المتتبع لملف العلاقات الجزائرية الفرنسية يلاحظ حالة المد والجزر التي ظلت تميز هذه العلاقة، فمنذ استقلال الجزائر عام 1962م مافتئت العلاقة البينية يسودها الحذر والتباين في الكثير من مراحلها، حتى جاءت زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الأسبق للجزائر الشاذلي بن جديد لباريس سنة 1984م لترسم معالم علاقة جديدة مبنية على التفاهم والحفاظ على مصالح البلدين.
لكن مثل هذه الزيارة لم تشفع لديمومة احترام العلاقة بين البلدين، وظلت الدولة الفرنسية تنظر إلى مستعمرتها القديمة أنها جزء لا يمكن أن يُفصل عنها، الأمر الذي أثار العديد من التجاوزات السياسية، وبقيت فرنسا المؤشر الفاعل في التعامل الدولي مع الجزائر محتكرة النفوذ السياسي الدولي ولعقود من الزمن، حتى استُدرجت الجزائر في بداية التسعينيات إلى دوامة الدم والدمار التي عزلت البلد سياسياً، وحاصرتها اقتصادياًº خاصة بعد ما يسمي بحادثة طائرة "الايرباص" سنة 1994م حين اختُطفت الطائرة الفرنسية من مطار هواري بومدين الدولي لترحل بعدها الشركة الفرنسية من الجزائر، وتحذو حذوها كل شركات الطيران الدولية العاملة.
الأمر الذي يؤكد الدور الفرنسي في رسم السياسة الدولية تجاه الجزائر لتدخل العلاقات مرحلة الفتور إلى نهاية القرن الماضي، وبعد تولي الرئيس بوتفليقة زمام الحكم في الجزائر، وبما أنه يدرك أكثر من غيره حجم الثقل الفرنسيº بادر في رسم علاقات جديدة، واستعمل المفتاح الفرنسي واللغة الفرنسية في خطاباته كرسائل سياسيةº الأمر الذي فهمه الفرنسيون جيداً، وفتح ملف العلاقة من جديد في عهد جديد، مع رجل جديد في مرحلة جديدة.
ويرى بعض الملاحظون أن "البحبوحة" المالية للجزائر، والأمن المسترجع بعد سياسات الوئام المدني الذي تبعه قانون المصالحة الوطنية في ما بعدº أسال لعاب فرنسا للاستئثار بالحصة الأكبر في السوق الجزائرية المغرية، لكن بعد الاقتحام الدولي للسوق الاستثمار في الجزائر ظلت فرنسا في مؤخرة القائمة الاستثمارية، خاصة بعد "النجاح السياسي" الذي حققته دولياً زيارات الرئيس بوتفليقة لأغلب دول العالم المؤثرة والفاعلة، وحضور الجزائر في أغلب المحافل السياسية والاقتصادية والثقافيةº ساهم في تحريك العديد من الملفات العالقة التي أرقت الساسة الجزائريين خلال سنوات القتل في الجزائر.
وعليه ظل التحفظ سيد الموقف في هذه العلاقات، إلا إذا استثنينا بعض الاجتهادات خاصة أيام حكم الرئيس الفرنسي جاك شيراك، وبشكل أدق في آخر شهور حكمهº حيث سعى لبناء علاقة مميزة بين البلدين، والتي اختصرها في ما سُمي باتفاقية الصداقة، وشكلت نقطة الارتكاز والرهان الكبير للرئيس الفرنسي السابق، ولم تتوج هذه النوايا ولم يكتب لها النجاح بسبب الموقف الفرنسي الانتهازي الذي يتطلع من وراء هذه الاتفاقية إلى بناء علاقات دون المرور على المراحل السوداء من تاريخ فرنسا في الجزائر، الأمر التي قابلته الجزائر بالرفض، وظلت تطالب باعتذار فرنسا رسمياً عن جرائم الحرب التي ارتكبت إبان الاختلال الفرنسي للجزائر، والتي تؤكدها كل الشواهد التاريخية بأنها الأعنف في تاريخ البشرية، لا من حيث المدة الزمنية وحسب، وإنما أيضاً من حيث التفنن في التعذيب والقتل، والتنكيل وبشاعة المجازر، وكل الكتب التاريخية ومذكرات من عايشوا الحرب وحتى من عسكر فرنساº يعترفون بهذه الجرائم، ناهيك عن الجرائم الثقافية، واجتثاث شعب بأكمله من تاريخه وأصالته، بل ذهب الفرنسيون إلى عكس ذلك، وأصدروا قانون 24 فبراير أو ما يسمى بقانون تمجيد الوجود الفرنسي في شمال إفريقيا، وهو ما باعد بين التقارب من جديد بين فرنسا والجزائرº رغم التسويق الفرنسي لبناء علاقة متينة مبنية على الاحترام المتبادل سواء في عهد الرئيس السابق جاك شيراك، أو الرئيس الحالي ساركوزي.
وكان لهذه التطورات انعكاساتها السياسية والاقتصادية السلبية، الأمر الذي يفسر حالة البطء والحذر التي طبعت الاستثمار الفرنسي في الجزائر مقارنة بجيرانها تونس والمغرب.
كل هذا يمكن أن يتجاوزه الطرفان حسب المحللين خاصة بعد الموقف "اللين" للرئيس ساركوزي، ومحاولته التنصل من أخطاء الماضي كما سماها، والتي اعتبرها جرائم حسب تعبيره، لكنه رفض ربط هذه التصريحات بخطوة جريئة وهي الاعتراف وحسب المؤرخ الجزائري الدكتور قورصوº فإن الموقف الفرنسي الرافض للاعتراف وراءه اللوبي اليهودي المؤثر في السياسة الفرنسية، والقريب من توجهات ساركوزي، بل إن بعض المتتبعين للسياسة الفرنسية يؤكد دعم هذا اللوبي لصعود ساركوزي لقصر الإليزيه.
وهو ما يفسر صخب الساسة في فرنسا وهيجانهم بعد تصريح وزير المجاهدين الجزائري، والذي تحدث فيه عن الأصول اليهودية للرئيس ساركوزي، وتأثير هذا على سياسته تجاه الجزائر، لولا تدخل الرئيس بوتفليقة واحتوائه للأمر بعد المكالمة الهاتفية التي أجراها مع الرئيس ساركوزيº ليطمئنه أن وزير المجاهدين لا يعبر إلا عن رأيه، وأن السياسة الخارجية للجزائر هي من اختصاص الرئيس، أو الشخص المفوض من طرفه.
ولولا هذا التدخل الاستدراكي لأُلغيت زيارة الرئيس الفرنسي للجزائر، ولدخلت العلاقات من جديد في مرحلة انسداد أخرى، وهو ما يظهر غياب الوزير عن المراسيم البروتوكلية في استقبال ساركوزي للجزائر، وكل هذا يوحي بأن الرئيس الفرنسي إنما تحركه دوافع استثمارية في زيارته الأخيرة للجزائر، وأن توجهاته المتصهينة ليس مستعداً للتنازل عنها، وإن عمل على إخفائها، وإظهار بعض "الليونة اللفظية" تمريراً وإنجاحاً للاستثمارات التي بشر بها الجزائر في زيارته الأخيرة، والمقدرة بحوالي 7 مليار دولار، وما صرح به من "اعتراف محتشم" بالجرائم الفرنسية عند بداية زيارته لا يعدو جسب المحللين تنميقاً وتزييناً للعبارات لاحتواء غضب المنظمات الثورية في الجزائر، والتي كانت دائماً الكابح - حسب النظرة الفرنسية - لبناء علاقات متينة بين البلدين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد