل أحد من عامة الناس - ولو كان غلاماً سوقياً، أو عجوزاً أُميّاً - أهل لأن يقال عنه إن لديه من الدراية والعلم ما ليس عندهم. فياله من نطق بباطل كان الصمت للعيِّ في موضعه خيراً لهم وأَستَر عليهم.

 

نعم لقد صارت الحاجة ماسّة إلى تجلية مفهوم \"السلام\" بيد أني بين يدي هذه الورقات قبل الحديث عن السلام أمهِّد بجملة من المقدّمات:

 

المقدمة الأولى: كان من الأساس الطبيعي ديناً وشرعاً، أن يكون الحديث عن فقه السلام والمُصالحة بين يدي فقه الجهاد والقتال في سبيل الله، أي أن يكون إزاء واقع يبدو فيه عَلَم الجهاد عالياً مرفوعاً، يتناسب مع تسنّمه ذروة سنام شعائر الإسلام، لأن \"السلم\" حالة استثنائية تعرض للمسلمين في طريقهم وهم قائمون بفريضة الجهاد دفعاً وطلباً، وماضون في سبيل التمكين لدين الله المرضي في كل الأرض شرقاً وغرباً، فالسلام في ذاته ليس غاية (استراتيجية) يسعى المسلمون لتحقيقها مع الكفّار، وذلك لأنّ مهمة المسلم في الحياة بعد تبصّر الحق والسير في طريق الهدى، أن يلتفت إلى التائهين من الناس من حوله، يمضي إليهم ليخرجهم من ظلمات الجهل والشرك، إلى ضياء الحقّ، ونور الإيمان. والأحكام النهائية التي تنتهي إليها حركة الجهاد الإسلامي، تصل بالنّاس في نـهاية المطاف إلى ثلاثة أصناف: إمّا محاربين يحاربون، وإمّا مسلمين يدينون بدين الحق والإسلام، وإمّا أهل ذمة يعطون الجزية وهم على عهدهم ما استقاموا، وماعدا هذه الثلاثة هي حالات واقعة يسعى الإسلام إلى تغييرها حتى تنتهي إلى هذه الأوضاع الثلاثة التي تمثل العلاقات النهائية. يقول العلامة ابن القيم - رحمه الله -: \"فاستقر أمر الكفّار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمّة، ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محارب له، وأهل ذمّة، والمحاربون له خائفون منه، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب\"[1].

 

وهذا بخلاف الواقع المفروض على الأمّة اليوم من قِبَل الأعداء وأذنابـهم، حيث السلام المزعوم هو المُقدّم رتبة على القتال والجهاد في سبيل الله، مع أنّ ثمّة إجماعاً بين أهل العلم قديماً، على أنّ القتال هو أداة الدولة الإسلامية الحركية لتحطيم القوى التي تقف في وجه بسط الإسلام على العالم، فالعلاقة بين دار الإسلام والعالم هي علاقة قتالية تتقدّمها الدعوة. ولكن من المعاصرين من عَكَس الأمر بسبب التأثر بالأفكار الحديثة عن العلاقات الدولية، فرأَوا أنّ السلم هو أساس علاقة الدولة الإسلامية (دار الإسلام) بالعالم، وعلماؤنا الأسبقون اعتبروا الجانب القتالي مُقَدّماً على الأحكام المرحلية التي أجازت السلم مطلقاًº بينما رأى بعض المعاصرين أن أحكام السلم محكمة وتمسّكوا بـها وأسسوا علاقة العالم الإسلامي (دار الإسلام) بالآخرين على أنّها علاقة دعوة فقط، وهذا مع الأسف نصف الحقيقة، لأن الدولة الإسلامية الحق دولة دعوة وجهاد، وبـهما معاً قوام الدين كله كما قال - تعالى -: ((لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس)) [الحديد: 25]. فمنهج الحق لا يثبت في الأرض إلاّ بالكتاب الهادي دعوة وهداية والسيف الناصر جهاداً ونكاية، وهذا ليس تسلٌّطاً على مصائر البشر للإفساد كما يحلو للأعداء وأذنابـهم أن يصوروه، وإنما ذلك لصلاحهم في دنياهم وآخرتـهم. إن الجهاد تحتاج إليه الدولة الإسلامية الراشدة، كما يحتاج الطبيب إلى استئصال بعض ما فسد من الجسم، إبقاءً على سلامة الجسد كله من العطب والفساد، وكذلك المجاهدون يستأصلون القوة الفاسدة التي تقف في وجه الحق، وتمنع الدعوة والدعاة من أن يبلّغوا الناس دين الله الهادي إلى سواء الصراط.

 

المقدمة الثانية: إنّ مفهوم \"السلام\" من الألفاظ الشرعية القرآنية، فالواجب المحتوم علينا ما دمنا بالقرآن العظيم مؤمنين، ولمعاني مبانيه وحدوده مذعنين، أن نُسلِّم لما دلّت عليه من الأحكام دون العبث بـها، أو إخضاعها لأهوائنا، ناهيك بأن تكون الكلمة ودلالتها نـهباً لمعايير الكافرين، إنّ تصور كثير من أبناء المسلمين لأبعاد السلام ومنطلقاته نابع من المعيار الذي وضعه اليهود والنصارى، أي أعداؤنا أنفسهم. ومن عجب أنـهم صاغوا لضبط علاقتنا بـهم عبر المحافل الدولية التي يهيمنون عليها قسراً وقهراً، معياراً للسلام له مكيالان: لنا أوكسه وأخسره، ولمن يعادينا - أيّاً كان - أرجحه وأربحه، وكم اصطلينا بنار هذا المصطلح الغربي، في كل جولة مفاوضات يكون فيها المسلمون طرفاً خصماً برعاية المنظمات الدولية، ومع ذلك فإن ساستنا ما طاوعتهم أنفسهم أن يراجعوا هذا المفهوم، ويعودوا به إلى أصله الشرعي الذي يحفظ للأمّة مصالحها. ولكن أنى لهم ذلك ومبادئهم \"كسحابة الصيف وإلمامة الطيف\" يمرون على رزايا الأمّة \"مرّ السحاب\" دون أن يرفّ لهم جفن، ودلائل إخلاصهم لدينهم وأمتهم أبعد من مناط الثريا. وقد أتاح هذا لأعدائنا التمويه علينا دوماً بطريقة متقنة تمكّنهم من انتهاج المناهج المتعددة، مستفيدين في كل حين من تغير المناخ السياسي كاستفادة الحرباء من تنوع الألوان المحيطة بـها.

 

المقدمة الثالثة: ما دام الحديث عن \"السلام\" من حيث وجهته الأساسية هي: \"ضوابطه الشرعية، وشرائطه المرعيّة\"، فإنه يجدر التنبيه إلى أنّ الضابط والشرط من صميم الحد، ولذلك أحياناً ما يُعرب عنه في سياق التعريف فيذكر بالنص، وإلاّ لزم التنبيه عليه في مقدمة البيان عن الشيء المشروط، وذلك لتوقّف وقوع المشروط - كوناً وقَدَراً، أو شرعاً وديناً - على استصحاب الشرط وحصوله، ولذلك من الخطورة بمكان أن نجازف بوضع الشرط، دون أن ينتصب دليل شرعي معتبر على وجوده وقيامه، لما في ذلك من التعسير والإجحاف، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"ما بال أناس يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له، وإن شرط مائة شرطٍ,، شرط الله أحقّ وأوثق\" [رواه البخاري ومسلم]، وفي لفظ للبخاري: \"ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحقّ، وشرط الله أوثق... \".

 

وفي المقابل أيضاً إذا تقرر شرط بدليل الشرع نصّاً، أو أظهره مؤهل له إلمام بالشريعة، ومن سياق الأدلة - بأي مسلك معتبر من مسالك النظر والاستنباط لدى العلماء - فلا يجوز بعد ذلك إهمال الشرط، أو تجريد المصطلح الشرعي منه، بحيث يحاول بعض الجافين التوصل إلى المشروط خالياً من ضابطه وشرطه لإيقاعه اعتسافاًº ذلك أنّ انعدام الشرط الصحيح لازمه عدم وقوع المشروط صحيحاً.

 

معاهدات السلام في أدلّة الوحي:

قد رأيت توطئة لكلام أهل العلم في تعريف \"السلم\"، وتأصيلاً لمسائله ولبيان صحة ما توصلوا إليه من الضوابط. أن نصل إلى ذلك المبتغى بسير حميدº من خلال النظر في الأدلّة الواردة في الكتاب والسنّة، وإلقاء بعض الضوء عليها، لما يكتنف بعضها من إشكاليات تفسيرية، أوردها من أوردها من العلماء، فإذا انجلى لنا الفهم الصحيح في كلّ منهاº يسر ذلك علينا دراسة الضوابط المستنبطة من أدلّة السلام مع الأعداء.

 

نصوص القرآن الكريم:

وردت معاهدات السلام في كتاب الله العزيز في مواطن، وذلك عند حديث القرآن عن العلاقات بين المسلمين والكافرين، هذا وإن كنّا في البداية سنتناول هذه الآيات موضعاً موضعاً، إلاّ أن النظرة الأصولية الفقهيّة تحتّم علينا تناولها مع أدلّة السنة النبوية كوحدة موضوعية متكاملة، وهذا مهم لتصوّر الأحكام الشرعية الغائبة التي تَضبط بناءَ هذه العلاقات.

 

أولاً: آية الأنفال: وهي أصرحها في بيان حكم مشروعيّة \"السلام\" مع الأعداء، يقول الله - تعالى -: ((وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم)) [الأنفال: 61].

 

من الخطأ الفادح أن نروم إدراك تأويل آية منتزعة من سياقها، أو معزولة عن سائر ما يتعلّق بـها لأنّ من عواقب هذا المسلك في كثير من الأحيان، وقوع خطأ في الفهم، أو قصور في التأويل، وغالباً ما يؤثر ذلك مآلاً، في تحديد نوع الحكم الشرعي وتقديره. وحين أغفل بعضهم هذه القاعدة المهمّة، في تفسير هذه الآية، ظنّ أنّ السلام والجنوح إليه هي الحالة الطبيعية التي تستقر عليها علاقة المسلمين بغيرهم.

 

إن آية السلام جاءت في سياق الحديث عن الإعداد للجهاد، والاستعداد بكلّ عتاد ممكن لقتال أهل الشرك والعناد، قال - تعالى - في الآية التي سـبقت آية السلم: ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)) [الأنفال: 60]، وهكذا يُحدِثُ الإعدادُ بكلّ قوّة، فِعلَه في قلوب الكافرين، إرهاباً يزعزع أفئدتـهم، وتخويفاً ورعباً يزلزل الأرض من تحتهم كما قال - صلى الله عليه وسلم -: \"نُصِرتُ بالرعب مسيرة شهر\"، وكما قال حين فرّ اليهود أمامه في خيبر قائلين: \"محمد والخميس\"، قال: \"الله أكبر خربت خيبر، إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين\"، فعند ذلك ومع المضي في القتال، والكفِّ من بأس الكافرين. يفتّ صمود المسلمين في عضد الأعداء، فيجنح من يجنح منهم إلى المسالمة والمصالحة والمهادنة، فاجنح لها، أي فمل إليها واقبل ذلك منهم.

 

ذلكم سياق الآية، وأما ما بعدها، فهو التحريض الصريح على ذات النسق الأول في تأكيد أمر الجهاد والقتال، فيقول - تعالى -: ((يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين، يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون)) [الأنفال: 64 - 65].

 

إذن الآيات موضوعها العام هو الجهاد وقتال المسلمين لكل كفور، سباقاً وسياقاً. وأمَّا المسالمة والموادعة فإنما هي حالة تخص حكم قوم من أهل لكفر، مالوا إلى المصالحة. بل إنّ من السلف كابن عبّاس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخرساني وعكرمة والحسن وقتادة قالوا: إنّ هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة ((قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)) [التوبة: 29]، ولكن هذا فيه نظر كما قال الطبري - رحمه الله -: \"لا دلالة عليه من كتاب ولا سنّة ولا فطرة عقل، وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره على أنّ الناسخ لا يكون إلاّ ما نفى حكم المنسوخ من كلّ وجه، فأمّا ما كان بخلاف ذلك فغير كائن ناسخاً، وقول الله في براءة: ((فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)) [التوبة: 5]، غير نافٍ, حكمه حكم قوله: ((وإن جنحوا للسلم فاجنح لها))، لأنّ قوله: ((وإن جنحوا للسلم)) إنمّا عُنِيَ به بنو قريظة، وكانوا يهوداً أهل كتاب، وقد أذن الله جلّ ثناؤه للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم الحرب على أخذ الجزية منهم..

 

أما قوله: ((فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)) فإنما عني به مشركو العرب من عبدة الأوثان، الذين لا يجوز قبول الجزية منهم، فليس في إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى، بل كلّ واحدة منهما محكمة فيما أُنزِلت فيه\"[2].

 

ثانياً: آية سورة القتال \"محمد - صلى الله عليه وسلم - \": ((فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم)) [محمد: 35].

 

قرأ حمزة وشعبة بكسر السين ((السِّلم))، وقوله - تعالى -: ((فلا تـهنوا))، أي لا تضعفوا وتذلوا، ومنه قوله - تعالى -: ((فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله)) [آل عمران: 146]... وقوله - تعالى -: ((وأنتم الأعلون)) جملة حاليّة، أي فلا تضعفوا عن قتال الكفار وتدعوا إلى السلم، أي تبدؤوا بطلب السلم أي الصلح والمهادنة وأنتم الأعلون. أي والحال أنّكم أنتم الأعلون أي الأقهرون والأغلبون لأعدائكم، ولأنكم ترجون من الله من النصر والثواب ما لا يرجون.

 

وهذا التفسير في قوله ((وأنتم الأعلون)) هو الصواب. وتدلّ عليه آيات من كتاب الله كقوله - تعالى - بعده ((والله معكم))، لأنّ من كان الله معه هو الأعلى وهو الغالب وهو القاهر المنصور الموعود بالثواب. فهو جدير بأن لا يضعف عن مقاومة الكفار ولا يبدأهم بطلب الصلح والمهادنة\"[3].

 

والسّياق الذي جاءت فيه الآية، هو خطاب المؤمنين، ودعوتـهم إلى مواصلة الجهاد بالنفس والمال، دون تراخ أو دعوة إلى مصالحة الكافرين، مهما كانت الظروف، وأنَّ ذلك هو الأولى والأكمل لأهل هذا الدين. ورُوي عن ابن عباس أن هذه الآية ناسخة لآية الأنفال، وقال السٌّدي وابن زيد: معنى الآية: إن دعوك إلى الصّلح فأجبهم ولا نسـخ فيها. قال ابن العربي: وبـهذا يختلف الجواب عنه، وقد قـال الله - عز وجل -: ((فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم)) [سورة محمد: 35] فإذا كان المسلمون على عزّة وقوّة ومنعة جماعة عديدة، وشدّة شديدة فلا صلح كما قال:

 

فلا صلح حتى تطعن الخيل بالقنا  وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم[4]

 

\"فالصحيح أنّ آية القتال هذه لا تعارض بينها وبين آية الأنفال حتى يقال إن إحداهما ناسخة للأخرى، بل هما محكمتان وكل واحدة منهما منـزلة على حالٍ, غير الحال التي نزلت عليها الأخرى. فالنهي في آية القتال هذه في قوله - تعالى -: ((ولا تـهنوا وتدعوا إلى السلم)) إنما هو عن الابتداء بطلب السلم. والأمر بالجنوح إلى السلم في آية الأنفال محله فيما إذا ابتدأ الكفار بطلب السلم والجنوح لها، كما هو صريح قوله - تعالى -: ((وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله)) الآية\"[5].

 

إن خلاصة الجمع بين الآيتين: أن المهادنة وعقد السلام لا يجوز إلاّ عندما يتحقق ما جاء في آيات سورة محمد - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال - تعالى -: ((إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم، فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم)) [محمد: 34-35]، فقد حدّدت هذه الآية عدم جواز بدء طلب السلم أو المهادنة، إلاّ إذا تحقق ما يريده الله: من أن المسلمين يكونون هم الأعلون، وبالتالي فإنـهم لا يطلبون السلام، ولكن يمنحونه لغيرهم إذا طلب العدو، لما فيه من مصلحة الناس، من حيث تمكينهم من سماع كلمة الله حتى تقوم الحجة على الناس، فلا يكون للناس على الله حجّة بعد الرسلº ولهذا جاء الإسلام ووضع أحكاماً لأهل الذمّة من أجل أن يتحقق المبدأ الأساسي في الإسلام، الذي أشار إليه قوله - تعالى -: ((لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)) [البقرة: 256].

 

ثالثاً: آيات سورة النساء: ((إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً، ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبيناً)) [النساء: 90-91].

 

هاتان الآيتان دليل على إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل الإسلام إذا كان في الموادعة مصلحة للمسلمين. كما مرَّ في آيتي الأنفال والقتال.

 

فالآية الأولى قوله - تعالى - ((إلا الذين يصلون إلى قوم)) الآية، فهؤلاء قوم استُثنوا من عموم الأمر السابق بالقتال، وهم الذين يجيئون إلى المصافّ، وقد حصرت صدورهم: أي ضاقت، مبغضين أن يقاتلوكم، ولا يهون عليهم أيضاً أن يقاتلوا قومهم معكم بل هم لا لكم ولا عليكم ((ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم)) أي من رحمته بكم أن كفّهم عنكم ((فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم)) أي المسالمة ((فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً)) أي فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين فحضروا القتال وهم كارهون كالعبّاس ونحوه، ولهذا نـهى النبي يومئذٍ, عن قتل العبّاس وأمر بأسره.

 

وأمَّا قوله - تعالى -: ((ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم)) الآية، فهذا فريق آخر في الصورة الظاهرة كمن تقدّمهم، ولكن نيّة هؤلاء غير أولئك، فإن هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه الإسلام ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم، ويصانعون الكفار في الباطن فيعبدون معهم ما يعبدون.. وحكى ابن جرير عن مجاهد أنـها نزلت في قوم من أهل مكّة كانوا يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا، فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا، ولهذا قال: ((فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم)) المهادنة والصلح، ((ويكفوا أيديهم)) أي عن القتال ((فخذوهم)) أسراً، ((واقتلوهم حيث ثقفتموهم)) أي أين لقيتموهم ((وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبيناً)) أي بيناً واضحاً[6].

 

رابعاً: قول الله - تعالى -: ((براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين)) [التوبة: 1].

 

هذه براءة، أي تبرؤ من الله ورسوله ((براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين))، وأحسن الأقوال في مصير هؤلاء المعاهدين بعد نزول آية السيف ما قاله ابن جرير: \"وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: الأجل الذي جعله الله لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدّته، فأمّا الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه، فإنّ الله جلّ ثناؤه أمر نبيّه - صلى الله عليه وسلم - بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدّته، بقوله: ((إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين)) [التوبة: 4].

 

وذكر البغوي: أنه لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك أرجف المنافقون، وأخذ المشركون ينقضون عهودهم، فأنزل الله الآيات بالنسبة لهؤلاء مع إمهالهم أربعة أشهر، إن كانت مدة عهدهم أقل، أو قصرها على أربعة أشهر إن كانت أكثر.

 

وحتى تتضح لنا صورة هذا الانتقال التشريعي ننقل ما قاله العلاّمة ابن القيم في بيان علاقة الجهاد مع السلم من كتابه الفذ \"زاد المعاد\" حيث يقول: \"أول ما أوحى إليه ربّه - تبارك وتعالى - أن يقرأ باسم ربّه الذي خلق، وذلك أوّل نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه: ((يا أيها المدثر، قم فانذر)) [المدثر: 1-2]، فنبأه بقوله: ((اقرأ))، وأرسله بـ ((يا أيها المدثر))، ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته يُنذر بالدعوة بغير قتالٍ, ولا جزية، ويُؤمر بالكفّ والصبر والصفح.

 

ثم أُذن له في الهجرة، وأذن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل مَن قاتله، ويكفّ عمن اعتزله ولم يُقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كلّه لله، ثم كان الكفّار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صُلح وهُدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة، فأُمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة، نبذ إليهم عهدهم، ولم يقاتلهم حتى يُعلمهم بنقض العهد، وأُمر أن يقاتل من نقض عهده، ولمّا نزلت (سورة براءة) نزلت ببيان هذه الأقسام كلّها، فأمره أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجهاد الكفّار والمنافقين والغلطة عليهم، فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان.

 

وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفّار، ونبذ عهودهم إليهم، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قسماً أمره بقتالهم، وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له، فحاربـهم وظهر عليهم، وقسماً لهم عهدٌ مؤقّت لم ينقضوه، ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم إليهم عهدهم إلى مدّتـهم، وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأُمر أن يؤجلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت قاتلهم، وهي الأشهر الأربعة المذكورة في قوله - تعالى -: ((فسيحوا في الأرض أربعة أشهر)) [سورة التوبة: 2]، وهي الحُرُم المذكورة في قوله: ((فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين)) [التوبة: 5]، فالحُرُم هاهنا، هي أشهر التسيير، أولها يوم الأذان وهو يوم العاشر من ذي الحجة وهو يوم الحجّ الأكبر الذي وقع فيه التأذين بذلك، وآخرها العاشر من ربيع الآخر، وليست هي الأربعة المذكورة في قوله ((إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم)) [التوبة: 36]، فإن تلك واحد فرد وثلاثة سرد: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، ولم يسير المشركين في هذه الأربعة فإن هذا لا يمكن، لأنـها غير متوالية، وهو إنما أجّلهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم، فقتل الناقض لعهده، وأجّل من لا عهد له، أو له عهد مطلق أربعة أشهر، وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدّته، فأسلم هؤلاء كلّهم، ولم يُقيموا على كفرهم إلى مدّتـهم، وضرب على أهل الذمّة الجزية\"[7].

 

----------------------------------------

[1] - زاد المعاد لابن القيم 3/160.

[2] - تفسير الطبري: 6/278 279.

[3] - أضواء البيان: 7/596.

[4] - القرطبي: 8/41.

[5] - أضواء البيان: 7/597.

[6] - تفسير القرآن العظيم: 1/474.

[7] - ابن القيم، زاد المعاد في هدي خير العباد: 3/158، 159، 160.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply