عاشوراء يوم عظيم يحدثك!


بسم الله الرحمن الرحيم

 

عاشوراء يوم عزة وتمكين، يوم مغفرة وتطهير، يوم شكر وتحدث بالنعم، ما أعظم معانيه! وما أجل عظاته!

لك فيه أيها المؤمن وقفات لا ينقطع نفعها، ومعين لا ينضب صفاؤها، ورؤى تقر بها العين أفسح ما تكون رحابة وسعة، ودع عنك دعاوى أقوام أحدثوا فيه أقوالاً وأفعالاً ما أنزل الله - تعالى- بها من سلطان.

فقف، وتفكر، وسر بيقين دربك إلى موعود ربك، واعلم أن الأيام شواهد فاستوقفها تنطق لك ملء سمعك وفؤادك، فاستنطق شهادة هذا اليوم ليحدثك بما يلي:

أولاً: هذا اليوم يحدثك أن العاقبة لمن اتقى، وأن نصر الله - تعالى- لأوليائه قريب، وأن الكافر وإن غرته مهلة الزمان، وركن إلى قوة رأى بها أنه الأغلب والأظهر فقال: "من أشد منا قوة"º فإن أمره إلى بوار، وقوته إلى صغار، ومنظور عينه سراب، ما قاد نفسه إلا إلى هلكة وعذاب، ففرعون رأى في قوته وملكه ما دعاه أن ينادي ويقول: " أنا ربكم الأعلى"، فإذا عاقبة لم يحسب لها حساباً صار بها أسفل ما يكون أرضاً، وما استطاع أن يعلو حتى على الماء الذي تعلوه أضعف الكائنات خلقة.

فيوم عاشوراء دليل على تنوع النصر بالنسبة للمسلمين، فقد لا يكون النصر على الأعداء بهزيمتهم والغنيمة منهم، بل أحياناً يكون النصر عليهم بهلاكهم، وكفاية المسلمين شرهم كما حدث مع موسى - عليه السلام -، وكما حدث مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الخندق.

ثانياً: هذا اليوم يحدثك أن النعم حين لا يقارنها الشكر فهي مهددة بالزوال، فبالشكر تدوم النعم وتزيد، فلما كانت النجاة لموسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - في هذا اليوم سارع بالشكر والتحدث بالنعمة بأن صام ذلك اليوم لله - تعالى-، ولذلك أيضاً صامه نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وأمر بصيامه، فكانت نجاة موسى - عليه الصلاة والسلام - وقومه من فرعون منَّة كبرى أعقبها موسى بصيام ذلك اليوم، فكان بذلك وغيره من العبادات شاكراً لله - تعالى-º إذ العمل الصالح شكر لله كبير قال ربنا - عز وجل -: ((اعمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكراً وَقَلِيلٌ مِّن عِبَادِيَ الشَّكُورُ ))[سبأ: 31]، وأساس الشكر مبني على خمس قواعد: الخضوع للمنعم، وحبه، والاعتراف بنعمته، والثناء عليه بها، وألا تصرف النعمة فيما يكرهه المنعم.

والبشر مهما بالغوا في الشكر قاصرون عن الوفاء، فكيف إذا قصّروا وغفلوا عن الشكر من الأساس؟!

والشكر يكون بالفعل كما هو بالقول حتى عند الأمم السابقة، فقد صامه موسى - عليه السلام - شكراً لربه - سبحانه -، وهذا منهج الأنبياء كما فعل داود - عليه السلام -، وختاماً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته بالليل، فلما سئل عنها قال: ( أفلا أكون عبداً شكوراً ) متفق عليه.

ثالثاً: هذا اليوم يحدثك أن الولاء معقود بين المؤمنين بإيمانهم وإن تباعد أمد الزمان، وامتد طرف المكان، وأن الكافرين لا حظ لهم في ذلك الولاء وإن ادعاه من ادعاه بهتاناً وزوراً، فاليهود وإن جمعهم مع موسى  - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - نسبهم من بني إسرائيل، إلا أن الأحق به ولاء واتباعاً هم المؤمنون الصادقون، وهكذا تتوحد المشاعر، وترتبط القلوب مع طول العهد الزماني، والتباعد المكاني، فيكون المؤمنون حزباً واحداً هو حزب الله - عز وجل -º فهم أمة واحدة، من وراء الأجيال والقرون، ومن وراء المكان والأوطان، لا يحول دون الانتماء إليها أصل الإنسان أو لونه، أو لغته أو طبقته، إنما هو شرط واحد لا يتبدل وهو تحقيق الإيمان، فإذا ما وجد كان صاحبه هو الأولى والأحق بالولاية دون القريب ممن افتقد الشرطº ولذا استحقت هذه الأمة ولاية موسى دون اليهود المغضوب عليهم: ((إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُم أُمَّةً واحِدَةً وأَنَا رَبٌّكُم فَاعبُدُونِ ))[الأنبياء: 29]، وعَن ابنِ عَبَّاسٍ, - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قَدِمَ المَدِينَةَ فَوَجَدَ اليَهُودَ صِيَاماً يَومَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُم رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (مَا هَذَا اليَومُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟) فَقَالُوا: هَذَا يَومٌ عَظِيمٌ أَنجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَومَهُ، وَغَرَّقَ فِرعَونَ وَقَومَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكراً فَنَحنُ نَصُومُهُ!!، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (فَنَحنُ أَحَقٌّ وَأَولَى بِمُوسَى مِنكُم ) فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ" متفق عليه عند البخاري (2004) ومسلم (1130).

رابعاً: هذا اليوم يحدثك أنك من أمة لها من المكانة أسماها، وأن التطلع إلى بضاعة مخالفيها دنو تذل به النفس، وتضيق به النظرة، فكان على أفرادها اجتناب التشبه بأعدائها إبقاء للتميز، وحفاظاً على سمو المكانة، ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمخالفة اليهود في صيام هذا اليوم بأن يصام التاسع معه، فقد روى مسلم(1134) من حديث عَبدَ اللَّهِ بنَ عَبَّاسٍ, - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا - يَقُولُ: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يَومَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَومٌ تُعَظِّمُهُ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (فَإِذَا كَانَ العَامُ المُقبِلُ إِن شَاءَ اللَّهُ صُمنَا اليَومَ التَّاسِعَ )، قَالَ: فَلَم يَأتِ العَامُ المُقبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

خامساً: هذا اليوم يحدثك بأنه يوم صوم له من فضائل الصوم العامة التي لا تغيب عنك، وأخرى تحبها النفس فصيامه يكفر ما مضى من أيام عامك المنصرم، وأنت قريب عهد بها، ولا تدري كم من مثقال قد كتب عليك! وكم من ذنب فعلت! فقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صيام عاشوراء فقال: ( يكفر السنة الماضية ) رواه مسلم 1162 من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه -، قال البيهقي: وهذا فيمن صادف صومه وله سيئات يحتاج إلى ما يكفِّرهاº فإن صادف صومه وقد كُفِّرت سيئاته بغيرهº انقلبت زيادة في درجاته.

سادساً: هذا اليوم يحدثك أن أمر العبادة قائم على الاتباع، فلا يجوز إحداث عبادات لم تشرع، كما لا يجوز تخصيص عاشوراء ولا غيره من الأزمان الفاضلة بعبادات لم ينص عليها الشارع في ذلك الزمن، فالتعرض لنفحات الله - عز وجل - يكون باتباع شرعه، واقتفاء أثر نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيها.

سابعاً: هذا اليوم هو العاشر من أيام عامك الجديد، تبدأ معها مرحلة من مراحل حياتك وأنت لا تدري متى ينقضي أجلك فيها، فلتكن بداية طريقك دائماً المسارعة في الخيرات، والمبادرة إليها، واجعل حياتك قربات تتطلع بها إلى رضوان مولاك ومنازله العلا.

جعلني الله وإياك من أهل طاعته ورضوانه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply