مع خلود موظفي الدولة إلى ديارهم في أقاليم السودان المختلفة في إجازة عيد الفطر المبارك للعام 1428هـº أجبرت الحركة الشعبية وزراءها ورجالات القصر الجمهوري من منسوبي الحركة الشعبية على العودة إلى مدينة جوبا حاضرة جنوب السودان، وتعليق مشاركتهم الوزارية والإستشارية في الحكومة المركزية في الخرطوم، وقد شاركت الحركة الشعبية في الحكومة السودانية بموجب اتفاق سلام وُقع بين المؤتمر الوطني (الحركة الإسلامية السودانية) التي وصلت للسلطة في 30 يونيو 1989م والحركة الشعبية لتحرير السودان التي ظلت تحمل السلاح ضد الحكومة منذ العام 1983م، حيث قسم الاتفاق الثروة والسلطة بين الحزبين: 52 % من مقاعد البرلمان ووزارات الحكومة المركزية للمؤتمر الوطني، 28% تؤول للحركة الشعبية، 14% للأحزاب الشمالية، و6% للأحزاب الجنوبية الأخرى، وهذه القسمة لم تجد قبولاً عند الأحزاب الجنوبية الأخرى، حيث تعتبر أن الاتفاق جعل الحركة الشعبية هي الممثل الوحيد لجنوب السودان، المتباين عرقياً ودينياً وثقافياً، ورغم انفراد الحركة الشعبية تقريباً بحكم الجنوب، وتقاسمها حكم الشمالº إلا إنها فاجأت المراقبين بتجميد مشاركتها في الحكومة المركزية، مما يجعل الباب مفتوح لكل الاحتمالات بما فيها عودة الشمال والجنوب إلى حالة الحرب مرة أخرى، إلا أن بعض المحللين السياسيين يعتبرون موقف الحركة الشعبية يدخل في باب إعادة التفاوض من أجل تحقيق مكاسب أكبر، وبعضهم يرده لمؤثرات خارجية لا علاقة لها بما يجري داخل جغرافية السودان، وأروقة القصر الجمهوري عند ملتقى النيلين.
طبيعة قرار الحركة الشعبية ومطالبها:
بحسب ما رشح من أنباء فإن الحركة الشعبية أرسلت د. رياك مشار نائب رئيس حكومة الجنوب للخرطوم لتسليم القصر الجمهوري عريضة مطالب وملاحظاتها على تجربة مشاركتها السابقة في الحكومة المركزية، وأبرز ما حوته العريضة التي وردت في الرسالة المقدمة لرئيس الجمهورية المشير عمر البشير بحسب بعض المصادر الصحفية السودانية كانت "ضرورة إعلان التعديل الوزاري الذي تقدمت به الحركة الشعبية منذ أكثر من ثلاثة أشهر لرئيس الجمهورية، إكمال إعادة انتشار القوات المسلحة السودانية إلى شمال حدود الأول من يناير من العام (1956م)، ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب، والتطبيق الكامل لجميع بنود اتفاقية السلام الشامل التي ما تزال معلقة كمنطقة أبيي الغنية بالنفط، والتي يتنازع الشمال والجنوب تبعيتها الإدارية والجغرافية"، والمطالب المذكورة يعلن المؤتمر الوطني أنه ملتزم بإنفاذها كما أُتفق عليه في اتفاقية السلام الشامل (2005م)، حيث أكمل الجيش السوداني انسحابه من كل الجنوب بنسبة 75% عدا مناطق إنتاج النفط، حيث ما يزال للحركة الشعبية جنوداً هناك، هو أمر يخالف اتفاقية السلام أيضاً، حيث تنص على انتشار قوات مشتركة من الجيش السوداني وجيش الحركة الشعبية هناك، وفي ذات الوقت لم يكمل الجيش الشعبي التابع للحركة الشعبية انسحابه من الولايات الشمالية التي وصل إليها وقت الحرب بين الطرفين، وتقر الحكومة السودانية بوجود بعض العقبات في تنفيذ بعض البرتكولات كبرتكول "أبيي"، حيث يرد الوطني التأخير إلى تدخلات خارجية أدت لتعويق التنفيذ، وزيادة التوتر بين الطرفين، ويعني المؤتمر الوطني الولايات المتحدة حيث هي التي قدمت مقترح إفاد أبيي ببرتكول خاص يجعل المنطقة مجهولة الحدود، وتحتاج لتعريف، وكذلك لتقرير مصيرها بعد انتهاء استفتاء حق تقرير المصير بالنسبة لجنوب السودان بين البقاء مع الشمال أو الانفصال مع الجنوب، أو حكم ذاتي في إطار الشمال.
استراتيجية الحركة الشعبية من قرار تجميد المشاركة السياسية:
ترمي الحركة الشعبية إلى تعضيد وجودها السياسي بخلق تكتل سياسي ضد المؤتمر الوطني يشمل كل الذين ولجوا القصر الجمهوري من باب الاتفاقيات الثنائية مع المؤتمر الوطني، فإنه بحسب بيان أصدره ياسر عرمان رئيس الكتلة البرلمانية للحركة الشعبية، والرئيس السابق لقطاع الشمال بهاº فإن "تطبيق جميع الاتفاقيات من نيفاشا إلى القاهرة وأبوجا والشرق والاتفاقيات المحلية في المناصير وغيرها يتطلب اتحاد أصحاب الاتفاقيات لتعزيز إمكانات تنفيذها"، ووجه نداءً إلى موقعي هذه الاتفاقيات قائلاً: "يا موقعي الاتفاقيات اتحدوا"، وتجميع كل الهامش السياسي السوداني هو مسعى قديم للحركة الشعبية صرح به رئيسها الهالك جون قرنق كأحد أركان استراتيجيته للانفراد بحكم الخرطوم بعد الانقضاض على المؤتمر الوطني شريك اتفاق السلام كما في الخطاب الذي ألقاه جون قرنق أمام جنوده في الميدان بتاريخ 16مايو 2001م، وهي - كذلك - إحدى وصايا كاهن المحافظين الجدد صمويل هنتغتون صاحب صراع الحضارات.
وتعمل الحركة الشعبية كذلك على تعزيز التأييد الجنوبي لها بعد ظهور تحالفات أحزاب جنوبية قوية، وهو ما يفسر سعى الحركة لإشعال كل مدن الجنوب بالمظاهرات، وأشار بيان عرمان أيضاً إلى اندلاع مظاهرات عارمة في عدد كبير من ولايات ومدن الجنوب شملت مدن أويل، واو واراب، شارك فيها مئات الآلاف من المواطنين دعماً لاتفاقية السلام الشامل، والوقوف ضد خرقها، ومظاهرات أخرى تنتظمت مدن: رومبيك ومدن ولاية أعالي النيل، وقال عرمان: "إن المظاهرات نقلت الجماهير من حالة المراقب إلى المشارك"، وتعمل الحركة أيضاً على إرسال رسائل سالبة للحركة الدارفورية التي تسعى للدخول في عملية تفاوضية مع الحكومة السودانية في العاصمة الليبية طرابلس في 27 أكتوبر الجاري، حيث يعمل الغبار الذي أثارته الحركة على بث الهلع والخوف في قلوب الحركات الدارفورية الصغيرة من خطر مشاركة المؤتمر الوطني في السلطة، مما يجعل نجاح هذه المفاوضات بالأمر غير المتوقع، وخاصة أن جهات غربية كثيرة تستبطن الرفض لطرابلس كمكان للمفاوضات، وللقذافي كوسيط بين الفرقاء السودانيين، وهو موقف أمريكي قديم، حيث أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت: "بأن الولايات المتحدة لن تسمح لليبيا بلعب دور حمامة السلام في السودان".
وتهدف أيضاً إلى إعادة التدخل الأجنبي في الشأن السياسي عبر إدخال وسطاء من هنا وهناك بينها والمؤتمر الوطني من الذين يسمون شركاء الإيغاد - المنبر التفاوضي السابق بين الطرفين - وهم: أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والنرويج، وقد يمتد هذا التدخل إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن انتهاءً باستصدار قرار بالتدخل العسكري لحماية الاتفاقية من الانهيار تحت الفصل السابع الذي يجيز فرض السلام عبر السلام.
موقف المؤتمر الوطني:
رغم عدم صدور تعليق رسمي من الدولة، إلا إن قيادات المؤتمر الوطني قد قابلت موقف الحركة الشعبية بالاستنكار الواسع، واعتبرته موقفاً لا يعبر عن شريك بل عن أجندة خارجية كما جاء في تصريح د. نافع علي نافع نائب رئيس المؤتمر الوطني، ومساعد رئيس الجمهورية، ويشرح حالة من التيه السياسي، حيث تعترض الحركة الشعبية على ضعف تنفيذ اتفاقية السلام وهي في الدولة، فكيف تريد كمال التنفيذ بتجميد مشاركتها في الحكومة المركزية كما جاء على لسان سيد الخطيب أحد مهندسي اتفاقية السلام.
هل الحرب هي الخيار؟
وعند التمحيص ستجد الحركة الشعبيةº أن العودة للحرب غير مجدية بل مستحيلة، فالحركة تتمتع الآن بنفوذ كامل في الجنوب هو أمر عسير على الحلم يوم كانت تقاتل، فجيشها ورجالها قد عاشوا الحياة المدنية الرغدة، والمناصب العالية، والأجور المرتفعة، والاستقرار الباذخ في جوبا أو الخرطوم، وهو بعض الميزات الغالية التي تحتاج لألف حساب وحساب، بالإضافة إلى أن إخلاء المدن والعودة للغابة سيدفع بالمليشيات الصديقة للحكومة السودانية أن تتقدم وتملأ الفراغ، وعندها ستجد الحركة الشعبية أنها تخوض حرب جنوبية جنوبية بين الشلك والنوير ودينكا وقبائل الجنوب الأخرى، وليس ضد الشمال بصورة ومباشرة وحاسمة، وحول حقوق الأرض والمياه، والنفوذ السياسي والاقتصاديº في ذلك الإقليم شديد التنوع بدرجة يصعب التحدث معها عن هوية إقليمية مشتركة، ويعزز ذلك وجود مليشيات عسكرية من قبل في الجنوب، وما يزال بعضها ناشطاً حتى حيث انتشرت - من قبل - 32 مليشيا في جنوب السودان، 3 منها في كل من الاستوائية وبحر الغزال، و26 في أعالي النيل، ويتراوح حجمها من عدة أفراد مسلحين إلى عدة آلاف، وهذه المجموعات هي المسئولة عن ارتكاب أفظع الانتهاكات خلال الحرب، ويقرر الأمريكيون أن هذه المليشيات هي "العناصر التي يصعب التنبؤ بما قد تفعله في اللوحة الأمنية"، وإذا انزلق الجنوب في حالة حرب مرة أخرى فلا شيء يمنع هذه الميليشيات من الاجتماع مرة أخرى، وخاصة أنها قبلية أو شبه قبلية، ورفض عودة الجنوب لخانة الحرب تعززها الرغبة العالمية الدولية وخاصة الولايات المتحدة، إذ "يمثل السودان بلداً محورياً في جهود الولايات لمتحدة لدرء خطر انهيار الدول والصراعات الدائمة، ومكافحة الإرهاب في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر"، هو يعني أول ما يعني بحسب دراسة "ورقة عمل لسودان ما بعد الحرب (2004م)"، وإذا ما فشلت الولايات المتحدة - الشريك العالمي للسلام السوداني - في اتخاذ الخطوات اللازمة لمنع وقوع السودان في سجل تاريخ الدول المنهارةº فإن استمرار الاضطرابات سيهدد مصالح الولايات المتحدة في هذه المنطقة الحيوية من أفريقيا.
ويزيد الأمر خطورة أن السودان يمتلك ثروة بترولية فإن إمكانية انزلاق تجربته في السلام نحو الانهيار ستكون مرشحة بصورة أكبر، وهذا الانزلاق لن يكون على مستوى العلاقة بين الشقين الكبيرين (الشمال والجنوب)، بل حتى على مستوى المكونات المحلية للشمال والجنوب في آن واحد، إلا أنها أشد خطورة في الجنوب لوجود واقعي قبلي قوي وحاكم حتى الآن، وما خلص إليه مركز الدراسات الاستراتيجية بواشنطن إنما جاء بعد دراسة مستفيضة، وبعد إجراء بحوث ومقابلات متعددة في واشنطن قام فريق من المركز مكون من (4) أفراد بزيارة السودان وكينيا لمدة ثلاثة أسابيع في خريف عام 2003م.
أما خيار الانقضاض على المؤتمر الوطني عبر التحالف مع قوى المعارضة فهو خيار محفوف بالمخاطر، رغم أنه يجد تشجيعاً كما بدا ذلك في التصريح غير المباشر للمبعوث الأمريكي للسلام في السودان ناتسيوس، حيث إن المؤتمر الوطني هو الحزب السياسي السوداني الوحيد الذي قبل بمنح الجنوب تقرير المصير واستثنائه من أحكام الشريعة، ومن المناهج التعليمية ذات الطابع العربي الإسلامي، هو الذي سمح بانسحاب الجيش السوداني من الأرض التي ظل الجيش السوداني يدافع عنها حوالي 50 سنة، ومنح الحركة المتمردة 50 % من عائدات النفط المنتج في الجنوب، وغيرها من التنازلات التي كان مجرد المزايدة السياسية بها تعد خيانة وجناية، فالوطني بهذه يصبح الضامن الوحيد للاتفاقية، وعدم التراجع عنها، وخاصة أنها لا تلقى قبولاً وسط الشارع السوداني، ولن تقامر الحركة الشعبية بالعودة مرة أخرى والتحالف مع أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي الهالك بكل ما فيها من ضعف و خور.
وقبل ذلك كلها سيجعل هذا القرار مكونات الحركة الشعبية وزعمائها تحت دائرة الاستقطاب، مما قد يجعل الحركة في "أزمتها التنظيمية" التي عبر عنها أمينها العام باقان أموم، تنتهي إلى انقسام تنظيمي كما حدث في العام 1991م عندما انشق عنها د.لام أكول وزير الخارجية الحالي، ورياك مشار نائب رئيس حكومة الجنوب الآن.
وفي غدٍ, ستعلم الحركة الشعبية بقرارها هذا: أفرسٌ تحتها أم حمار؟
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد