الصين والهند آمال لإعادة تشكيل النظام العالمي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

لم تغفل الولايات المتحدة الأمريكية منذ عقود عن حقيقة أن العملاق الصيني والاتحاد الأوروبي سيمثلان تحدياً حقيقياً للإمبراطورية الأمريكية في قيادة العالم، إلا أن الأمر الذي كان لا يتوقعه الأمريكيون في ظل انغماس الولايات المتحدة في حربها على ما تسميه الإرهاب هو الصعود المتواصل للهند للحاق بركب القوى الكبرى، بل والأكثر من ذلك هو إذابة الجليد المتراكم على علاقاتها مع الصين، في خطوة من شأنها تعزيز استشرافات بأن القرن الحالي سيكون القرن الآسيوي اقتصادياً وسياسياً، وعسكرياً وتقنياً، بتشكيل الصين والهند لقطب جديد يهدد عرش 'الولايات المتحدة'، حيث أعلنت الهند والصين عن 'شراكة استراتيجية' يوم الاثنين 11/4/2005م، وتعهدا بحل النزاعات الحدودية الطويلة الأمد، وتعزيز التعاون الاقتصادي بين القوتين الصاعدتين اللتين تشكلان معاً أكثر من ثلث سكان العالم.

وقالت صحيفة 'واشنطن بوست' في تقرير بعددها الصادر 12/4: أن الإعلان جاء بعد قمة جمعت بين رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ ونظيره الصيني وين جياباو الذي قام بزيارة لنيودلهي استغرقت أربعة أيام.

واعتبرت الصحيفة الأمريكية أن الاتفاقات التي وقعت بين الجانبين 'تشير إلى تحول هام في العلاقات بين العملاقين الأسيويين'، اللذين خاضا حرباً حدودية قصيرة في 1962م، وكان ينظر كل منهما إلى الآخر نظرة ارتياب.

وأضافت أن احتمال إقامة المزيد من العلاقات التعاونية يحمل مضامين عالمية هامة، تقوم على الإمكانيات الاقتصادية الضخمة للهند والصين، وشهيتهما المفتوحة للطاقة والموارد الطبيعية الأخرى.

على الجانب الآخر أصدر مجلس الاستخبارات القومي الأمريكي تقريراً في  13 يناير 2005 تحت عنوان 'رسم مستقبل العالم' حذر فيه الأمريكيين من تراجع نفوذهم في معظم مناطق العالم في 2020 بسبب انشغالهم بالحرب علي الإرهاب، متنبأً بظهور الصين والهند كقوتين دوليتين لتمتعهما بإمكانيات لتحقيق مزيد من التطور الاقتصادي والتنموي والعلمي والتقني، حيث يتوقع أن يتمكن العملاق 'الصيني' الذي سيغزو العالم اقتصادياً وثقافياً في دول آسيا وأمريكا اللاتينية، وحتى في الولايات المتحدة نفسها بحلول عام 2020 من تخطي اقتصاديات الدول المتقدمة من حيث الحجم ما عدا الاقتصاد الأمريكي الذي سيحافظ على الصدارة بحسب التقرير، أما الاقتصاد الهندي فسيكون بمقدوره أن يتفوق على الاقتصاد الأوروبي بحلول ذلك التاريخ.

وفي تصريحات تعزز استشرافات مجلس الاستخبارات القومي الأخير بانتقال توازن القوّة القادم في ميدان الاقتصاد إلى آسيا [الصين والهند خصوصاً] مع تآكل موقع القوّة النسبي الذي تتحلّى به الولايات المتحدة، قال سينغ خلال مراسم الترحيب بـ 'وين' في القصر الرئاسي الهندي: إن 'الهند والصين يمكنهما سوياً إعادة تشكيل النظام العالمي'.

وتقول الصحيفة: إن الحكومتين الصينية والهندية وافقتا على إطار لتسوية الاختلافات الطويلة المدى بشأن 2.175 ميلاً حدودياً، وتعهدا بحل النزاع من خلال 'مشاورات سلمية ومخلصة'، كما وقعت الحكومتان على اتفاقات بشأن التجارة والتعاون الاقتصادي، والمشاركة التكنولوجية، والملاحة المدنية، واتفاقات أخرى.

وفي بادرة حسن نية تخلت الصين رسمياً عن ادعاءاتها بشان إقليم سيكم الصغير في منطقة الهيمالايا، وقدمت للمسؤولين الهنديين خريطة تظهر المنطقة كجزء من الهند، وقال مسؤولون هنود وصينيون إنه للمرة الأولى تعهد الصينيون بدعم محاولة الهند للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي.

وقال وزير الخارجية الهندي شيام سار أن: 'هناك تصاعداً في مستوى العلاقات بين البلدين'، وأضاف إن الهند والصين لا ينظر  كل منهما إلى الآخر 'كعدو'، ولكن تعد كلا الدولتين بعضهما البعض 'كشركاء'.

وتقول الصحيفة: إن الهند منذ فترة وهي ترقب بحذر علاقات الصين الحميمة بجارة الهند وعدوتها باكستان، ولكن في السنوات الحالية 'بدأت الهند والصين في رسم مصالحهما المشتركة الأساسية في التجارة، والاستقرار الإقليمي' وغيرها، بالإضافة إلى كيفية التعامل مع تهديد 'المتطرفين الإسلاميين'.

وتعود بنا الصحيفة إلى عام 2003 عندما تعهد أتال بيهاري فاجباي رئيس الوزراء الهندي آنذاك خلال زيارته إلى بكين باحترام سيادة الصين على التبت، وعدم السماح بــ 'أنشطة السياسيين المعادين للصين' في الهند، في إشارة إلى حكومة التبت في المنفي التي يقودها دالي لاما، ولفتت الصحيفة إلى أن هذا التعهد تم التأكيد عليه في الإعلان الأخير المشترك.

وقال البيان: 'إن الجانبين اتفقا على أن العلاقات الهندية الصينية اكتسبت طبيعة عالمية واستراتيجية'، وأضاف أن حكومتي الدولتين اتفقتا على إقامة 'شراكة استراتيجية وتعاونية للسلام والرخاء'.

وترى الصحيفة أن الأمر الأكثر أهمية في الاتفاقات - على المدى القصير -، يتمثل في الدعوة إلى حل النزاع الحدودي على أسس السجلات التاريخية والجغرافية، والمطالب الأمنية، ومصالح السكان الذين يعيشون في المنطقة، بالإضافة إلى العوامل الأخرى، مضيفة أن هذا التقارب بين الدولتين الأكبر في العالم من حيث عدد السكان قد يزداداً عمقاً.

وتعزيزاً للاستشرافات التي تحذر من سقوط أمريكا أمام الصاعدين بقوة إلى نادي القوى العظمى خلال العقدين الحالي والقادم قالت قراءة 'مجلس الاستخبارات القومي الأمريكي' عن أحوال العالم في 2020: إنه 'بنفس الطريقة التي يشير بها المعلقون إلى أن القرن الـ 19 هو القرن الأمريكي، فإن القرن الـ  21 يمكن أن يشهد قيادة الهند والصين لبعض دول العالم النامية'.

وقال التقرير: إن الهند يمكنها أن تظهر كأسرع قوة اقتصادية في العالم بحلول 2020 متفوقة على الصين.

أما لغة الأرقام فتظهر أن اقتصاد الولايات المتحدة يمر بأزمات قاحلة حيث يعاني من عجز كبير في الموازنة يُقدَّر أن يصل إلى أكثر من ستمائة وخمسين بليون دولار في  2005م، وربما يصل حتى سبعمائة بليون دولار، وقال تقرير لمنظمة التجارة العالمية صدر يوم 18/4/2005: إن العجز التجاري الأمريكي في 2004 بلغ رقماً قياسياً يعادل 6% من إجمالي الناتج المحلي، و7% من إجمالي تجارة السلع العالمية، هذا بالإضافة إلى العجز التجاري الأمريكي الذي بلغ في يناير الماضي 58.3 مليار دولار، وبلغ في مجموعه ما يزيد على ستمائة وخمسين مليار دولار.

وقال مدير مكتب الكونجرس - وهي الهيئة التي تمثل مجلس الشيوخ، والنواب الأمريكي - في تصريحات نشرتها وكالة الأنباء الفرنسية في 6 مارس: إن العجز التجاري الأمريكي المتراكم قد يلامس 2600 مليار دولار من الآن وحتى العام 2015م، وأضاف أن سياسة بوش المالية التي استنزفت مليارات الدولارات لتمويل العمليات العسكرية في العراق وأفغانستان سوف ترهق كاهل الموازنة الأمريكية حتى العام 2015م.

ويقول محللون: أن خوف أمريكا من الصين يعود إلى أن الصين دولة كبيرة متماسكة، ومنذ عشرين سنة تحقق معدل نمو يصل 8% في السنة، الأمر الذي لم يسبق حصوله في التاريخ أن تستمر دولة في مضاعفة اقتصادها بهذه السرعة ولهذه الفترة الطويلة دون أي انتكاسة، وقالت منظمة التجارة العالمية في تقريرها: إن الصين احتلت موقع اليابان التي كانت في المركز الثالث عالمياً من حيث الصادرات، وغزت الصين بالفعل الأسواق الأمريكية بقوة، حيث أن أغلب المنتجات الأمريكية مصنعة في الصين، في مقابل غياب المنتج الأمريكي من الأسواق الآسيوية، أما اقتصاد الهند فيشهد حالياً نمواً يُقارِب نفس السرعة التي ينمو بها اقتصاد الصين.

وتقول 'واشنطن بوست': إنه بتتبع العلاقات بين الهند والصين فإن كل دولة متلهفة بوضوح للاستفادة من قوى الاقتصاد الآخرº التصنيع ومكونات الكمبيوتر في الصين، وعلى الجانب الآخر الخدمات وبرامج الكمبيوتر في الهند، في حين ظل تعزيز التعاون التجاري بينهما بجميع الحسابات دون إمكانيته.

فقد بلغت التجارة بين البلدين العام الماضي 13.6 مليار، مقارنة بـ 20 مليار بين الهند والولايات المتحدة، وتعهدت القوتان الدوليتان بتعزيز التعاون التجاري حتى يصل إلى 20 مليار دولار بحلول 2008م.

وقال وزير الخارجية الصيني: 'إذا تعاونت الهند والصين في صناعة تكنولوجيا المعلومات فسيتمكنان من قيادة العالم، وسيشهد العالم القرن الآسيوي القادم في الصناعة التكنولوجية المعلوماتية'.

وترى الصحيفة إنه إلى جانب الدوافع الاقتصادية فإن الصين تريد أيضاً إقامة علاقات أفضل مع الهند للتأثير في علاقة نيودلهي مع الولايات المتحدة، التي كانت لسنوات عديدة متقدمة على بكين في إدراك قدرة الهند كقوة عسكرية واقتصادية، وضاعفت بشكل كبير تعاونها مع الهند في كلا المجالين.

وفي هذا السياق أشارت الصحيفة إلى أن وزير الخارجية الهندي ناتوار سينغ سافر إلى واشنطن الأسبوع الماضي لعقد مباحثات مع المسؤولين الأمريكيين، بينما اتجه مسؤولان أمريكيان رفيعا المستوى وهما: ويليام فالون قائد القوات الأمريكية المنتشرة في المحيط الهادئ، ووزير النقل نورمان مينيتا إلى العاصمة الهندية.

ويقول فينود خانا الدبلوماسي الهندي السابق الذي عمل في الصين، وأدار قسم شرق آسيا في وزارة الخارجية الهندية: إن العديد من المراقبين بدأوا الحديث عن نهوض الصين منذ زمن طويل، والآن يتحدثون عن صعود الهند، متوقعاً حدوث تغير هام في العالم.

ورأى تقرير مجلس المخابرات القومي الأمريكي أنه بعد انقضاء خمسة عشر عاماً ستظل الولايات المتحدة أهم محرك للنظام العالمي، وقد تكون أقوى دولة في العالم، ولكن مواقع نفوذها في العالم ستنحسر كثيراً، في مقابل قوى أخرى منافسة قادمة لن تكون الصين والهند فقط، بل هناك أيضاً البرازيل وأندونيسيا، فهل سيقف القطب الصيني الهندي الذي أعلن عن نفسه من الآن عند النقطة التي رسمها التقرير الأمريكي، أم أنه سيتخطاها بإسقاط الولايات المتحدة من قيادة العالم بإعادة رسم النظام العالمي في ظل توقع بعض الأمريكيين أن الولايات المتحدة قوة في طريقها للزوال.

ويقول جيفري دي. ساش أستاذ علم الاقتصاد ومدير معهد الأرض بجامعة كاليفورنيا: إنه خلال 25 عاماً سيكون اقتصاد الصين أضخم من اقتصاد الولايات المتحدة، وقد يفوقه بمقدار 50% مع حلول عام 2050، والهند الأكثر فقراً من الصين في متوسط الدخل ستتمكن هي الأخرى من تضييق الفجوة الحالية في الثروة بينها وبين الولايات المتحدة، وبحلول عام 2050م سيبلغ اقتصاد الهند حجم اقتصاد أمريكا، بتعداد سكان يصل أربعة أمثال تعداد سكان أمريكا، ومتوسط دخل يبلغ ربع متوسط الدخل لدى أمريكا تقريباً، وأضاف الأستاذ الأمريكي أن انحسار الفجوة الاقتصادية بين أمريكا والقوى الآسيوية سيؤدي إلى تقليص القوة السياسية الجغرافية النسبية لأمريكا، حيث ستبدأ الصين والهند في لعب أدوار أكبر على الساحة العالمية.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply