بسم الله الرحمن الرحيم
في يوم عيد مبارك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقاسم زوجه عائشة بهجة العيد في بيتها، ويعيش معها فرحتهº إذ سمع جلبة وهزيجاً، فإذا هم الأحباش قد دخلوا ساحة المسجد ومعهم حرابهم ودرقهم (تروس من جلد)، وجعلوا يرقصون في المسجد على طريقتهم ويهزجون بلغتهم، وكان مشهدهم طريفًا ومبهجًا، فأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - على زوجه عائشة وناداها: يا حميراء، أتحبين أن تنظري إليهم؟ قالت: نعم، وددت أني أراهم، فوقف لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على باب حجرته، وجاءت هي من ورائه، فوضعت ذقنها على كتفه، وألصقت خدها بخده، وألقى عليها رداءه يسترها به، وهي تنظر إلى لعب الحبشة، والنبي ينظر معها إليهم. ويغريهم بمزيد الحماس في استعراضهم قائلاً: دونكم بني أرفدة (وهو لقب الحبشة)، وازداد حماسهم بهذه المشاركة الشعورية من النبي - صلى الله عليه وسلم -وهم يرقصون بين يديه، ولم يسعفهم في التعبير إلاّ لغتهم، فجعلوا يتكلمون بكلامهم الذي لا يفهمه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: \"ما يقولون؟ \" قيل: يقولون محمد عبد صالح، قالت عائشة: لم أعلم من كلامهم إلا قولهم: أبا القاسم طيبًا أبا القاسم طيبًا.
وبينما هم كذلك إذ دخل عمر المسجد، فرأى مشهدًا لم يعهده، فسارع بطبيعته المبادرة إلى الإنكار، وأهوى بيده إلى حصباء المسجد يرميهم بها، مستنكرًا فعلهم ذلك في ساحة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: دعهم يا عمر، فإنهم بنو أرفدة، (أي أن هذا شأنهم وطريقتهم). ثم أقبل عليهم قائلاً: أمنًا بني أرفدة، أي: (العبوا بأمان)، وذلك حتى يهدئ من روعهم بعد أن أفزعهم عمر. ثم جعل يستثيرهم قائلاً: العبوا بني أرفدة حتى تعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة، إني بُعثت بحنيفية سمحة.
واستمر اللعب والأهازيج والاستعراض بالمهارات الحربية الحبشية بالحراب الدرق ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف لعائشة ينتظر فراغها من الاستمتاع بالمشاهدة حتى إذا ظن أنها اكتفت بما رأت قال لها: أما شبعت؟! أما شبعت؟! وكانت جارية حديثة السن عروبًا حريصة على اللهو، فما يكفي رسول الله من المشاهدة لا يكفيها، ولذا قالت: يا رسول الله، لا تعجل عليّ، فقام - صلى الله عليه وسلم - لها حتى إذا ظن أنها اكتفت، قال لها: حسبك؟ قالت: يا رسول الله، لا تعجل عليّ. حتى إذا طابت نفسها من النظر إلى اللهو استشرفت إلى حاجة نفسية أخرى لا تقل في وجدانها أهمية عنها، وهي أن ترى منزلتها في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - ومكانتها منه.
ولذا استأنته لما قال لها: حسبك، قائلة: لا تعجل عليّ، قالت: وما لي حب النظر إليهم ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه. حتى إذا استوفت رغباتها النفسية من اللهو والشعور بالمنزلة والمكانة عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وملّت من قيامها ذلك. قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: حسبك؟ قالت: نعم. قال: فاذهبي..
ولم يملّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قيامه لها حتى ملّت هي، ولم ينصرف حتى انصرفت هي، وبقيت ذكرى هذا المشهد ومذاقه في نفس عائشة، فكانت تتحدث عنه وتقول: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجلي، ولم ينصرف حتى كنت أنا التي انصرفت.
وثمة وقفات مع هذه القصة:
1- جميل الرعاية النبوية لمشاعر زوجه والتلطف في إسعادها، وإدخال الأنس إلى نفسها.. فهو - صلى الله عليه وسلم - الذي بادر بالعرض عليها أن تشاهد لعب الحبشة، وناداها لذلك بأسلوب التمليح والتدليل \"يا حميراء\"، وهو وصف جمال في البيئة العربية، ثم وقوفه لها بهذه الطريقة الحميمية التي تشعر بالمودة والرحمة، خدها إلى خده وذقنها على عاتقه\"، ثم قيامه لها، ولم ينصرف حتى انصرفت هي. إنها باقة من لمسات الحنان والإسعاد والإيناس والإغداق لمشاعر الرحمة والحب.
2- اختيار الحبشة المسجد للعبهم يوم العيد دلالة على أن المسجد لم يكن صومعة عبادة بل ميدان حياة تُقام في الشعائر، وتُعلن فيه المشاعر، وكما تُقام فيه الصلاة، وتُجمع الصدقات، وتٌقسم الغنائم فهو ساحة اجتماعٍ, لإعلان الفرح، وبذا ارتبطت الحياة بالمسجد، واستوعب المسجد شعب الحياة.
3- اتساع بوابة الإسلام بحيث تستوعب الثقافات المتنوعة، فالحبشة عبروا عن فرحهم بأسلوبهم الخاص الذي لا يشبه أسلوب العرب، فاللعب بالحراب حضارة حبشية وأهازيجهم بلغتهم الحبشية.
ومع ذلك استوعبهم مجتمع الرسالة الأول من غير أن يفقدوا خصوصيتهم وطريقة تعبيرهم.
4- مع أن هذا الموقف كان لحظة أنس ولهو، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله موقف دعوة وتعليم، ومرّر من خلاله بيانًا عمليًا وقوليًا \"حتى تعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة، إني بُعثت بالحنيفية السمحة\". لقد كانت كل مناحي حياته صلوات الله وسلامه عليه- متشربة لمهمته العظمى الدعوة وبلاغ الرسالة.
5- قال الحافظ ابن حجر: \"في هذا الحديث من الفوائد مشروعية التوسعة على العيال أيام الأعياد بأنواع ما يحصل لهم به بسط النفس وترويح البدن، وأن إظهار السرور في الأعياد من شعار الدين\"أ. هـ.
6- أقرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - الحبشة على أسلوبهم في الاحتفال بالعيد، والذي لم يكن مألوفًا لدى العرب، مما يدل على اتساع أنواع التعبير عن الفرح بالعيد وتنوّع أشكال الاحتفاء به بما يتناسب مع اختلاف الناس في أوطانهم وأزمانهم وأعمارهم.
7- أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - المساحة الواسعة من السماحة واليسر في رسالته، فليس دينه مختصرًا في قائمة محظورات أو محاصرًا بخنادق لمحرمات، ولكن ثمة السماحة والفسحة، وهي الأصل في أمور الحياة والتحريم استثناء قليل من ذلك (وَسَخَّرَ لَكُم مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ جَمِيعًا مِنهُ)، وبهذا وضعت عن البشرية الآصار التي كانت في الأديان السابقة.
فلتعلم اليهود والنصارى أن في دينه فسحة، وأنه جاء بالحنيفية السمحة، وأنه الذي يحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد