ساعات العمر في ميزان الحق


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الاهتمام بعمر الإنسان:

الاهتمام المثالي بعمر الإنسان جاء في منهج الإسلام، فقد جاء الإسلام ليبين لهذا الإنسان رسالته في هذه الحياة، يوجهه الوجهة القويمة لعمارة الكون، والفوز بالآخرة، ولذلك كان اهتمامه بحياة الإنسان اهتماماً عظيماً، وبرز ذلك من خلال توجيه هذا الإنسان إلى:  

1ـ مسئوليته على عمله. 

2ـ المسارعة في الخيرات.

3ـ التحذير من المنكرات.

4ـ محاسبة النفس.

5ـ لفت انتباهه لبعض الأوقات.

6ـ ربط بعض العبادات والأحكام بأوقات مخصوصة ومحددة.

 

أولاً: مسئولية الإنسان على عمله:

جاءت آيات كثيرة تبين مسئولية هذا الإنسان على عمله، وأنه سيحاسب على كل ما قدم من عمل: خيراً كان أو شراً. كما يتضح ذلك من خلال قوله - تعالى -: (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)، وقال - تعالى -: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد)، كما جاءت آيات تبين عدم حرمان المؤمن جزاء ما يعمل قال - تعالى -: (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين)، وجاءت آيات أخرى تبين عدم مسئولية الإنسان عن أعمال الأمم السابقة كقوله - تعالى -: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون)، ولهذا فمن يستغفر الله على تفريطه في هذه المسئولية يجد الله غفوراً رحيماً. قال - تعالى -: (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً حكيماً. ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً). وهذا التوجيه في بيان مسئولية الإنسان على عمله مظهر من مظاهر الاهتمام الأمثل بعمر الإنسان، ذلك أن هذا الإنسان عندما يدرك مسئوليته ويعيها فإنه بالتالي ينطلق من خلالها، ويحسب لكل لحظة من لحظات عمره ويزنها بالميزان الحق.

 

ثانياً: المسارعة في الخيرات:

مسارعة الإنسان لاستغلال ساعات عمره الاستغلال الأمثل ومسارعته في عمل الصالحات دليل على حرصه على وقته، ووعيه بالتوجيه الإسلامي القويم لهذا الأمر حيث وردت آيات كثيرة، وأحاديث نبوية جليلة تدعو للمسارعة في الخيرات، كقوله - تعالى -: (ولكلٍ, وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعاً إن الله على كل شيء قدير)، وكقوله - تعالى -: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين)، ويقول الحق ـ جل شآنه: (فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون)، ويصف الله - عز وجل - الأمة المستقيمة على الحق بهذا الوصف العظيم: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين)، كما جاء الثناء على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم قال - تعالى -: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم).

ويبين القرآن الكريم أن استجابة الدعاء من ثمرات المسارعة في الخيرات كما جاء ذلك واضحاً في قصة سيدنا زكريا - عليه السلام -:(فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين). كما جاءت آيات أخرى توجه للقيام ببعض الأعمال، كما يتضح ذلك من خلال قوله - تعالى -: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير)، وجاءت آيات وأحاديث نبوية أخرى تبين أفضلية بعض الأعمال على بعض، فالإيمان والعمل الصالح سبب في دخول الجنة. لقوله - تعالى -: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً وعد الله حقاً ومن أصدق من الله قيلاً)، كما جاءت آيات تبين فضل الجهاد والمجاهدين في سبيل الله بقول الحق ـ جل شأنه ـ:(لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً. درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيماً)، وجاء أيضاً:(ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً)، وجاءت آيات أخرى تبين فضل الصدقة والإصلاح بين الناس كما في قوله - تعالى -: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً). كما جاءت أدلة أخرى تبين أفضيلة بعض الأيام على بعض، كما يتضح ذلك من خلال قوله - تعالى - في بيان فضل ليلة القدر. 

مثلاً: (إنا أنزلناه في ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر. ليلة القدر خير من ألف شهر). وكل هذه التوجيهات القرآنية منطلق من منطلقات اهتمام الإسلام بعمر الإنسان.

 

ثالثاً: التحذير من المنكرات:

ورد في كتاب الله - عز وجل - وفي سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ما يحذر من المنكرات وينفر منها ويبين عاقبة الوقوع فيها، فعن الشرك بالله يقول - تعالى -: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً)، وقال - تعالى -: (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً)، وجاءت آيات تحذر من النفاق والمنافقين ـ لأن المنافق مضيع لعمره، وموجه لطاقاته إلى مهاوي الردى ـ قال - تعالى -: (بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً. الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً). وهذا التحذير ينبه هذا الإنسان لكل ما يضر بعمره، ويغير من وجهته التي أرادها الله ـ عز وجل ـ له في هذه الحياة، فاجتناب المنهيات حفظ لعمر الإنسان وصيانة له، ومنطلقاً لعمارة هذا الكون.  

 

رابعاً: محاسبة النفس:

يوم القيامة هو يوم الحساب لقوله - تعالى -: (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب). وقوله - تعالى -: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون. وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون).

وقال - تعالى -: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين)، فالمؤمن يستعد لهذا اليوم العظيم فيحاسب نفسه ويتزود لمعاده، وقد قال - تعالى -: (فأما من أوتي كتابه بيمينه. فسوف يحاسب حساباً يسيراً. وينقلب إلى أهله مسروراً)، وقد وروي عن شداد بن أوس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله) ودان نفسه أي حاسبها، وروي عن عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل كان يسأله أن يوصيه ويعظه: (إذا أردت أمراً فتدبر عاقبته، فإن كان رشداً فامضه، وإن كان غياً فانته عنه).

فتوجيه الإنسان لمحاسبة نفسه مظهر من مظاهر اهتمام الإنسان بعمر الإنسان، وقد أدرك السلف الصالح هذا التوجيه، فقد روي عن سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كان يقول: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم، قبل أن توزن عليكم). وقال آخر: " من لم ينظر في العقاب لم يفرق، ومن لم يتفكر في الثواب لم يصدق، ومن لم يذكر الموت لم يتزود، ومن لم يذكر الحساب لم يشتغل، ومن لم يخف قبيح فعله لم يخف تبعته، ومن لم يخف لم يتق الله ربه". وقال الحسن:" المؤمن قوام على نفسه يحاسبها الله - تعالى -، وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.

 

خامساً: لفت انتباهه لبعض الأوقات:

بيان أهمية بعض الأوقات كما جاء في سورة الروم ـ مثلاً ـ: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشياً وحين تظهرون)، وفي سورة طه: (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى). 

كما أقسم الحق ـ جل شأنه ـ في آيات ببعض الأوقات كما في قوله - تعالى -: (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى)، وقوله: (والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس)، وقوله: (والعصر. إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)، فهذا القسم لفتة يلفتنا لها الحق ـ جل جلاله ـ إلى أهمية الوقت وبخاصة هذه الأوقات المقسم بها.

 

سادساً: ربط بعض العبادات والأحكام بأوقات مخصوصة:

ربط العبادات بأوقات محددة فعن الصلاة يقول - سبحانه وتعالى -: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً)، وعن فريضة الصوم يقول الحق ـ جل شأنه ـ: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)، وعن فريضة الحج يقول - جل وعلا -: 0الحج أشهر معلومات، فضلاً عن أن الزكاة مرتبطة بمرور الحول أو بيوم الحصاد كما في قوله - تعالى -: (وآتوا حقه يوم حصاده)، كما ارتبطت كثير من الأحكام الشرعية بأوقات مقدرة كعدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها وإرضاع الصبي وكفارة الظهار وغير ذلك قال - تعالى -: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها). فهذا في العبادات، وهذه الأحكام المرتبطة بأوقات معينة تحيى في النفوس منطلقاً يدعو للاستفادة منها، وتصريفها على خير وجه.

وبالرغم من هذا الاهتمام العظيم بالوقت إلا أنه وللأسف الشديد فإن حال كثير من المنتسبين للإسلام في تخبط وتيه وإضاعة للأوقات وإفناء للأعمار فيما لا خير فيه ولا فائدة منه وما ذلك إلا بسبب الابتعاد عن الطريق القويم باتباع منهج الحق ـ جل شأنه ـ وطغيان حب الدنيا على حياة الناس والتسابق في التلذذ بما فيها دون النظر في مصدر أمن حلال أم من حرام.

فالاستمرار والبقاء على حالة إضاعة الأوقات وعدم المبالاة بقيمة الانتفاع بها في مرضاة الله والمسارعة في التمسك بما يحب ويرضى كل ذلك سيوجه حياة الإنسانية إلى السير نحو خط الهاوية والهلاك والخسران المبينين، فلا بد إذن من الوقوف وقفات تأمل ومحاسبة قبل فوات الأوان وفناء الأعمار من أجل الرقي بأنفسنا والصعود بها إلى مراتب العلا بأحب الأعمال.  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply