بسم الله الرحمن الرحيم
غير أن دراسة الظاهرة في الغرب تشهد منذ بداية التسعينات من القرن الماضي مدرسة تربط الإرهاب بالتنوير، وتعتبر الثورة الفرنسية الأب الشرعي للإرهاب، والملفت أن إعلامنا كان دائما يسلط الضوء على الكتابات التي تربط الإسلام بالإرهاب ثم تعلق عليها بكلام متهافت دون أن تشير مجرد إشارة لوجود رأي آخر أو مدرسة أخرى أو اجتهاد آخر من المؤكد أن حرية الرأي تحتمل مناقشتها.
كتاب يقرأه البريطانيون يعتبر التنوير أصل الإرهاب، وأن الشعار الحقيقي للثورة الفرنسية هو:حرية..إخاء..... ووحشية.
"الحكم على شيء فرع عن تصوره"، هكذا تقول القاعدة الذهبية في علم أصول الفقه وهي تدعو لتعريف الظواهر أولا تعريفا صحيحا قبل إصدار الأحكام عليها، وخلال العقدين الماضيين ظهر مئات بل آلاف الكتب التي تربط الإرهاب بالإسلام أو على الأقل بينه وبين تفسيرات للنصوص الدينية واجتهادات فقهية معينة توصف بالتشدد والتطرف، غير أن دراسة الظاهرة في الغرب تشهد منذ بداية التسعينات من القرن الماضي مدرسة تربط الإرهاب بالتنوير، وتعتبر الثورة الفرنسية الأب الشرعي للإرهاب، والملفت أن إعلامنا كان دائما يسلط الضوء على الكتابات التي تربط الإسلام بالإرهاب ثم تعلق عليها بكلام متهافت دون أن تشير مجرد إشارة لوجود رأي آخر أو مدرسة أخرى أو اجتهاد آخر من المؤكد أن حرية الرأي تحتمل مناقشتها.
وقبل تفجيرات لندن بأسابيع كانت الصحافة البريطانية مشغولة بكتاب يحمل وجهة النظر هذه هو "الإرهاب: حرب أهلية في الثورة الفرنسية" للمؤرخ البريطاني المعروف دافيد أندرس، ومن بين التعليقات المهمة عن الكتاب مقال كتبه المؤرخ البريطاني المتخصص بتاريخ الثورة الفرنسية برايس مونرو (دايلي تلجراف). وهو يبدأه بقوله في العقود القليلة الماضية، وخصوصاً منذ 11 سبتمبر، أصبحت كلمة "إرهاب" تستخدم بشكل مفرط. اليوم، غالبا عند استخدامه تقفز للذهن صور متعصبين متلحين يحضرون "الرايسين" في شمال لندن، ومن المفيد أن نذكر بأنه أصلا يعني شيئا مختلفا جدا.
فالإرهاب في الوعي الحديث استعمل للمرة الأولى لوصف الطرق الدامية والقسرية التي استعملتها الحكومة الجمهورية الفرنسية بين 1793 و 1794 لفرض "عقيدتها" على بلد كان عنيدا. الإرهابيون الأوائل كانوا رجالا مثل روبسبير، سان جوس، ومارات، الذين خططوا هذه السياسة المخيفة وطبقوها. الإرهاب في التصور الأولي لم يكن سلاحا لمواجهة الحكومات، وهو في الشكل الثاني، سواء في 1790 في فرنسا، أو ثلاثينات القرن العشرين في روسيا أَو في سبعينات القرن نفسه في كمبوديا، كان دائما القاتل الأبشع.
كَمَا هو الحَال، يخلف الإرهاب عددا كبيرا من جثث الضحايا ويحرك عواطف عميقة ووسط هذه الاضطرابات يصعب على المؤرخين غالبا الإبقاء على توازنهم. وما يكشف عنه الكتاب بشكل واضح، الوضع الذي وجدت فرنسا نفسها فيه في منتصف طريق الثورة.
فمع صيف 1792 كانت فرنسا في حرب كارثية مَع النمسا وبروسيا وسرعان ما بدت العاصمة نفسها شبه مهددة. ولمواجهة هذا المشهد الرهيب، قام متطرفو باريس بعمل حاسم ووحشي: أسقطوا الحكم الملكي وأطلقوا عملية تحفيز هائلة لتسجيل المتطوعين للجيش وتم إيقاف الغزو، وأعلنت أول جمهوريات فرنسا الخمس. هذا الإنجاز الوطني "العظيم"، وإن تم الاحتفال به في عدد لا حصر له من كتب النصوص المدرسة الفرنسية، كان له في الواقع جانب مُظلم جداً. في اللحظة نفسها،
كان المتطوعون يزحفون للأمام وتم إقناع الحشد الباريسي بأن سجون العاصمة تضم "طابورا خامسا" من أعداء الثورة الخطرين، واقتحمت السجون وذبح 1500 نزيلا في مذبحة سبتمبر "سيئة السمعة". بعد هذا الحدث التمهيدي الجماهيري" أخذ الإرهاب "الرسمي" ما يقرب من سنة أخرى ليبدأ. وثانية، كان مرحبا به بسبب سوء الأوضاع العسكرية على جبهات القتال، في هذا الوقت تضافر هذا مع تزايد المعاداة للحكومة في ليون ومارسيليا وتولون، وقبل كل هذا، وقبل كل شيء، في فاندي (فندييه) في غرب فرنسا.
رَد الدولة كان التخلي التام عن القانون.. سجن أي شخص يشتبه في تعاطفه مع الثورة المضادة –ومن ضمن ذلك النبلاء السابقون بغض النظر عن العمر أَو الجنس–، تقرر بموجب "قانون الاشتباه" في سبتمبر 1793، وتبع ذلك حرمان المتهمين من حقوقهم كافة في يونيو 1794. بهذه الوسائل الجبانة تم تقديم 30 ألف شخص تقريبا لمحاكم أرسلتهم للمقصلة في "إرهاب قضائي". ما هو معروف على نحو أضيق من هذا لكن أكثر دموية بكثير، كان القمع الوحشي للتمردات الإقليمية. ما حدث في فاندي (فندييه) كان أقرب للإبادة الجماعية، المسئولون الحكوميون استعملوا لغة الإبادة بشكل علني، وربما مات ربع مليون شخص.
ومن يقرأ خطب روبسبيير وسان جوس، يدرك أنه بالنسبة لهم ولزملائهم، الأزمة الثورية لم تكن محنة يتغلبون عليها، بل فرصة فريدة لخَلق مجتمع جديد، مدينة سماوية مستندة على تصاميمِ جون جاك روسو. ودعامتا هذا المجتمع الرئيستان ستكونان: الفضيلة والإرهاب، وبعبارة روبسبير الشريرة " الفضيلة بلا إرهاب قاتلة، الإرهاب بلا فضيلة عاجز". كانت هناك رؤية تمجد "الفضلاء"، (كما وصف أحدهم الرئيس مبارك مؤخرا بأنه منزه عن الهوى)، وتنزع الصفات الإنسانية عن المعارضين بوصفهم "أعداء"، واللغة نفسها تقريبا تستخدمها الدولة وتيارات سياسية قريبة منها بحق معارضيهم. وبإمكان المرء التعرف عليها كأول صوت حقيقي للاستبداد الحديث.
القصة التي يرويها ديفيد أندرس عن انحدار الثورة الفرنسية من البدايات المثالية إلى الدولة البوليسية، قصة مظلمة ومحبطة بشكل مفرط، وانتهى أهم ما في مقال مونرو.
ولعل أهم ما في مقال مونرو التأريخ لميلاد وباء قتل المعارضين، كرؤية لها منظروها وتبريراتها التنويرية والثورية معا، وهو الوباء الذي يضرب العراق بضراوة، ومقال برايس مونرو ليس الوحيد عن الكتاب الذي نشرت عنه مقالات في التايمس والصنداي تايمز والأوبزرفر وغيرها، وفيه ما يشير إلى وعي مختلف بالدور الخطير للفكر التنويري الوضعي الذي أسسته الثورة الفرنسية، وبناء عليه يمكن فهم استعداد أمريكا للتعامل مع الإسلاميين متشددين ومعتدلين ما لم يمارسوا الإرهاب، ويمكن فهم الموقف المتشدد لعدد من العلمانيين العرب الرافضين لـ"الإصلاح الأمريكي" القادم لهدم "دولة محمد علي" التي تستلهم التنوير الفرنسي في استبداده وإرهابه وإلحاده لبناء أنظمة حكم ديمقراطية غير معادية للأديان السماوية.
وإذا كان الأمر كذلك أو على الأقل يمكن أن يكون، فهل يكون "تجفيف منابع الإرهاب" موجها ضد الفكر الديني أم الفكر التنويري؟
وهل ترون في مأساة فاندي شيئا يشبه "حلبجة" أو "حماة" أو "دار فور" أو.... ؟
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد