بسم الله الرحمن الرحيم
هذا إنذار جديد بعثت به المقادير، أرجو أن نتخذه على محمل الجد هذه المرة في العالم العربي.ذلك أننا جميعاً تابعنا أصداء إعصار كاترينا الذي ضرب جنوب الساحل الأميركي، وما زالت تداعياته ودروسه محل لغط كبير في داخل الولايات المتحدة وخارجها، لكن أحداً لم ينتبه إلى أن في القصة جانباً يهمنا ورسالة علينا أن نتلقاها. وهي لا تهمنا وحدنا في حقيقة الأمر، وإنما تعني أيضاً كل أهل السواحل والذين لهم علاقة جغرافية بالبحار والمحيطات.
لقد كانت مدينة نيو أورليانز ضحية عاملين، أولهما موقعها تحت سطح الماء، بين نهر المسيسبي في الجنوب وبحيرة بونتشارترين في الشمال، وهو ما جعلها أشبه ما تكون بصحن كبير ينتظر الامتلاء، أما الثاني فهو إعصار كاترينا، الذي كان يتحرك بسرعة 140 ميلاً في الساعة، ويحمل قوة تعادل قنبلة نووية من عيار 20 ميجا طن، تنفجر كل عشرين دقيقة. وبسبب قوته وعنفوانه فإنه كل يوم كان يغرق في الطين رقعة من المدينة تعادل مساحة 33 ملعب كرة قدم أميركية، الأمر الذي أسفر عن الخراب الهائل الذي تحدثت به الركبان في أنحاء المعمورة.
الحدث الجلل كان له صداه في هولندا، التي وصلتها الرسالة بسرعة، لأن نصف البلد يقع تحت سطح البحر، الأمر الذي يعرضها لاحتمالات مماثلة، لم تكن بعيدة عن أذهان المسؤولين في الحكومة، الذين خططوا منذ عدة عقود لمواجهة الاحتمال الأسوأ. وكانت هولندا قد شهدت قبل أكثر من نصف قرن (عام 1953) عاصفة هائلة، أسفرت عن مقتل 1500 شخص وأدت إلى تدمير مئات الجسور والمساكن، الأمر الذي اعتبر كارثة وطنية في حينه. وبسبب من ذلك وضعت الحكومة خطة لمدة 30 سنة ـ كلفتها 3 مليارات دولار ـ لتعزيز قدرات الجسور وتشييد شبكة ضخمة من القنوات والجزر الاصطناعية، إضافة إلى إقامة 62 ممراً ـ بطول ميل ونصف الميل ـ للسيطرة على دخول وخروج مياه بحر الشمال في المناطق المنخفضة بالأقاليم الجنوبية.
بعد الذي أحدثه إعصار كاترينا، تجدد الحوار بين الخبراء الهولنديين حول مدى كفاية الاحتياطات التي اتخذت لتجنيب البلاد كارثة مماثلة. ذلك أن بعضهم ارتأوا أن الأوضاع تغيرت مع حلول القرن الواحد والعشرين، حيث تزايد عدد السكان وتغير الطقس من جراء ظاهرة الاحتباس الحراري. وهي ملابسات أدت إلى كثرة عدد الفيضانات، وجددت القلق على مصير البلاد.
وقد أشارت التقارير الصحافية إلى أن دراسة مهمة جرى إعدادها خلال السنوات الخمس الأخيرة، سوف تعلن خلال شهر يناير (كانون الثاني) القادم، وستحدد حجم احتمالات المخاطر المحتملة، خصوصاً في ظل المؤشرات التي دلت على أن هولندا تحيطها مياه ترتفع بنسب مقلقة، في الوقت الذي تنخفض فيه أرضيتها بشكل مستمر. حيث تبين أن أراضي تلك الدولة الصغيرة انخفضت بمعدل 12 قدماً خلال الألف سنة الماضية، وأن مياه البحر المحيطة تزيد بمعدل يتراوح بين 23 و39 بوصة كل مائة عام.
ما دعاني إلى هذا الاستطراد أن عالمنا العربي ـ منطقة الخليج بوجه أخص ـ ما زالت تعيش فورة البناء في البحر، بعدما ظهرت الموجة في دبي أولاً، ثم لقيت هوى عند آخرين، فانتشرت في مختلف دول الخليج تباعاً، وهو ما فتح الباب واسعاً لإنفاق مليارات الدولارات، واستنزاف أموال الناس وإغراقهم في الديون، دون انتباه كاف إلى حجم المغامرة ـ المقامرة إن شئت الدقة ـ في الموضوع.
لقد أطلقت تنبيهاً وتحذيراً من الانجراف وراء هذه الصرعة مرتين في أعقاب إعصار تسونامي الذي ضرب السواحل الآسيوية في بداية العام الحالي، وأشاع فيها الخراب والدمار، على النحو الذي يعرفه الجميع. وشجعني على ذلك نفر من الخبراء العرب، الذين أزعجتهم هرولة من يملكون ومن لا يملكون نحو إلقاء أموالهم في البحر، استجابة لإغواء شركات الاستثمار، التي ما برحت تدغدغ مشاعر الناس وتشجعهم على الانتقال من حياة البر والاستمتاع بالحياة وسط مياه البحر وهي العملية التي تتكلف مبالغ طائلة، تصل إلى عشرة أضعاف تكلفة البناء في البر.
لم تمل تلك الشركات من نشر الإعلانات التي حاولت فيها طمأنة أصحاب الأموال إلى أن الأمر خضع لدراسات واسعة النطاق، حصنت المشروع ضد تقلبات الدهر. وليس عندي ما يبرر التشكيك في تلك المعلومات، إلا أن التجارب التي نعرفها دلت على أن نسبة المغامرة في العملية تظل قائمة، وأن كل الاحتياطات التي تتخذ لا يمكن أن تضمن صمود عمليات البناء في البحر أمام كافة الاحتمالات، حيث يظل البحر خارج السيطرة في نهاية المطاف. في الوقت ذاته لا يغيب عن فطنة القارئ أن كل من يروج سلعة يسعى إلى المبالغة في تصوير حسناتها وجدواها، ويغض الطرف عن عمد أو غير عمد عن مساوئها. الأمر الذي يدعوني إلى القول بأنه مع كل الاحترام والتقدير لما نشر على ألسنة الخبراء من حجج وبيانات مطمئنة ومشجعة في الموضوع، إلا أنه لا تزال هناك آراء مقابلة لخبراء تدحض ما يسوقونه من حجج وترد على كل ما يستندون إليه من بيانات ودراسات، وهو ما دعاني في مرة سابقة إلى اقتراح عقد طاولة مستديرة تضم خبراء الفريقين لاستجلاء غوامض الأمر والتوصل إلى اتفاق حول النقاط الخلافية فيه. ومن أسف أنه تم تجاهل الدعوة، لكني لا أستطيع في هذا المقام أن أتجاهل حقيقة أن الشركات التي تبنت فكرة البناء في البحر توافرت لها مكاسب خرافية.
إن المرء لا يستطيع أن يكتم دهشته وهو يرى تهافت الناس على تبديد أكبر ثروة وإلقائها في البحر، في حين أن الأرض من حولهم واسعة، والصحاري مترامية الأطراف، بوسعهم أن يعمروها ويستمتعوا بخيراتها، ولا يدفعون لقاء ذلك سوى عشر ما يرمونه في البحر لاقتناء بيوت تحيط بها المخاطر التي لا تخفى على كل ذي عينين.
لقد تلقينا إنذاراً أول في مستهل العام مع إعصار تسونامي، وها نحن نتلقى إنذاراً ثانياً من خلال إعصار كاترينا، ولا أعرف ما إذا كان ذلك سيحرك لدينا شيئاً أم لا، لكن المشهد يذكرني بالطرفة ذات الدلالة التي تقول إن فيضاناً اجتاح قرية حتى ملأ شوارعها بالماء. وظل منسوب المياه يرتفع في الشوارع إلى حد أقلق الناس الذين اندفعوا لمغادرة بيوتهم مستعينين بقوارب استحضروها لنجدتهم. ووصلت المياه إلى بيت راهب القرية الذي خرج إلى الشارع، فاقترب منه صاحب أحد القوارب لينقذه، ولكن الراهب رفض قائلاً إن الرب هو الذي سيتولى إنقاذه، فتركه الرجل ومضى، ثم تقدم نحوه قارب آخر ودعاه صاحبه إلى الركوب معه، بعد أن غطت المياه جسمه، فاستمر الراهب على موقفه محتجاً بأن الرب سينقذه. وإزاء استمرار رفضه، غرق الرجل وصعدت روحه إلى السماء، حيث استقبلها أحد الملائكة، فقالت للمَلَك، هل يعقل أن يترك الراهب للغرق لأنه رفض أن تمتد إليه يد البشر بالإنقاذ، وكان واثقاً من أن يد الرب هي التي ستنقذه؟ وعندئذ قال المَلَك إن الرب بعث إلى صاحبك مرتين بمن ينقذه، ولكنه فوّت الفرصة الأولى التي لاحت له، كما فوت الثانية، ولأن الرب لا يجامل المغفلين، فكان لا بد له أن يغرق!
أسأل الله أن يجنبنا ذلك المصير، لكنني لا أستطيع أن أتجاهل أننا تلقينا إلى الآن رسالتين لكي ننتبه ونحذر، ولكننا لم نعتبر!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد