في الولايات المتحدة، وضمن معدّل اشتداد يتصاعد كلما اقترب موعد الانتخابات الرئاسيةº يحتدم النقاش بين المرشح الجمهوري الرئيس الأمريكي جورج بوش، والمرشح الديمقراطي جون كيري حول الأكثر كفاءة في محاربة الإرهاب، والأجدر بضمان أمن المواطن الأمريكي.
وبالطبع لا جديد في القول: إنّ بضاعة الإرهاب هذه باتت حكراً على الشرق الأوسط وحده، حتي أنّ البعض أخذ ينسي أو يتناسي أمكنة أخري تتمّ فيها سيرورات إنتاج وإعادة إنتاج الإرهاب، بعون أمريكي رسمي هذه المرّة!
كولومبيا علي سبيل المثال:
ففي تقرير حديث العهد، أعدّه معهد RAND الأمريكي المختصّ بأبحاث الدفاع الوطني، ثمة أرقام مذهلة حول تهريب السلاح، والاتجار به استيراداً وتصديراً، في بلد تقول أكثر الإحصائيات تفاؤلاً: إنّ نسبة الجريمة فيه هي الأعلى في العالم.
غير أنّ هذه الحقيقة - أي العلاقة بين تجارة السلاح وارتفاع معدّل الجريمة - ليست مدعاة ذهول أكثر من الحقيقة الأخرى التالية: أنّ معظم هذا السلاح يأتي من مصدر واحد هو ما يُسمّي مستودعات الحرب الباردة، أي تلك الكميات الهائلة من الأسلحة التي سبق أن خزّنتها الولايات المتحدة في بلدان أمريكية - لاتينية مثل: الهوندوراس، والسلفادور، ونيكاراغوا.
ليس هذا فحسب، بل إنّ الوجود العسكري الأمريكي الراهن في كولومبيا يُراد منه - كما يُقال لأهل البلد وللعالم بأسره - محاربة هذه الظواهر الباعثة على العنف تحديداً، ولقد تكفلت معونات أمريكية بقيمة 3.5 مليار دولار فضلاً عن مئات العسكريين الأمريكيين بنقل كولومبيا إلي المرتبة الثالثة في ترتيب الدول التي تتلقي مساعدات عسكرية أمريكية علي نطاق العالم! وبالطبع ليس من جديد في القول: إنّ الهدف الرئيسي للوجود العسكري الأمريكي إنما ينحصر في حماية خطّ أنابيب البترول التابع لشركة أوكسدنتال بتروليوم، في قلب منطقة أروكا النفطية.
ولكن ماذا يفعل المرشح الديمقراطي بالقياس إلى ما يفعله الرئيس المرشح الجمهوري في كولومبيا؟ قبل أسابيع وقّع جون كيري وجون إدواردز رسالة إلي الرئيس الكولومبي ألفارو أوريبي فيليز، يطريان فيها تراجع نسبة الجريمة والمذابح الجماعية وأعمال الخطف، ويحثّانه على المزيد من التقدّم في هذا المضمار، لكنهما - على استحياء أشبه برفع العتب - لا يغفلان الإشارة إلى أعمال القتل غير المشروعة، وحالات الاختفاء القسري التي تُعزى إلى قوّات الأمن الكولومبية، والحال أنّ هذه الأعمال لا تُعدّ بالعشرات أو بالمئات بل بالآلاف وعشرات الآلاف، وهي تشمل وجوه المعارضة الديمقراطية السلمية وليست تلك المسلحة التي تخوض حرب عصابات، فضلاً عن ممثّلي النقابات في ميدان أشغال النفط تحديداً، وبعض أبرز وجوه المجتمع المدني الكولومبي.
وهنالك سُبُل رديئة - عديدة - لممارسة السياسة الخارجية في عالمنا المعاصر، خصوصاً عند القوى العظمى التي تهيمن بهذا الحجم أو ذاك علي مقدّرات الكون، الثابت - مع ذلك - أنّ أكثرها سوءاً ذلك السبيل الذي يختزل قضية متشابكة معقدة إلى مجرّد تفصيل واحد تُسلّط عليه كلّ الأضواء، ويصبح بالتالي جوهر الكلّ والكلّيانية.
والولايات المتحدة الأمريكية - بوصفها القوّة الأعظم حتى إشعار طويل آخر - هي أكثر الأمم ممارسة لهذا السبيل القاصر، ولا يغيب نهار إلا ويقف العالم على هذا أو ذاك من أشكال الاختزال الأمريكي للقضايا الكبري، وكولومبيا هي مثال ساطع - وإن كان غير منتَظر في هذه الحقبة بالذات -، ويظلّ بعيداً كلّ البعد عن حاضنة الارهاب الكبري وشبه الوحيدة: بلاد العرب وديار الإسلام.
كولومبيا بلد شهد ويشهد حرباً أهلية طاحنة تجاوز عمرها نصف قرن، وذهبت بأرواح أكثر من 53 ألف قتيل، وينخرط فيها عشرات الآلاف من أعضاء الميليشيات يميناً ويساراً، لكنّ البيت الأبيض - وبصرف النظر عن هوية شاغله الأوّل، وما إذا كان جمهورياً أم ديمقراطياً - يختصر هذا كلّه إلى مجرّد حرب أمريكية ضدّ المخدرات.
والاختزال ينطوي بالطبع على طمس الحقائق السياسية والاجتماعية وراء هذه الحرب الأهلية، وكيف أنّ الجوهريّ فيها هو مصادرة أراضي مئات الآلاف من الفلاحين، وطردهم من مئات القري على امتداد ثلاثة عقود خلت، الأمر الذي أطلق شرارة العصيان الشعبي الذي تتزعمه اليوم جبهة القوات المسلحة الثورية الكولومبية أو الـ FARC، ورغم أنّ هذه الجبهة تسيطر اليوم علي مساحات شاسعة واسعة من الأراضي الوطنيةº فإنّ الولايات المتحدة تصرّ على اختزال هذه الجبهة إلى عصابة مخدّرات، وتضع أمر تصفيتها على قدم المساواة مع محاربة عصابات المخدرات الحقيقية.
الحقيقة رغم ذلك تشير إلى أنّ الزمرة العسكرية المهيمنة على المؤسسات الديمقراطية الشكلية هي التي تسهّل زراعة وتصنيع وتجارة المخدرات، لأنها شريكة مباشرة في الـ" بزنس "، بل هي الشريك الأوّل الذي لا غنى عنه، وفي عام 1998 - لتقديم مثال مضحكٍ, - مبكٍ, - هبطت طائرة رئيس أركان سلاح الجوّ الكولومبي في مطار ميامي (أي في الولايات المتحدة للتذكير)، وشاءت الصدفة وحدها أن تُكتشف على متن الطائرة الرسمية كمية من الكوكايين لا تقلّ عن نصف طن!
المدهش أكثر أنّ الرئيس الكولومبي السابق أندريس باسترانا، وفور انتخابه قبل ستّ سنواتº سارع إلى فتح حوار مع جبهة الـ FARC رافضاً التصنيف الأمريكي الذي يضعها في خانة عصابة مخدرات، ومعتبراً أنها حركة ثورية ذات مطالب سياسية واجتماعية، ومَن الذي فرمل حوار الرئيس مع القوات المسلحة الثورية الكولومبية ؟
الولايات المتحدة وحدها، سواء عن طريق الضغط المباشر على الرئيس، أو عن طريق تحريض الطغــمة العسكرية على تصعيد العمليات العسكرية ضد الـ FARC بالتزامن مع إطلاق مفاوضات السلام بين السلطة والجبهة، أو - أخيراً - عن طريق الزيادة الدراماتيكية في حجم ونوعية المساعدات العسكرية الأمريكية، ورفع تلك المساعدات إلى مستوي التدخل العسكري.
هذه ظلال فيتنامية:
كتب روبرت وايت السفير الأمريكي المتقاعد الذي عمل في السلفادور والباراغواي، وترأس مركز دراسات السياسة الخارجية، وتساءل الرجل: هل فات السادة الذين يخططون لمزيد من مظاهر التدخل العسكري الأمريكي أنّ الحرب الأهلية الكولومبية تدور حول ظلم الفلاحين، وذبح الأبرياء العزّلº أكثر بكثير مما تدور حول حروب الكوكايين؟ ألا يدرك هؤلاء أنّ إعلان الولايات المتحدة الحرب على القوات المسلحة الثورية الكولومبية يعني اصطفاف البيت الأبيض مع الطغمة العسكرية - المتورطة تماماً في تجارة السموم - والمتحالفة مع - والساكتة عن - ميليشيات اليمين التي تمارس المذابح البربرية كلّ يوم؟
لقد أسمعَ روبرت وايت لو كان قد نادي الأحياء في البنتاغون، ومجلس الأمن القومي، ووزارة الخارجية، ووكالة المخابرات المركزية، ولكن لا حياة لمن نادي هذا الرجل الذي استبصر مزيداً من الغرق في أوحال المستنقع القديم/الجديد: التدخل العسكري الخارجي.
وفي الآن ذاك حين كانت الدوائر الأمنية الأمريكية تسعي إلى تفخيخ حوار باسترادا مع المعارضة الثوريةº كان الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون يزور البلاد بهدف دعم باسترانا في المعركة التي يخوضها من أجل تثبيت دعائم الحكم الديمقراطي! الزيارة مع ذلك اقترنت بتقديم مساعدات أمريكية بقيمة 1.3 مليار دولار أمريكي (الرقم الثالث لأعلى مساعدات أمريكية خارجية، بعد الدولة العبرية ومصر)، تأخذ في الجوهر شكل معدّات عسكرية، ولا علاقة لها بالتنمية، أو التطوير الاقتصادي والاجتماعي.
"هذه ليست فيتنام أخرى، وهي أيضاً ليست إمبريالية يانكية" يتابع الرئيس الأمريكي، غير أنّ الحفاظ على أمن هذا المحسن الكريم اقتضي نشر أكثر من 4500 عنصر من أفراد الجيش والشرطة والأمن السرّي، مدجّجين بالسلاح حتى الأسنان، في الشوارع، وعلى الأسطحة، في البرّ كما في البحر، السبب بسيط بالطبع: الرجل ليس مرّحباً به، وهو لا يحلّ أهلاً ولا سهلاً في هذا البلد الذي يعرف تماماً أنّ معركته الحقيقية لا تُختصر في حروب المخدّرات، وإليكم هذه الحكاية الرهيبة التي وقعت قبل أسابيع من زيارة كلينتون:
في صباح مبكّر هبطت حوّامة (نعم: حوّامة!) تقلّ 300 من عناصر الميليشيات اليمينية في قرية لا سالادو الصغيرة، توجهوا مباشرة إلي ملعب كرة السلة الذي يُعدّ أيضاً ساحة القرية الرئيسية، ولقد أعلن هؤلاء عن هويتهم السياسية، ثم بدأوا في استدعاء عدد من المواطنين الذين دُوّنت أسماؤهم على لائحة طويلة، وحين اكتمل العدد جلس قائد المجموعة إلى طاولة، ثم حوّل الملعب إلى ساحة لتنفيذ أحكام الإعدام، دون أن ينسي فتح زجاجات الكحول، وإصدار الأمر بعزف الموسيقي الصاخبة، وبعد مرور 48 ساعة على هذه التسلية الدامية، غادر السادة القرية بعد أن أعدموا 36 من المواطنين المتهمين بالتعاون مع الميليشيات اليسارية، وكان بين هؤلاء صبيّ في السادسة من عمره!
أين كانت وحدات الجيش المرابطة على مبعدة أميال فقط من القرية؟ وكيف حدث أن هبط القتلة بحوّامة، دون أن تنتبه القوّات المسلحة؟ أين كانت مؤسسات البلاد الديمقراطية؟ ولماذا سارع الجيش بعد انسحاب رجال الميليشيا مباشرة إلى إقامة حواجز عسكرية لمنع الصحافيين وممثّلي منظمات حقوق الإنسان من الدخول إلى القرية؟ مثل هذه الأسئلة يمكن أن تسير في اتجاهات متعدّدة متباينة، ولكنها لا تخطيء الدرب إلى اتجاه واحد كبير: ازدياد الدعم الأمريكي للطغمة العسكرية المهيمنة على مقدّرات البلاد، تحت لواء اختزال المشهد بأسره إلى حرب ضدّ المخدرات.
ثمة إذن إرهاب يوميّ من نمط آخر لا يستدعي أيّ تعليق من المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية، ولا يكلّف المرشح الديمقراطي أكثر من رسالة ودية تتضمن بعض العتاب حول أعمال غير مشروعة، السبب بالطبع هو أنّ هذا الإرهاب من نمط تصنعه الولايات المتحدة أو تشجعه، لأنّ المصالح الحيوية العليا للولايات المتحدة تتطلّب تلك الصناعة أو ذلك التشجيع، وليس في الأمر جديد إذ أنّ الرئيس الأمريكي وودرو ولسون - ومنذ مطلع القرن الماضي - اعترف بالدور الداعم الذي يلعبه جهاز الدولة الرأسمالية الكونية في خدمة الرأسمالية الكونية: لأنّ التجارة تضرب صفحاً عن الحدود، والصناعيّ يلحّ على امتلاك العالم بأسره سوقاً له، فإنّ من الواجب على عَلَم بلاده أن يرفرف خلف ظهره، ويجب على جيش الأمة أن يقاتل لكي تنفتح الأبواب الموصدة أمام التجارة والصناعة، وينبغي على أجهزة الدولة حماية التنازلات التي يتوصل إليها التاجر والصانع، حتى إذا اقتضى الأمر انتهاك سيادة الأمم في هذه السيرورة، ويجب الحصول على المستعمرات أو إقامتها إذا لم تكن موجودة بهدف استثمار وتوظيف كل زاوية من جهات الكون.
حتى إذا اقتضى الأمر انتهاك سيادة الأمم! وحتى إذا استلزم تدمير سلامها الداخلي، أو الحيلولة دون عقد ذلك السلام في الأساس، كما تفعل السياسة الأمريكية الراهنة في كولومبيا، وإذا كان من المفهوم أن تلجأ الولايات المتحدة إلى وسائل عسكرية لحماية أراضيها من تدفّق المخدّرات، فكيف يكون من المفهوم أن تتحالف في الآن ذاته مع الطغمة العسكرية الشريكة في تلك التجارة، المتلهفة على إيصالها إلى السوق الأمريكية النشطة؟
أو بالأحرى: كيف لا يكون هذا الاعوجاج بالذات طبيعياً تماماً في الأخلاقيات الإمبريالية المعاصرة، وفي الطبعة اليانكية منها تحديداً وفي المقام الأوّل؟
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد