ضيف مثير ... في أول ليلة من العام الدراسي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

كان ضيفي غريبًا في كل شيءº شديد بياض الشعر، شديد سواد الثياب، يرى عليه أثر السفر، يقول كلامًا عجيبًا أبعد ما يكون عن هيئته... إلا أنه كان رغم كل هذا باعثًا على التفاؤل بشكل مذهل.

اعتدت بعد صلاة العشاء من كل يوم جمعة أن أصلي صلاة الليل في المسجد بدلًا من البيت، وأظل أصلي وحدي بعد انصراف المصلين لما يقرب من الساعة حتى إن حارس المسجد اعتاد أن يوكل إلي مهمة إطفاء الأنوار وأجهزة التكييف و إغلاق المسجد في كل ليلة سبت.

إلا أنني في هذه الليلة ولأول مرة قد لاحظت امرأً يصلي معي من الليل، ورائي قليلًا في الركن الخلفي الأيمن من المسجد، وكلما زدت ركعتين يزيد معي. أحس به، فألتفت بين كل ركعتين لأجده يسلم عن يمينه ويساره، وما أن أقوم لركعتين جديدتين أحس به يقوم كذلكº كما لاحظت أكثر من مرة أنه يرقبني كمن يتحرى خروجي. كان وجوده، ومن ثم ملاحظتي له، قد أخلا بتركيزي، وبدأت الوساوس البغيضة تأخذ من صلاتي ومن خشوعي، فتذكرت أن الليلة هي ليلة بدء العام الدراسي، وتذكرت –استرسالًا أنني قد أكملت للأولاد كافة المستلزمات من الأدوات المدرسية إلى الملابس إلى المواصلات، لذلك كان علي أن أوتر وأن أخرج، فما دامت الوساوس قد بدأت تنهمر على رأسي، والخشوع قد تبدد، وبما أنه ليس للمرء من صلاته إلا ما وعى، فليس هناك داع للاستمرار في حركات قيام وقعود ليس لها من الصلاة إلا الاسم. وحدث ما توقعته ودار في خلدي إذ قد رافقني الرجل لحظة الخروج من المسجد.

 

 «السلام عليكم»

 «وعليكم السلام»

 «مساء الخير»

 «مساء النور»

 «هل تعرف فلانا؟ » (وكان شخصًا قد غادر الحي منذ سنوات إلى جهة لا يعلمها أحد من السكان)

 «لقد رحل من هنا»

 «لا حول ولا قوة إلا بالله! »

 «خير إن شاء الله؟! »

 «أنا عابر سبيل، تقطعت به الأسباب وقصدته لأبيت عنده الليلة فقط»

 «على الرحب والسعة يا عزيزي... بيتنا يسعك». واصطحبته إلى المنزل ضيفًا.

 

أخذ الضيف مكانه في «المجلس»، ودلفت إلى الداخل لأجلب «دلة» القهوة، واتصلت بمطعم قريب ليرسل وجبة عشاء دسمة إلى المنزل. ثم جلست إلى الضيف أقدم له القهوة بانتظار إبريق الشاي الذي يسبق العشاء في العادة، فبادرني الضيف بسؤال مباغت:

 «تبدو مشغول الذهن؟ »

 «أبدا ليس هناك شيء.. فقط غدًا هي بداية العام الدراسي، ولدي أولاد وبنات يدرسون، ولابد للبال أن ينشغل قليلًا»

«بم ينشغل البال وكل شيء على ما يرام؟ »

 «من قال لك إن كل شيء على ما يرام؟ من يروم لأبنائه مدرسة تستأجر عمارة سكنية؟! »

«متى آخر مرة زرت فيها المدرسة؟ »

«العام الماضي»

«خلال الإجازة تم تدشين مجمع مدارس البنين في غربي حيكم، كما تم تدشين شقيقه مجمع مدارس البنات في شمال الحي، وجرى تزويدهما بكافة المستلزمات التعليمية، وغدًا سيتوجه أبناؤك وبناتك إلى المجمعين.. ألا تدري وأنت من سكان الحي؟!! أخباركم وصلتنا ونحن بعيد!! »

لم أساله من أين قدم، وكيف علم هو ولم أعلم أنا؟.. فقد امتلأت نفسي بالغبطةº يا الله! لم أكلف نفسي طوال الإجازة بالسؤال عن مصير المجمعين المدرسيين اللذين بدأ العمل فيهما منذ سنوات، أخيرًا سيدرس أبنائي في مبانٍ, أعدت خصيصًا كمدارس.

أدرك أن الجهة التعليمية التي تقدم خدمة التعليم العام في البلاد قد واجهت، ومنذ مطلع التسعينيات الهجرية من القرن الرابع عشر الهجري (سبعينيات القرن العشرين الميلادي) نموًا سكانيًا هائلًا رافقه إقبال اجتماعي غير مسبوق على التعليم، مما اضطر هذه الجهات إلى التوجه نحو استئجار مبان سكنية لتقديم الخدمات التعليمية فيها كمبان مدرسية، وهذه المباني التي لم تعدّ أصلًا لتكون مدارس أضحت مشكلة تعليمية في المملكة من وجهين: الأول كونها غير صالحة لممارسة العملية التعليمية التربوية لعجزها عن تقديم الحد الأدنى من المرافق المدرسية اللازمة للحياة المدرسية النموذجية، والثاني تكلفة الإيجار التي تعد هدرًا تربويًا بكل المقاييس، ولكن وقد حلت مشكلة حينًا فالعجلة قد بدأت تدور.

فاجأني الضيف، قاطعًا انثيال أفكاري، مقرّرًا:

 «أنت تفكر ولا شك بمشكلة المباني المدرسية على مستوى الوطن»

« تخمين ذكي! »

«أنا أقرأ ما يدور في ذهنك من خلال عينيكº وأود أن أطمئنك»

«تطمئنني بخصوص ماذا؟ »

«يا عزيزي لدي مصادر موثوقة تقول إنه بنهاية هذا العام الدراسي سوف لن تكون هناك مدرسة مستأجرة على امتداد الوطن»

«أنت واثق من مصادرك الموثوقة؟! »

وأخذ الضيف يتكلم بثقة مثيرًا استغرابي حد الدهشةº فالرجل يبدو أميًا: «سوف تنتهج بدءًا من الغد أساليب تعاقد طويلة الأجل مع القطاع الخاص والمؤسسات الأهلية المتخصصة في سبيل توفير مبان مدرسية تتوفر فيها على الأقل الحدود الدنيا للمبنى المدرسي النموذجي، وسيجري التخلص تدريجيًا خلال العام الجديد فقط من المباني المستأجرة، وسيفتح باب التبرعات والهبات والصدقات في مجال المباني المدرسية وإنشائها. لا بل ستطور المدرسة كمؤسسة اجتماعية بما يكفل وجودها كشركة بين نظام التعليم والمجتمع، وسيتم تحقيق كل ما تتطلبه هذه المؤسسة/الشركة من قيادة، وإدارة محترفة، وأهداف أكثر وضوحًا، ومتابعة لنموها، ومعايير لأداء العاملين فيها، وتدريب مستمر لكافة منسوبيها، ودعمها فنيًا وماديًا واستشاريًا وإعلاميًا».

ذهلت وأخذت أتفحص الضيف بريبة وشك شديدين، إلا أنه بحديثه قد بعث في نفسي قدرًا كبيرًا من التفاؤل والأمل، ولهذا قررت أن التمر لا يكفي مع القهوة المرة، فاتصلت بمحل الحلويات القريب من الدار ليرسل على الفور طبقًا فاخرًا من الحلويات الشرقية أقدمه للضيف المثير مبالغة في الاحتفاء.

 

كان الضيف شديد النهم، وكان يتحدث وهو يزدرد أصناف الحلوى، ويلحقها برشفات طويلة من القهوة ويلجمني بمفاجآته.

«أزيدك من الشعر قصيدة»

«هات»

«في هذه السنة الجديدة سيدرس أبناؤك مناهج حديثة لم يعرفها التعليم من قبل»

«هاه؟! »

«نعم! وقد اطلعت على أهم ملامح هذه المناهج»

استويت في جلستي، وركزت نظراتي إلى وجه ضيفي العجيب، الذي أخذ يتحدث، وهو يواصل ازدراد الحلوى ورشف القهوة بشهية، ويتكلم بلغة علمية رصينة، في تناقض صارخ مع مظهره.

قال الضيف المثير: «سوف تبنى المناهج، لا بل قد بنيت وستفذ غدًا، على أساس احتوائها على: المادة العلمية والمعرفية القابلة للزيادة والتعديل والتطوير، ومهارات حل المشكلات والاستكشاف والتقصي والتفكير المنهجي، ومشاركة المتعلم في عملية التعلم عن طريق عدة أساليب حديثة كالتعليم التعاوني، والحوار، والمناقشة، والعصف الذهني، ولعب الأدوار، والاستقصاء وغيرهاº وكل ذلك في إطار من المشاركة الإيجابية من قبل الطالب. ولكن سوف لن يتم التخلي نهائيًا عن الحفظ والتلقين في بعض المواد والعلوم، رغم الدعوات لهذا الإجراء، فعلى سبيل المثال هناك أساسيات دينية وقيمية وثوابت لابد من ترسيخها في عقول الصغار حفظًا وتلقينًا، ثم دراستها بتوسع وبأساليب أخرى في مراحل لاحقة، ومن أبرز هذه الثوابت القرآن الكريم، والحديث الشريف، ومفردات العقيدة الإسلامية. وعلاوة على ذلك سيدخل الحاسب الآلي واللغة الإنجليزية في المراحل الأولى من التعليم، نظرًا لما تفرضه الضرورة في المستقبل القريب. كما سيجري التحول، وفق ما تقتضيه الحاجة وبطرق متعددة، من مفهوم التعليم إلى مفهوم التعلم، وتنمية مهارات الطلاب لهذا الغرض الملح. وهناك تطوير للمكتبات المدرسية بإدخال شبكات المعلومات إليها وتنمية مهارة الوصول إلى المعلومة من قبل الطالب ذاتيًا بواسطة هذه المصادر. وسيتم بناء «بنوك نموذجية للأسئلة» تحتوي على نماذج غير محصورة من الأسئلة ومهارات وأغراض استخدامها، وتدريب المعلمين على الوصول إليها والاستفادة منها في سبيل تقويم عصري للطلاب. وهناك توجه أصبح قرارًا بتحويل النشاط الطلابي إلى مدخل أساسي للعملية التعليمية، ومسرحًا وإطارًا واسعًا لها بشكل فعلي وعملي، بدلاً من كونه نشاطًا إضافيًا مكملاً، فقد أجريت بحوث ودراسات حددت نتائجها وتوصياتها آليات العمل التي تحقق التعليم من خلال النشاط الطلابي! ».

 

حديث الضيف لا يمل، وعليه فقد هرعت إلى الداخل، لأحضر إبريق الشاي، وأنا أسابق الثواني. جلست بين يدي الضيف العجيب جلسة التلميذ بين يدي الشيخ. فاتكأ الضيف بتراخ وثقه وقال بتقعر واضح:

«أنت تدرك أهمية الإدارة للتعليم بلا ريب؟! »

 «بلا ريب! »

«لا تتصور أن الإصلاح التعليمي الذي دارت عجلته قد أهمل هذا النشاط الضروري للتعليم»

«بشر! بشرك الله بكل خير»

مد الضيف بصره إلى سقف المجلس، وأخرج مسبحته ليعبث بها بأصابعه، وأخذ يتحدث كأنما يقرأ من كتاب مفتوح: «سيتم مع بداية هذا العام الدراسي تبني الأسلوب اللامركزي في الإدارة التربوية، فقد تم إعداد وتدريب كوادر إدارية تربوية قادرة على اتخاذ القرار السليم والصائب والمتوافق مع الأهداف والسياسات التعليمية العامة في أماكن عملها. وهذه الكوادر قادرة على الابتكار والإبداع في حل المشكلات التعليمية المختلفة، وقادرة على خفض تكاليف الجهاز الإداري التربوي، بما في ذلك إدخال تقنية المعلومات وتراسلها، وتجيير التوفير المالي بهذا الأسلوب لصالح العملية التعليمية الفنية الأساسية. وتم التنسيق بين الجهات المشرفة على التعليم لتحاشي الازدواجية الإشرافية، وجرى تأهيل المعلمين الراغبين في الإشراف التربوي والقادرين عليه تأهيلاً فنيًا وعلميًا عاليًا، وستطبق تجارب جديدة في هذا المجال كالمعلم المتعاون والمعلم الأول والتدوير الوظيفي».

مد ضيفي إحدى ساقيه وباعد بين فخذيه، وبدأ يوسع من تناوله لحقل الإدارة التعليمية والتربوية: «لقد جرى إعداد كوادر وطنية مؤهلة تأهيلاً عاليًا في تخصصي التخطيط التربوي واقتصاديات التعليم، وجرى بالفعل إيجاد إدارات فرعية لهذه التخصصات في الإدارات التعليمية المختلفة وفي الجامعات والمعاهد والكليات. والدراسة مستمرة للسياسة التعليمية وخطط التنمية، والتنسيق بينهما جارٍ, للخروج بخطط تربوية مناسبة، والتخطيط التربوي في انسجام وتكامل مع التخطيط العام للبلاد، والتخطيط مستمر على هيئة خطط طويلة الأجل تتضمن خططًا قصيرة الأجل وفق احتياجات البلاد المتوقعة، وكل ذلك بناء على مؤشرات مستقبلية استخلصت من بحوث علمية متخصصة أعدت ومولت خصيصًا لهذا الغرض. ولم يتم إهمال البعد العالمي المتمثل في المتغيرات الأخيرة في مجالي الاقتصاد والإعلام على وجه الخصوص. وقد تم تكوين مجالس ولجان دائمة مشتركة للتربويين وأصحاب القطاع الخاص، للعمل على تحقيق الانسيابية بين التعليم وسوق العمل، روعي من خلالها حاجات سوق العمل، مع دعم هذا التخطيط بتنفيذ سياسات توطين الوظائف بحزم. أما مشكلات الهدر التعليمي المتمثل في الأمية والرسوب والتسرب، فقد أوشكت على التلاشي إثر تبني سياسة تعليم إلزامية تراعي المجانية والعدالة بين الجنسين في الفرص التعليمية، مع إيجاد نظام تقويم مرن يقوم على أساس ميول واتجاهات الطالب بحيث لا يجبره على الإعادة والرسوب في مواد لا يميل إليها أو غير أساسية».

 

قررت أن أقدم طبقًا من المكسرات ليحلو تناول الشاي ويصبح أكثر متعة للضيف، فيكون –حتمًا أكثر جودًا في تشنيف مسامعي بهذا الحديث. بدأ الضيف على الفور بتهشيم المكسرات بين فكيه، ملحقًا إياها برشفات من أقداح الشاي التي أخذت أقدمها له تباعًا وبحرص، ودون أن يتوقف عن حديثه الذي بدأ يدور حول التخوم الفلسفية للتربية وأصولها:

«هل تخشى على أصول التربية الإسلامية لأبنائنا في خضم هذا التطوير؟ »

« ربما»

«هل تخشى أن تتصارع تيارات اجتماعية محافظة وأخرى تقدمية فيضيع التعليم في معتركها؟ »

«الأمر وارد»

«هل تخشى على التربية الإسلامية لأبنائنا من تأثرات الانفتاح الإعلامي ومخاطره وشروره؟ »

«لست وحدي! أنت كذلك.. »

«لا يا عزيزي، كل شيء سيكون أكثر إشراقا مما تصور»

«أنا في أمس الحاجة لأن تطمئنني»

اعتدل الضيف في جلسته وأخذ يتكلم بهدوء وتركيز مستخدمًا كلتا يديه في تأكيد كلامه: «سوف تبقى أهداف تربيتنا وفلسفتها مستمدة من الإسلام معتزة بكل ما جاء به، مهما تعالت الأصوات هنا أو هناك مدعية اندماج الثقافات وفقدان الهويات. الأمر الذي لا يعني عدم إمكان التعديل والحذف والإضافة لمواكبة التغيرات، ولكن في حدود الإطار العام لهذه الفلسفة وهو الإسلام العظيم الخالد!. ومع ذلك سيدخل البعد المستقبلي إلى الفكر التربوي الوطني، فقد أعطي هذا البعد حقه في مقابل بعدي الماضي والحاضر، وكما قلت لك فقد ربطت التربية المستقبلية في البلاد بمطالب التنمية، وجرى العمل على تحقيق التكامل والانسجام بين أهدافهما. من ناحية أخرى سيجري قريبًا توقيع مواثيق شرف إعلامية تؤكد وتراعي أخلاقيات وقيم الأمة وإلزام الفضائيات العربية بها، وفي إطارها سيجري توعية الممولين والمعلنين العرب والمسلمين بواجبهم تجاه أخلاق وقيم الأمة، وضرورة قصر دعمهم على وسائل الإعلام الملتزمة بهذه الأخلاق والقيم. وقد جرى التعاقد مع المحطات الفضائية المتخصصة في بث دروس نموذجية تستقبل في صالات عرض خاصة معدة في المدارس، وبث دروس مسائية توجيهية وتعليمية لكافة فئات المجتمع، إضافة إلى إنشاء قنوات تعليمية وفق التخصصات والمراحل التعليمية المختلفة ودعمها وتمويلها، ونشر الثقافة التربوية وتبسيطها وتوعية فئات المجتمع بمجالاتها المختلفة عبر وسائل الإعلام، علاوة على العمل على كسب الرأي العام – إعلاميا لصالح خطط وبرامج المؤسسات التعليمية، مع ضرورة الاستفادة من النقد البناء والهادف».

 

كان الطباخ الذي أعد طعام العشاء موفقًا إلى حد بعيد في طهي هذا الجدي البري الذي نتناهشه أنا والضيف. وكان حديث الضيف، مع لحظة انقضاضنا على الجدي المطهي طهيًا عربيًا رائعًا مزينًا بالزبيب والمكسرات المقلية، قد وصل إلى ركن العملية التعليمية الركين، فقد وصل الحديث إلى المعلم وشؤونه وقضاياه ومشكلاته.

كان الضيف منهمكًا في حديثه، قدر إنهماكه في تمزيق لحم الجدي والتهام شحمه، ولذلك كان يتحدث والدسم ينز من بين شفتيه سائلًا من بين شعرات لحيته شديدة البياض متقطرًا على صدر ثوبه شديد السواد، كان يأكل ويتحدث غير عابئ بي، سمعت أم لم أسمع علقت أم لم أعلق:

«لقد جرى تحديد معايير صارمة لاختيار المعلم تكفل معلمًا سويا خلوقًا قدوة محترفًا علميًا ومهاريًا وفنيًا، وسيتم تأهيل المعلم تأهيلًا علميًا عاليًا متخصصًا يكفل استمرار تعلمه وملاحقته للجديد في مجال عمله، مع إلزام المعلم على رأس العمل بحد أدنى ضروري من التدريب التربوي الذي سيكون متاحًا بيسر، وستبذل وسائط التعلم والتدرّب الذاتي للمعلمين من كتب وأقراص مدمجة وبرامج إعلامية وتسجيلات وغيرها، وكل ذلك سيترافق مع النهوض بالمستوى المهني للمعلم معنويًا و ماديًا و مهنيًا».

ولم يكف الضيف عن مواصلة الانقضاض على الجدي الشهي، محولًا يديه للبحث عن أطايبه من كبد وقلب وأحشاء ورأس وما شابهها، محولا في نفس الوقت وجهة الحديث الرائع نحو البحث التربوي وتفعيل توصياته:

«لقد تم رفع ميزانية البحث التربوي بسخاء إيمانا بالمردود المادي والفني الذي يعود به على العملية التعليمية، وسيعلن غدًا عن تشجيع البحوث التربوية ودعمها ماديًا عن طريق التكليف والتفرغ العلمي للمعلمين والأكاديميين المتميزين والتنسيق بين الجهات التعليمية والجامعات والكليات لتوجيه مشاريع التخرج للدراسات العليا نحو معالجة المشكلات التعليمية القائمة وإجراء البحوث الميدانية وتسهيل مهمتها والاقتصاد في البحوث النظرية التي تشكل ترفًا معرفيًا في غالب الأحوال، وتوفير المعلومات والإحصاءات اللازمة للبحوث التربوية وبذلها للباحثين، وتجاوز مفاهيم السرية والتكتم والحظر في هذا الخصوص، لتحصل الفائدة المرجوة من المعلومات والإحصاءات».

 

انحسرت المائدة عن أضلاع الجدي وعظام سيقانه وأفخاذه بعد أن جردناها – أنا والضيف مما كان يكسوها من لحم، وكان المنظر داعيًا للكف عن الطبق الرئيس، والتحول نحو الفاكهة. كان ضيفي العزيز ينزع قشر الفاكهة بأظفاره الطويلة الخشنة، وكان ينظر إلى كل ثمرة من ثمرات الفاكهة جيدًا بعد تجريدها من قشرها وكأنما يودعها، ثم يقذف بها بين فكيه ويعصرها ممتصًا عصيرها عازفًا عن الألياف التي يلفظها، لكن هذا لم ينسه حديثنا الذي أدخل السرور إلى قلبي، فواصل يقول:

«سوف تسمع وتشاهد وتقرأ بدءًا من الغد التوعية الإعلامية للمجتمع ومتخذي القرار، بجدوى و ضرورة التعليم ما قبل المدرسي والتعليم الفني والتعليم العالي، والتربية الخاصة ورعاية الموهوبين، وضرورة دعم هذه الأشكال من التعليم بالكوادر والإمكانات والبحوث اللازمة لتوسيع خدماتها وتطويرها. وستشهد قريبًا دمج المرحلتين الابتدائية والمتوسطة في مرحلة واحدة للتعليم العام هي «مرحلة التعليم الأساسي»، وستقف على تمهين التعليم الثانوي. وسيطبق أسلوب «الشجرة التعليمية» كهيكل مرن للتعليم بدلاً من أسلوب «السلم التعليمي» الذي عفا عليه الزمن، وستقرأ نتائج البحوث والدراسات المقارنة مع بلدان أخرى، وستلاحظ التوسع في القبول للتعليم العالي ليشمل ما لا يقل عن 80% من خريجي التعليم العام، وستلاحظ بوضوح تنويع تخصصاته وتحديث مناهجه وطرائق التدريس فيه، ومراعاة مناهجه وتخصصاته لحاجات التنمية وسوق العمل، واستحداث أساليب جديدة لتمويل هذا التعليم، كاتباع سياسة التخصيص المدعوم من قبل الدولة والتعليم بالإقراض والهبات والمنح التعليمية و كليات المجتمع… وغيرها».

 

اعتدت أن أقدم لضيوفي إبريقا من الشاي الأخضر المعطر بالنعناع بعد وجبة الضيافة، وذلك لكل الضيوف. أما بالنسبة لهذا الضيف المذهل فقد حرصت على أن يكون إبريق لشاي الأخضر متميزًا جدًا، وهذا ما أكده لي ضيفي العزيز وهو يخرج من جيبه علبة ثقاب بدأ في نكش أسنانه بأعوادها مزودًا إياي بشيء من هذه الأعواد. وكان الضيف يتجشأ بقلة ذوق لم أبد تذمري منها لاهتمامي الشديد بحديثة المبهج في هذه الليلة المتوترة عادة. وصل الحديث إلى تقويم العملية التعليمية تقويمًا علميًا وهنا قال الضيف: «سيجري في نهاية هذا العام الدراسي، وكل الأعوام الدراسية القادمة، تقويم ذاتي وخارجي مستمر وعلى درجة كبيرة من التخصص والمهنية، لكل عنصر من عناصر المنظومة التعليمية. وسيجري وبشكل دوري تقويم المدرسة أو المعهد أو الكلية أو الجامعة كمؤسسة واحدة، مع تقويم ما يحيط بها وما يتفاعل معها وما يخدمها من مؤسسات وتنظيمات أخرى، وستكون العناية فائقة بمستوى المخرج التعليمي في عملية التقويم وهو «الطالب»، من خلال إجراء الاختبارات الوطنية الشاملة في أوقات وفترات مناسبة، فهذا هو أسلم وأدق معيار لتقويم العملية التعليمية ككل والوقوف بالتالي على مدى كفاءتها وفاعليتها».

فجأة قطع الضيف حديثه، وطلب مني أن أسعفه بقرص مسكن، فهو يعاني من صداع يداهمه قبيل النوم في العادة. ولأني كنت حريصًا على أن يبقى الضيف في حالة جيدة ومزاج عال هذه الليلة، فقد هرعت إلى الداخل لأجلب له شريطًا من الأقراص المسكنة للصداع.

ظننت أن الضيف قد ذهب إلى دورة المياه، لكنه لم يكن هناك. ثم خمنت أن الضيف مدخن ويوقر مجلسي بألا يدخن فيه، ولذلك فقد خرج إلى الفناء ليدخن، لكن الفناء كان خاليًا إلا من دوي الريح. خرجت إلى الشارع التجاري المجاور لعلي أجده يشتري حاجة ثم يعود فلم يرد أحد لي خبره. رجعت إلى مجلسه ومتكئه لعلي أجد ما يدلني على أثر له دون أن أفلح. اقترب الفجر وأنا أراوح بين النافذة والباب والشارع بلا فائدة. صليت الصبح وتطلعت إليه بين المصلين دون جدوى. أشرقت الشمس وكان علي أن أوصل أبنائي إلى مجمعاتهم المدرسية الجديدة. كنت موضع دهشة الأولاد واستغرابهم وأنا أصر على إيصالهم للمجمعات المدرسية الجديدة، وكنت موضع سخرية لاذعة جدًا بالنسبة لهم لحظة أن وصلنا أول المجمعين.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply