المسألة الأساسية التي تطرح نفسها على الساحة التركية في الوقت الراهن هي: "هل ستدخل تركيا إلى الاتحاد الأوربي"؟ أم "يقبل الاتحاد الأوروبي تركيا في صفوفه"؟.
يأتي هذا السؤال بعد الاتفاق الذي توصل إليه الاتحاد الأوروبي مع تركيا يتيح للأخيرة للبدء في مفاوضات العضوية الكاملة العام القادم، حيث تجنب الاتفاق مع تركيا مطلباً عاجلاً للاتحاد الأوروبي يقضي بضرورة اعتراف تركيا بحكومة القبارصة اليونانيين في جزيرة قبرصº ما كاد يثير أزمة مع الجانب التركي، حيث ترفض أنقرة الاعتراف بحكومة قبرص إلى أن يتم التوصل إلى تسوية بشأن الجزيرة المقسمة.
وفي نهاية المطاف تعهدت تركيا من جانب واحد بالتوقيع على بروتوكول لتوسيع نطاق اتفاقية الشراكة التي أبرمتها مع الاتحاد الأوروبي لتشمل الدول العشر التي انضمت إلى الاتحاد في مايو / أيار الماضي ومن بينها قبرص قبل أن تبدأ محادثات الانضمام، رغم إصرارها على أن ذلك لا يعني اعترافاً من جانب تركيا بحكومة القبارصة اليونانيين، ويتضمن الاتفاق تعهد الاتحاد الأوروبي بأن الهدف من بدء مفاوضات العضوية رسمياً هو العمل على منح العضوية الكاملة لتركيا، وجاء في مسودة شروط الانضمام الخاصة بتركيا:
"إن قرار الاتحاد الأوروبي لبدء محادثات العضوية الكاملة إلى تركيا حدث تاريخي ومثير ومهم ليس للأتراك فقط، ولكن لمنطقة الشرق الأوسط برمتها:
يتعين على تركيا التوقيع على اتفاق جمركي يشمل كافة أعضاء الاتحاد بما فيهم قبرص، يتعين التوقيع على هذا الاتفاق قبل محادثات العضوية المقرر بدؤها في الثالث من أكتوبر 2005م، محادثات العضوية ستكون مفتوحة، لا ضمان لمنح العضوية الكاملة إذا لم يتم الوفاء بالشروط، إذا فشلت المفاوضات لن تتخلى أوروبا عن تركيا، وعلى تركيا مواصلة الإصلاحات السياسية والاقتصادية".
سياسة حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم:
في الواقع السياسة الحذرة التي اتبعتها حكومة حزب العدالة والتنمية التي يتزعمها رجب طيب إردوغان في العامين الماضيين بدأت بإعطاء ثمارها شيئاً فشيئاً، فتركيا التي تحاول حل مشاكلها مع جيرانها عبر المحافظة على انفتاح دروب الحوار معها وجدت الفرصة الذهبية للانتفاض دولياً، وشن غارات دبلوماسية جديدة على الاتحاد الأوروبي إثر حادثة 11 سبتمبر / أيلول، ونجحت في تطوير المفهوم الذي تريد تأكيده منذ أن داعبت فكرة الدخول إلى الاتحاد الأوروبي خيالها ألا وهي " أن مصلحة الاتحاد الأوروبي هي في ضم تركيا إليه".
وإذا عدنا إلى الحاضر فإنه تتضح أمامنا حقيقة مهمة ومناقضة للادعاءات السائدة أن الاتحاد الأوروبي لن يقبل بتركيا فيها 70 مليون شخص كي لا تكون عبئاً محتملاً عليه، بل والعكس صحيح لعل هذه الكثافة السكانية هي ميزة تنفرد بها تركيا في إمكانية الاستهلاك بتركيبتها الشابة، وقوتها الاستراتيجية، ورغم أن تركيا تمر حالياً بأزمة اقتصاديةº إلا أن حجم هذه البلاد، وطاقتها الاقتصادية الضخمةº تجعل منها شريكاً حقيقياً للاتحاد الأوربي.
وعند هذه النقطة بالذات تبرز حقيقة أن تطلعات الاتحاد الأوروبي لأن يصبح قوة إستراتيجية تتدخل مباشرة في العديد من مناطق العالم الجغرافية والسياسية لا يمكن أن تتحقق إلا مع تركيا التي تمتع بهوية حدودية قوية، وارتباطها الوثيق مع تلك المناطق، وضمن هذا السياق فإن الزيارة التي قام بها (رئيس الوزراء التركي) رجب طيب أردوغان إلى سوريا هي في نفسها ظاهرة واضحة على أن الاتحاد الأوروبي يمكن أن يصل إلى الشرق الأوسط من خلال تركيا، وبهذه الطريقة فإن تركيا تكون قد فرضت أهميتها الساحقة في مثل هذه العلاقات، ومما لاشك فيه أن دور تركيا كدولة إصلاحية، وجسر عبور من الشرق إلى الغرب برز مؤخراً بشكل واضح في قمة الناتو، ومنظمة المؤتمر الإسلامي التي عقدتا في اسطنبول حزيران/ يوينو الماضي، بحيث أثبتت تركيا هويتها الثمينة جداً في المحيط الدولي، وهو الأمر الذي لم يتمكن الاتحاد الأوربي من إنكاره.
وإذا اقترنت كل هذه الخواص بالفوائد التاريخية لتركيا التي أعادت بناء نفسها استراتيجياً على مدى السنوات القليلة الماضيةº فإن فائدة تركيا أوروبية بالنسبة للاتحاد الأوروبي تصبح أمراً لا مجال للقطع والربط فيه، وهكذا تفشل النظرية الخاطئة التي تقول: إن تركيا لا يمكن أن تكون عضواً في الاتحاد الأوربي بدون حل المسألة القبرصية.
رغم كل هذا التقدم التركي إلا أن المشاكل لا زالت تفرض نفسها على الساحة التركيةº الأمر الذي يستدعي تحركاً حكومياً سريعاً من أجل التغلب على المشاكل الأساسية التي تعترض رحلتها الأوروبيةº لأن عصراً تركياً جديداً سيبدأ مع الاتحاد الأوروبي.
من وراء الكواليس:
من الواضح أن تصميم المسؤولين الأتراك على رأيهم والذي وصل في بعض الأحيان إلى مرحلة من الخشونة والتعنت في الوقت الذي كانت فيه المفاوضات مهددة بالانقطاع قد جاءت بنتيجة، وكان له الأثر الأكبر في تراجع الأوروبيين عن إملاء الضغوط على تركيا.
هذا ناهيكم عن الأهمية البالغة لطريقة مخاطبة الجانب التركي للقادة الأوروبيين في الوقت الذي كان يصر فيه الاتحاد الأوروبي على مطلبه القبرصي اليونانيº مثلاً ما قاله (وزير الخارجية) عبد الله غول لـ(رئيس الوزراء الهولندي) بالكنيندة، و(وزير خارجيته) بوتا:" إذا باءت المفاوضات بيننا بالفشل فإنكم بذلك تكونون قد زرعتم بأيديكم بذور "تصادم الحضارات"، وأيضاً إذا وصلت العلاقات بيننا إلى مرحلة الانقطاع عندها ستجدون تركيا سلبية بمواجهتكم، ونصيحتي لكم بأن تفكروا جيداً، وتأخذوا بعين الاعتبار ماذا ستعني سلبية تركيا بقوتها الاقتصادية والسياسية بالنسبة لكم".
إصرار الاتحاد الأوروبي على دفع تركيا إلى توقيع برتوكول بشأن الاعتراف بقبرص كان من أهم العوامل التي دفعت برجب طيب إردوغان وعبد الله غول إلى اتخاذ موقف صارم وحاسم بهذا الشكل، بيد أن الأوروبيين سلطوا ضغوطهم على إردوغان وغول لتوقيع البرتوكول دون قيود أو شروط، بل وضمن مراسم تجرى أمام الصحفيين.
هذه الضغوط أدت إلى تصعيد حالة الانفعال والتوتر لدى إردوغان وغول، فما كان من عبد الله غول إلا أن قال :"هل تعتقدون بأنكم تتحدثون مع قائد لجيش مغلوب؟ حكومة قبرص اليونانية نفسها لم تتمكن من رفع قضيتها إلى الأمم المتحدة، فهل تعتقدون أنكم أنتم (الاتحاد الأوروبي) ستتمكنون من رفعها؟ طبعاً لا، القبارصة اليونانيون في يدهم سلطة، ولديهم حق باستخدام الفيتو ضدنا، وإذا كانوا يريدون استخدامه فليفعلوا".
هذا الموقف الصارم والحاسم من رجب إردوغان وعبد الله غول وصل إلى درجة أنهما رفضا وساطة وزير خارجية أحد الدول الكبرى الذي جاء الفندق لإقناعهما حين قالا له:"لا داعي لذلك فالأمر انتهى"، وهو الأمر الذي رسخ الاعتقاد في ذهن القادة الأوروبيين من أن تركيا لا تتحايل عليهم، بل هي في غاية الجدية من أمرها.
كما أكد غول أيضاً على أن موافقة القبارصة الأتراك على خطة الأمم المتحدة كان له الفضل الأكبر في حصول تركيا على موعد للتفاوض مع أوروبا، وأضاف:"لولا الـ"نعم" التي خرجت من أفواه القبارصة الأتراك على الاستفتاء لما كانت تركيا لتحلم بانتزاع تاريخ من الاتحاد الأوروبي، نعم، السيد دنكطاش هو من فتح هذا الطريق".
عبد الله غول أشار إلى أن بعض الأوساط في تركيا وقبرص التركية لا زالت غير مستوعبة للإنجاز العظيم الذي حققته تركيا من القرار الصادر بحقها من القمة الأوروبية، وأضاف:"نحن متأكدون وواثقون من أن سياستنا وقراراتنا هي لصالح تركيا والقبارصة الأتراك على حد سواء، لطالما اعتقدت في الماضي أن مشكلة قبرص كانت تتوقف على عدة أسباب، أما اليوم فأنا واثق بأن المشكلة الأساسية كانت في عدم وجود الإرادة والقيادة السياسية القوية فقط".
وفي الختام قال غول: بأن تركيا أصبحت ضمن البنية الأوروبية منذ أن تم تحديد موعد للتفاوض معها، وبأن هذا الأمر يحمل في مضمونه أهمية كبيرة لاستقرار ونهضة البلاد، مؤكداً بأن تركيا دخلت في مرحلة طويلة من الاستقرار والديمقراطية من الصعب جداً الوقوف أمامها أو عرقلتها في إشارة منه إلى أن التدخل العسكري أصبح مستحيلاً بعد الآن، وأضاف :"يوم الـ17 من سبتمبر غير من نظرة العالم إلى تركيا بشكل جدي، سيما أن الاهتمام الذي أبداه العالم العربي بقمة بروكسل هي أكبر دليل على ذلك".
وأخيراً: فإن قرار الاتحاد الأوروبي لبدء محادثات العضوية الكاملة إلى تركيا حدث تاريخي ومثير ومهم ليس للأتراك فقط، ولكن لمنطقة الشرق الأوسط برمتها، فعبر هذه المفاوضات سيتعين على تركيا إحداث الكثير من الإصلاحات السياسية والديمقراطية والاقتصادية والقضائية والتشريعية كي تتوافق مع معايير الاتحاد الأوروبي، وسيتعين عليها حل جميع مشاكلها الحدودية مع دول الجوار.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد