رؤية شرعية حول الأحداث الأخيرة (الأحداث الدامية في المملكة)


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة الأولى 

الحمدُ للهِ وبعدُ º

 

سمعتُ خبرَ الإنفجارِ الذي حدثَ في مدينةِ الرياضِ في مبنى الأمنِ العام ، وكان الخبرُ كالصاعقةِ ، وقد استهدف هذا العملُ المشينُ الذي يرفضهُ العقلُ والشرعُ أناساً عُصمت دمائهم وأموالهم من أن ينالَ منها ، وراح أبرياء لا ناقةَ لهم ولا جمل ،  وهذا عملٌ مرفوضٌ جملةً وتفصيلاً ولا شك ، ولا يقبلُ به إلا من انحرف عن الدينِ .

 

وكنتُ بصددِ الكتابةِ عن ذلك الحدثِ ، وبدأت في الكتابةِ ، ولكن المشاغل حالت دون إكمالِ المقالِ ، ثم جاء خبرُ الحادثِ الأليمِ في مدينةِ الخبرِ ، تلك المدينة الصغيرة الهادئة ، والذي استهدف أرواحاً بريئةً على يدٍ, أناسٍ, زين لهم الشيطانُ أعمالهم ، وظنوا أنهم يتقربون إلى اللهِ بها ، وقاموا بقتلِ الأطفالِ والمسلمين وغير المسلمين ، وجعلوا البلادَ تعيشُ في حالةٍ, من الاستنفارِ العامِ ، وعاش الناسُ في رعبٍ, وهلعٍ, وذهولٍ, مما حصل ، واستنكرت فئاتُ المجتمعِ هذه الأعمال الإجرامية . 

 

ولنا مع الأحداثِ التي تمرُ بها بلادنا وقفاتٌ في النقاطِ التاليةِ :

 

أولاً : أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا :

 

لقد زين الشيطانُ لهذه الفئةِ أعمالهم ، وجاء التحذيرُ من اللهِ بخصوصِ تزيينِ العمل القبيحِ فقال تعالى : " أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلٌّ مَن يَشَاءُ وَيَهدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذهَب نَفسُكَ عَلَيهِم حَسَرَاتٍ, إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصنَعُونَ " [ فاطر : 8 ] .

 

 قال الإمامُ الطبري عند تفسير هذه الآية : " يَقُول تَعَالَى ذِكره : أَفَمَن حَسَّنَ لَهُ الشَّيطَان أَعمَاله السَّيِّئَةَ مِن مَعَاصِي اللَّه وَالكُفر بِهِ , وَعِبَادَة مَا دُونَهُ مِنَ الآلِهَة وَالأَوثَان , فَرَآهُ حَسَنًا , فَحَسِبَ سَيِّئَ ذَلِكَ حَسَنًا , وَظَنَّ أَنَّ قُبحه جَمِيل , لِتَزيِينِ الشَّيطَان ذَلِكَ لَهُ " .ا.هـ.

 

وقال الشيخُ عبد الرحمن بن سعدي – رحمهُ اللهُ - : " أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ " عملهُ السيء القبيح ، زينه له الشيطانُ ، وحسنهُ في عينه " .ا.هـ.

 

وقال تعالى في تزينِ العملِ القبيحِ : " أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ, مِن رَبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهوَاءَهُم " [ محمد : 14 ] .

 

قال ابنُ كثيرٍ, عند تفسير الآيةِ : " أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِن رَبّه " أَي عَلَى بَصِيرَة وَيَقِين فِي أَمر اللَّه وَدِينه بِمَا أَنزَلَ اللَّه فِي كِتَابه مِن الهُدَى وَالعِلم وَبِمَا جَبَلَهُ اللَّه عَلَيهِ مِن الفِطرَة المُستَقِيمَة " كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوء عَمَله وَاتَّبَعُوا أَهوَاءَهُم " أَي لَيسَ هَذَا كَهَذَا " .ا.هـ.

 

وجاء في " صفة الصفوة " لابن الجوزي عند ترجمةِ " محمد بن محمد بن عيسى بن ابن عبد الرحمن بن عبد الصمد " : عن جعفر بن محمد قال : سئل محمد بن أبي الورد عن قوله : أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا " قال : " من ظن في إساءتهِ أنهُ محسنٌ .

 

ويبين الإمامُ ابنُ القيمِ سوءَ تزيين العملِ وتأثيرهُ على الإنسانِ في " شفاءِ العليل " فيقولُ : " فتزيينهُ سبحانهُ للعبدِ عمله السيء عقوبة منه له على إعراضهِ عن توحيدهِ وعبوديتهِ وإيثارِ سيءِ العملِ على حسنهِ ، فإنهُ لابد أن يعرّفه سبحانه السيءَ من الحسنِ . فإذا آثر القبيحَ واختارهُ وأحبهُ ورضيهُ زينهُ اللهُ لهُ وأعماهُ عن رؤيةِ قبحهِ بعد أن رأهُ قبيحاً . وكلُ ظالمٍ, وفاجرٍ, وفاسقٍ, لابد أن يريهُ اللهُ تعالى ظلمهُ وفجورهُ وفسقهُ قبيحاً ، فإذا تمادى عليه ارتفعت رؤيةُ قبحهِ من قلبهِ فربما رأهُ حسناً عقوبة له . فإنه إنما يكشفُ له عن قبحهِ بالنورِ الذي في قلبهِ وهو حجةُ اللهِ عليه ، فإذا تمادى في غيهِ وظلمهِ ذهب ذلك النورُ فلم يرَ قبحهُ في ظلماتِ الجهلِ والفسوقِ والظلمِ . ومع هذا فحجةُ اللهِ قائمةٌ عليهِ بالرسالةِ وبالتعريفِ الأولِ ، فتزيينُ الربِ تعالى عدلٌ ، وعقوبتهُ حكمةٌ ، وتزيينُ الشيطانِ إغواءٌ وظلمٌ ، وهو السببُ الخارجُ عن العبدِ ، والسببُ الداخلُ فيه حبهُ وبغضهُ وإعراضهُ .ا.هـ.

 

وقال أيضاً : " وتزيينُ الخيرِ والهدى بواسطةِ الملائكةِ والمؤمنين ، وتزيينُ الشرِ والضلالِ بواسطةِ الشياطين من الجنِ والإنسِ ، كما قال تعالى : " وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ, مِنَ المُشرِكِينَ قَتلَ أَولَادِهِم شُرَكَاؤُهُم [ الأنعام : 137 ] ، وحقيقةُ الأمرِ أن التزيينَ إنما يغترُ به الجاهلُ لأنهُ يلبسُ له الباطل والضار المؤذي صورةَ الحقِ والنافعِ الملائمِ ، فأصلُ البلاءِ كله من الجهلِ وعدمِ العلمِ .ا.هـ.

 

وقال أيضاً في " طريق الهجرتين " ( ص 340 ) : وأما من زُين له سوءُ عملهِ فرأهُ حسناً وهو غيرُ معترفٍ, ولا مقرٍ, ولا عازمٍ, على الرجوعِ إلى اللهِ والإنابةِ إليهِ أصلاً ، فهذا لا يكادُ إسلامهُ أن يكونَ صحيحاً أبداً .ا.هـ.

 

وبعد هذه النقولِ هل يعتقدُ من في قلبهِ ذرة من الإيمان أن ما قام به هؤلاءِ من قتلٍ, للأبرياءِ هو من العملِ الحسنِ ؟ كلا والله .

 

وفي مقالي هذا أريدُ أن أقفَ مع هذا العملِ الإجرامي بكل ما تعنيهِ الكلمةُ لكي يعرف الجميعُ نظرةَ الشرعِ لمثلِ هذه الأعمالِ التخريبيةِ ، وليعرف المسلمُ مدى خطورتها ، وأنها انحرافٌ واضحٌ عن الجادةِ .

 

ثانياً : مكانةُ النفسِ في الإسلامِ :

 

لا شك أن الإسلامَ كرمَ بني آدم ، وجعل له من المنزلةِ والمكانةِ الرفيعةِ ، وهذا بنص كلامِ اللهِ فقال تعالى : " وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِي آدَمَ " [ الإسراء : 70 ] ، وصورُ التكريمِ ومظاهرهُ كثيرةٌ .

 

قال الفخرُ الرازي عند تفسيرِ الآيةِ (21/12) : " فالنفسُ الإنسانيةُ أشرفُ النفوسِ الموجودةِ في العالمِ السفلي ، وبدنهُ أشرفُ الأجسامِ الموجودةِ في العالمِ السفلي " .ا.هـ.

 

من أجل ذلك جاءت الشريعةُ بحفظِ الضرورياتِ الخمسِ ، وهي الدينُ والنفسُ و النسبُ ( أو النسل ) والعقلُ والمالُ ، وقد عرفها الشاطبي في " الموافقات " (2/8) بقوله : " ما لابد منها في قيامِ مصالحِ الدينِ والدنيا بحيثُ إذا فقدت لم تجر مصالحُ الدنيا على استقامةٍ, ، بل على فسادٍ, وتهارجٍ, وفوتِ حياةٍ, ، وفي الأخرى فوتُ النجاةِ والنعيمِ ، والرجوع بالخسرانِ المبين " .ا.هـ.

 

والأدلةُ على حفظِ الضرورياتِ الخمسِ كثيرةٌ لا تنحصرُ في بابٍ, واحدٍ, كما أشار إلى ذلك الشاطبي أيضاً في " الموافقات " (1/38) فقال : " قد اتفقتِ الأمةُ بل سائرُ المللِ على أن الشريعةَ وُضعت للمحافظةِ على الضرورياتِ الخمسِ وهي : الدينُ ، والنفسُ ، والنسلُ ، والمالُ ، والعقلُ ، وعلمها عند الأمةِ كالضروري ، ولم يثبت لنا ذلك بدليلٍ, معينٍ, ، ولا شهد لنا أصلٌ معينٌ يمتازُ برجوعها إليه ، بل عُلمت ملاءمتها للشريعةِ بمجموعةِ أدلةٍ, لا تنحصرُ في بابٍ, واحدٍ, .ا.هـ.

 

ونأخذُ دليلاً واحداً من القرآنِ على مراعاةِ الضرورياتِ الخمس وهو قولهُ تعالى : " قُل تَعَالَوا أَتلُ مَا حَرَّمَ رَبٌّكُم عَلَيكُم أَلَّا تُشرِكُوا بِهِ شَيئًا وَبِالوَالِدَينِ إِحسَانًا وَلَا تَقتُلُوا أَولَادَكُم مِن إِملَاقٍ, نَحنُ نَرزُقُكُم وَإِيَّاهُم وَلَا تَقرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَعقِلُونَ . وَلَا تَقرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ حَتَّى يَبلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوفُوا الكَيلَ وَالمِيزَانَ بِالقِسطِ لَا نُكَلِّفُ نَفسًا إِلَّا وُسعَهَا وَإِذَا قُلتُم فَاعدِلُوا وَلَو كَانَ ذَا قُربَى وَبِعَهدِ اللَّهِ أَوفُوا ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ . وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السٌّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ " [ الأنعام : 151 – 153 ] .

 

ويطلق على هذه الآياتِ " الوصايا العشر " ، وقد اشتملت على العنايةِ بالضرورياتِ الخمسِ ، والذي يهمنا منها حفظ النفس في قوله تعالى : " وَلَا تَقتُلُوا أَولَادَكُم مِن إِملَاقٍ, " ، وفي قوله : " وَلَا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ " .

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply