مسلمو أوروبا بعد تفجيرات 11 أيلول 2001 تحامل رسمي وانفتاح شعبي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

ثلاث سنوات مضت على بداية «التأريخ» على الطريقة الأمريكية، لعلها تنقض مقولة فوكوياما عن نهاية التاريخ، ولكنها تعزز نبوءة هنتنغتون حول «صراع الحضارات»، بفارق جوهري بسيط هو أن تحرك آلية الصراع كان من جانب الفئة المهيمنة أمريكياً، ولم يكن «رد فعل على حدث» بل تصعيداً لتحرك سابق يوشك أن يصنع حالة حرب عالمية مستديمة، وقد نال المسلمين في الغرب من تداعياتها قسطٌ وافر، وإن اختلفت الوسائل عما يُستخدم في العراق، وأفغانستان، وفلسطين، أو في عموم الأقطار الإسلامية.

 

معطيات قديمة وجديدة:

في الحديث عن أوضاع المسلمين في أوروبا ما بين 11/9/2001 و11/9/2004م، لا يصح التعميم، كالقول بازدياد العداء واستشرائه، أو اضمحلاله وزواله، كما لا يمكن وصف الأداء الإسلامي بالمقابل أنه قد تحسن عموماً أو أنه تراجع وتخلف. فعلى سبيل المثال يرمز تسييس قضية الحجاب - لاسيما في فرنسا - إلى وصول الإجراءات الرسمية إلى استهداف التزام المسلمين في بعض جوانب تطبيق دينهم مباشرة، وهذا ما لا يقتصر على الحجاب، ولا يقف عند الحدود الفرنسية، وبالمقابل تنشر هيئة «إسلام أرشيف» المعتمدة في ألمانيا رسمياً رصدَها مؤخراً لارتفاع عدد معتنقي الإسلام من ذوي الأصل الألماني إلى ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل عام واحد، وهذا ما يسري - على الأرجح - على غالبية الدول الأوروبية.

ونجد - كمثال آخر- ازدياد حدة التهديدات الصادرة عن مسؤولين سياسيين بصدد ترحيل من يصفونهم «بخطباء نشر الكراهية» ويقصدون بهم فريقاً من خطباء الجمعة المغالين في أسلوبهم الخطابي الحماسي، ونجد بالمقابل أكثر من حالة تؤكّد عدم مضيّ الجهاز القضائي وراء الرغبات السياسية والاتهامات دون توفير أدلة معتبرة، وبصورة عامة يتطلب النظر في أوضاع المسلمين في أوروبا التنويه بعدد من المعطيات الأساسية، أهمها:

- استحضار ما وصل إليه الوجود الإسلامي في أوروبا قبل تفجيرات نيويورك وواشنطن.

- التمييز بين تعامل السلطات الرسمية مع المسلمين والتعامل الشعبي.

- تغييب النهج الإعلامي المسيطر لبذور تطور إيجابي في أوساط الفكر والثقافة.

- اختلاف المواقف باختلاف فئات الأعمار من عامة الأوروبيين وفي نطاق المسلمين.

- الفارق بين فترة ما قبل حرب احتلال العراق وما بعدها.

والواقع أن الوجود الإسلامي في أوروبا لم يعد من الناحية الكمية أو النوعية وجوداً «أجنبياً وافداً»، أو «وقتياً طارئاً»، بل بات سائر ما يرتبط به جزء من صلب قضايا المجتمعات الأوربية، ناهيك عن مكانته المحورية في معظم الدراسات المستقبلية عن التركيبة السكانية الأوروبية.

وإذا كانت هذه الدراسات تركز على الجانب الكمّي فإن الاهتمام المتزايد من جانب صانعي القرار ينصب على الجانب النوعي للوجود الإسلامي الأوروبي، بمعنى متابعة درجة الالتزام بالإسلام هوية وتطبيقاً، ونسبة انتشارها - لاسيما على صعيد الشبيبة - وهو ما شاع وصفه في الأدبيات الإسلامية بالصحوة، وكذلك الاهتمام بسبل مواجهة هذه الظاهرة، بعد تعميم نظريات تقول: إن من يعملون على نشر هذا الالتزام وتطبيقه - بمعنى العاملين عبر التنظيمات الإسلامية في أوروبا - يوجدون بذور التطرف والتعصب والإرهاب، ومن هنا انتشار استخدام تعبير «الإسلاميين» بصيغة «الاتهام المطلق»، أو بأسلوب يتعمّد جعله تعبيراً مرادفاً لكلمة «إرهابيين»، وتغييب ما شاع في الأدبيات السياسية والإعلامية من قبل من تصنيف الإسلاميين فكراً وسلوكاً ما بين معتدلين ومتطرفين.

الحصيلة على أرض الواقع هي القيام بعشرات المداهمات على المساجد ومراكز الجمعيات، وحظر عدد من الروابط الإسلامية، فضلاً عن محاولات الترحيل الجارية في أكثر من بلد أوروبي، هذا رغم ندرة الحالات التي وصلت إلى مستوى صدور حكم قضائي قاطع بصددها، وغلبة صدور أحكام التبرئة، أو إلغاء الإجراءات الرسمية فيما أمكن الوصول به إلى القضاء، مثل: قضية جمعية الأقصى الخيرية في ألمانيا، بل إن أشهر محاكمة شهدتها السنوات الماضية، واعتبرت الأولى ذات العلاقة بتفجيرات نيويورك وواشنطن كانت قد أسفرت في البداية عن حكم بالسجن 15 عاماً على «منير المتصدق» في مدينة هامبورغ، ولكن قررت المحكمة الدستورية العليا في هذه الأثناء بطلان الحكم، وإعادة النظر في القضية.

إن السياسات الرسمية والأمنية وما يواكبها من حملات إعلامية باتت تستهدف محاولة إيجاد «إسلام علماني أوروبي» بعد سقوط المقولات القديمة عن الإسلام، الموروثة من العهود الكنسية والاستشراقية، وتركز هذه المحاولة على ثلاثة عناصر ترتبط بالتصورات الإسلامية:

- أولها: نبذ كل ما يرتبط بالجهاد مع عدم إغفال الخلط المتواصل بين مفهومه الشامل ومفهوم القتال، وكذلك ما يرتبط به من مفاهيم إعداد القوة، واستخدام العنف، وغير ذلك.

- وثانيها: أوضاع المرأة وبالتالي الأسرة المسلمة، وهو ما يرمز إليه الإطلاق المفاجئ لمعركة تسييس الحجاب.

- وثالثها: العمل للسيطرة على وسائل توعية الشبيبة المسلمة أو «ضبطها»، ومن أبرز ما يرتبط بذلك الحملة الإعلامية والسياسية على خطباء المساجد بأسلوب تعميم الاتهامات.

 

الشعوب أوعى من الساسة:

وسط هذه الأجواء تغيب عن الأذهان جوانب أخرى بالغة الأهمية أشار إليها المثال المذكور عن ارتفاع نسبة معتنقي الإسلام من ذوي الأصول الأوربية، ويكشف عنها بعض عمليات استطلاع الرأي، أو بعض المناسبات، ويمكن إجمال الحديث عنها في النقاط التالية بإيجاز:

1- المفعول الشعبي في أوروبا لتدهور المصداقية الأمريكية منذ بداية حرب احتلال العراق، وانهيارها واقعياً عبر فضائح التعذيب.

2- تلاقي أثر الأحداث الفلسطينية مع أثر أحداث أفغانستان والعراق على الرأي العام، وهو ما عبر عنه الاستطلاع الأوروبي المعروف عام 2003م بشأن «الخطر الأمريكي والإسرائيلي على الأمن والسلام الدوليين».

3- اتساع نطاق الاحتكاك الشعبي - لا سيما على مستوى الشبيبة - بين المسلمين وسواهم في البلدان الأوروبية.

4- الأثر الإيجابي لبعض المواقف الإسلامية الأوروبية عندما يتابعها الإعلام بما فيه الكفاية، كما كان مؤخراً مع إعلان النسبة العظمى من المراكز والروابط الإسلامية المطالبة بالإفراج عن الصحفيَّين الفرنسيين المحتجزين في العراق.

5- سلسلة الأحكام القضائية المشار إليها، المتناقضة مع مواقف السلطات مثل: تناقض تقارير العديد من منظمات حقوق الإنسان مع تلك المواقف أيضاً.

6- يضاف إلى ذلك المفعول السياسي والإعلامي لازدياد تناقض المصالح الاقتصادية والأمنية ما بين حلفاء الأمس على جانبي المحيط الأطلسي.

إجمالاً تشهد المجتمعات الأوربية حالياً مرحلة حافلة بالتناقض ما بين درجة العداء المتصاعد رسمياً وإعلامياًً، وهو ما يُرصد أكثر من سواه بطبيعة الحال، وبين ازدياد الانفتاح الشعبي على الإسلام والمسلمين، ووصول بعض آثاره إلى أوساط فكرية وثقافية فاعلة، وهو ما لا يُرصد أو يُتابَع بما فيه الكفاية حتى الآن.

 

عقبات وقصور:

لا يصح تفسير الانفتاح الشعبي بأنه رد فعل غير منتظر على تصعيد الحملة على الإسلام والمسلمين بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن، أو على الأقل لا يكفي هذا التفسير وحده دون العودة إلى فترة التسعينات التي شهدت تطورا ملحوظاً ليس في طبيعة الوجود الإسلامي في الغرب فقط، إنما على صعيد خارطة العمل الإسلامي أيضاً، بتحول خلاف الانتماءات إلى تعايش تعددي على طريق التكامل والتعاون، وتحول الانعزالية الناشئة لأسباب ترتبط بنشأة الوجود البشري للمسلمين ونشأة المنظمات الإسلامية إلى انفتاح تدريجي على المجتمع، وإلى تحول الاهتمام المركز بقضايا المسلمين في البلدان الإسلامية إلى الاهتمام الموازي لذلك بقضايا الحياة المعيشية للمسلمين في الدول الغربية، وكان من التطورات الملحوظة على صعيد الروابط والمراكز نشأة منظمات اتحادية بعلاقات متطورة بدرجات متفاوتة مع السلطات، ارتفع مستواها في كل من فرنسا وأسبانيا وبلجيكا بصورة خاصة، وبدأت تتحسن في بريطانيا وألمانيا ودول أخرى.

بهذا المنظور كان التحرك الأمريكي والتحرك الرسمي الأوربي تحت عنوان الحرب ضد الإرهاب سبباً في وقوع «نكسة» في هذه المسيرة، تركت أثرها على العمل الإسلامي بوصفه الجهة المنظمة للتعبير عن المسلمين في الغرب، وظهرت ردود الفعل بصورة ملحوظة في تخفيف نسبة المواقف التقليدية من القضايا الإسلامية الساخنة، وزيادة المواقف الأقرب إلى الانسجام مع السلطات، مع ملاحظة أن ذلك كانت له بداياته الأولى قبل حدث التفجيرات، كمواقف الإدانة لاحتجاز رهائن أوروبيين في الفلبين، وتدمير تماثيل بوذية في أفغانستان، دون أن يترك هذا التحول أثراً كبيراً على قضايا تتعلق بالمسلمين في أوروبا مباشرة، كما هو الحال مع قضية الحجاب، أو تدريس الإسلام لأطفال المسلمين.

ويبقى النقص واضحاً في القدرة على التعامل مع المعطيات الجديدة على أكثر من صعيد، ومن جوانبه:

1- أصحاب الخبرة الطويلة في العمل الإسلامي ينشطون غالباً باللغات الإسلامية الوطنية، باستثناءات محدودة لها أسبابها اللغوية المعروفة على صعيد ذوي الأصول المغاربية والباكستانية مثلاً في كل من فرنسا وبلجيكا وبريطانيا.

2- لا يزال عدد القادرين على التحرك من الشبيبة المسلمة التي تستخدم اللغات الأوروبية بطلاقة محدوداً نسبياً، علاوة على معاناة بعضهم من نقص في حجم المعرفة بالإسلام نفسه.

3- تركيز المنظمات الكبيرة على علاقاتها مع السلطات ومواقفها الرسمية، وبدرجة أقل - حسب الإمكانات - بوسائل الإعلام، مقابل غياب ملحوظ على صعيد التواصل مع الجهات الفكرية والثقافية وحتى الشعبية، رغم أن التجاوب هنا يسهل التواصل، ويعد بكسب تأييد الرأي العام.

4- افتقار المكتبة الإسلامية في بعض البلدان الأوربية إلى المراجع والمؤلفات - فضلاً عن وسائل الإعلام - باللغات الوطنية، إلى جانب المتوفر نسبياً باللغتين الفرنسية والإنجليزية.

5- النقص الناجم عن «إهمال» قديم على صعيد إيجاد مراكز معلومات تدعم الباحثين، وشبكة علاقات عامة، ومنشآت ثقافية واجتماعية للمسلمين، إلى جانب عدم الاندماج فيما يتوفر من ذلك، وكذلك في مؤسسات المجتمع المدني في القضايا المشتركة كالبيئة، وقضايا الأسرة، وحقوق الإنسان وسواها.

6- وأخيراً غلبة أسلوب «الدفاع» و«ردود الأفعال» مقابل افتقاد المبادرات المباشرة والفاعلة للتحرك المطلوب، إلا في حالات نادرة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply