بسم الله الرحمن الرحيم
أرييل شارون أعلنها - ويجب أن يؤخذ كلامه على محمل الجد -: الهجوم الذي شنه طيرانه يوم الأحد الماضي على دمشق ليس عملاً معزولاً، بل يمثل تحولاً في استراتيجية الدولة العبرية في "مكافحة الإرهاب". ذلك ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي، منتهزا مناسبة الاحتفال بذكرى حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973. وقد توقفت وسائل الإعلام، في معرض تأكيدها لذلك التحول، عند إقدام الجيش الإسرائيلي، في نفس ذلك اليوم، على إذاعة خريطة للعاصمة السورية، أسمتها "شبكة الإرهاب في منطقة دمشق"، تظهر فيها مكاتب المنظمات الفلسطينية ومنازل قادتها، من باب الإيحاء بأن المكاتب والمنازل تلك أهداف محتملة في عمليات قصف قد تكون مبرمجة مستقبلاً. ناهيك عن أن عملية القصف الأخيرة لم تُرتجل ارتجالا، ولم تكن مجرد رد فعل ثأري غريزي، بل هي ما كانت أكثر من تنفيذ، أو بداية تنفيذ، لخطة كان وضعها وزير الدفاع شاوول موفاز، في آب (أغسطس) الماضي، غداة العملية الانتحارية التي استهدفت الباص رقم 2 في القدس، وما كانت تنتظر سوى ذريعة كتلك التي وفرتها عملية حيفا الأخيرة.
النزاع مر في طورين:
يمكن القول إذاً: إن حقبةً من نزاع الشرق الأوسط قد آلت إلى نهايتها يوم الأحد الماضي، وإن أخرى بدأت. إذ لو أردنا إجمال تاريخ ذلك النزاع، على الأقل من الناحية العسكرية، لتبين بأنه مر حتى الآن بطورين أسياسيين:
أولهما طور المواجهات المسلحة المفتوحة، في صيغتها النظامية.
وثانيهما هو طور تعذر تلك المواجهات، من الجانب العربي. الأول امتد من 1948 حتى 1973، وشهد نشوب أربع حروب عربية-إسرائيلية في غضون خمس وعشرين سنة، أي، لو أردنا الركون إلى التبسيط الإحصائي، بمعدل حرب كل ست سنوات. صحيح أنه لم يُقيض للعرب، في أثناء تلك الحقبة، سوى الهزائم، لكنهم كانوا لا يزالون قادرين على المبادرة العسكرية، هجوما أو ردا، أو أنهم - على ما تقول صيغنا الخطابية الجاهزة - ما كانوا قد "أسقطوا خيار الحرب"، كسبيل لحل مشكلة الشرق الأوسط، وإن كان فحوى ذلك الحل المنشود قد تغير تدريجًا، وضمنًا دون الجهر غالبًا، من "إزالة دولة إسرائيل" إلى مجرد التوصل إلى قدر من السطوة العسكرية قادر على كبح جموحها العدواني والتوسعي، وقمين بدفعها إلى شكل من أشكال التسوية يحفظ ماء الوجه ولا يكون مجحفًا مطلق الإجحاف.
حرب 1973، مثلت أوج ذلك الطور من نزاع الشرق الأوسط، ومداه الأقصى، حيث بيّنت حدود الانتصار الذي يمكن للعرب بلوغه: العبور واجتياز خط بارليف، لكن دون التوصل إلى تحرير شبر واحد من الأراضي التي احتُلت في 1967، مع أن الحليف السوفياتي كان لا يزال على عنفوانه، يهاجم ويسجل النقاط، أو يوالي الانتصارات في الكثير من بقاع ما كان يُعرف بالعالم الثالث.
أما الطور الثاني، فقد كانت سمته، على ما سبقت الإشارة، تعذر الحروب. وهو قد تراوح بين صيغتين:
- سلام اتضح أنه لا يمكن إلا أن يكون باردا، وهو ذلك الذي صير إلى إرسائه بين مصر وإسرائيل في أعقاب اتفاقات كامب ديفيد.
حرب باردة:
- وضرب من نصابِ حرب باردة، استتب بين سورية وإسرائيل، وخضع في الكثير من أوجهه إلى ذات المنطق والآليات التي كانت تتحكم بالحرب الباردة الأم، إن جازت العبارة، تلك التي كانت جارية بين ما كان يعرف بالعملاقين، مستعيدة - محليًّا - عددا من ملامح هذه الأخيرة، من تفاهمات ضمنية، ومن تحكم من الجانبين في النزاع في ما خص المدى العسكري والحيز الجغرافي. وكان الهدف من هذه الصيغة الحؤول دون الانجرار إلى مواجهة مفتوحة ومباشرة لا يريدها الطرفان، واللجوء إلى ساحات حرب بديلة تكون مجالاً لخوض مجابهات محدودة أو ذات كثافة منخفضة، بالواسطة في بعض الحالات، تُستخدم في تحسين الموقع التفاوضي أو في تعديل موازين القوة بين الخصمين، دون مساس بالمصالح الأساسية، الحيوية أو الوجودية لأي منهما. وقد كانت الوظيفة تلك من نصيب لبنان، الذي اضطلع بها، على حسابه حصراً في الغالب، منذ أن انفجرت حربه الأهلية وحتى يومنا هذا (أو حتى يوم الأحد الماضي ربما؟).
وهكذا، يكون من باب التذكير بما هو ماثل لا يستحق تذكيرا، القول: إن تلك الجبهة الوحيدة التي بقيت ساخنة (باستثناء الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتلك حالة لها خصوصيتها إذ إنها ليست جبهة "حدودية") طيلة العقود الثلاثة الأخيرة، ظلت تتسم بقدر من الانضباط لافت في صرامته، حيث لم تشهد أي "تجاوز" يمكنه أن يفضي إلى مواجهة بين سورية وإسرائيل، رغم "تداخل" قواتهما، و"تواجدها" (حسب عبارة الفضائيات واللغة الصحافية المبتذلة) على نفس "الساحة"، ومع ما يُفترض أن تتسم به إدارة مثل ذينك "التداخل" و"التواجد" من دقة ومن صعوبة. وربما مثل الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982 حالة نموذجية أو "مدرسية" في هذا الصدد.
يجدر التنويه بأن سورية أحسنت - إلى حد كبير - التعاطي مع تلك الصيغة المحلية من الحرب الباردة. صحيح أنها لم تحقق خلالها أيا من أهدافها الرئيسية، ولا سيما التوصل إلى تسوية "مشرّفة"، تستعيد الجولان كاملا. لكن دمشق أنجزت بعض المكاسب، بل بعض الانتصارات، من إسقاط اتفاق أيار الشهير، إلى الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، تحت ضربات المقاومة اللبنانية التي لم تبخل عليها سورية يوما بالدعم والمساندة، وربما بالتوجيه. لكن اللعبة تلك يبدو أنها انتهت، أو أن إسرائيل الشارونية قررت إنهاءها. لذلك، ربما لم يجانب الرئيس السوري بشار الأسد الصواب، عندما اتهم إسرائيل، في مقابلته مع "الحياة"، بأنها تريد الحرب. لكنه قد يكون جانبه في تشخيص أسباب جنوحها العدواني ذاك. فهذا الأخير ليس مجرد مغامرة يقدم عليها رجل انسدت أمامه الآفاق لعجزه عن القضاء على الانتفاضة، أو لأن الحرب وقود حكومته، على ما ذهب الرئيس السوري، واقتفى أثره في ذلك، بطبيعة الحال، إعلام بلده. بل لأن رئيس الحكومة العبرية وضع نصب عينيه إلغاء ذلك النصاب الاستراتيجي المحلي الذي زالت مقومات وجوده وما عادت أسسه قائمة.
بداية عهد جديد!
ربما كان يُفترض في ذلك النصاب أن يتهاوى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة الأم، لكن اختيار سورية الانضواء، تحت راية الولايات المتحدة، ضمن التحالف الدولي المناهض لصدام حسين في حرب الخليح الثانية، قد يكون مدّ في أنفاسه إلى حين.
أما الآن، بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001، ومع الإدارة الأميركية الحالية التي تكاد تكون توأما سياميا لنظيرتها الليكودية في إسرائيل، ومع الحرب العراقية الأخيرة، ومع بلوغ العرب أدنى دركات الوهن والضعف على الأصعدة كافة، لم يبق، في نظر شارون، سوى أخذ العلم بكل تلك العوامل، وترجمتها إلى استراتيجية جديدة تستكمل أسباب القوة التي تأنسها الدولة العبرية حاليا في نفسها، ومن عناصرها ضرب آخر توازن، أو ما يشبه التوازن، كان قائما، بين دولته وبين قوة عربية.
وهكذا، سيكون عدوان الأحد الماضي على دمشق، بداية عهد جديد، حيث أدخل سورية، وإن بالواسطة، في أتون "الحملة الكونية على الإرهاب"، وأدرجها ضمن منطقة الاستهداف، وحيث سيكون له أبلغ الأثر على لبنان وعلى المنطقة برمتها، يمعن فيها توتيرا وإضراما. إنه طور ثالث يبدأ، يصعب التكهن بملامحه وقسماته، باستثناء أمر واحد: أن حظوظ العرب في الفعل فيه، كما هي حالهم الآن، تكاد تكون في حكم المنعدمة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد