الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الاستشراق والمستشرقون بحث لم يعن أحد من الكاتبين بأمرهما عناية علمية واسعة تبحث الاستشراق وأهدافه ومراميه وحسناته وسيئاته، وعن المستشرقين وطوائفهم وأعمالهم، وما أصابوا وما أخطأوا فيه من أبحاث ومؤلفات، وكل ما كتب في هذا الموضوع لا يخلو عن أن يكون تمجيداً لهم مثل كتاب (المستشرقون) للأستاذ نجيب العقيقي، أو أن يكون كشفاً موجزاً عن أهدافهم التبشيرية والاستعمارية، وأهم بحث في هذا الشأن محاضرة قيمة للأستاذ الدكتور محمد البهي المدير العام للثقافة الإسلامية في الجامع الأزهر ألقاها في قاعة المحاضرات الكبرى الأزهرية.

وقد أفرط منا أناس في الثقة بهم، والاعتماد عليهم، والثناء المطلق على جهودهم، ويمثل هؤلاء المعجبين بهم الدكتور طه حسين من أوائل تلاميذ المستشرقين في تاريخنا الأدبي المعاصر، حيث يقول في مقدمة كتابه (الأدب الجاهلي):  

"وكيف تتصور أستاذاً للأدب العربي لا يلم ولا ينتظر أن يُلم بما انتهى إليه الفرنج (المستشرقون) من النتائج العلمية المختلفة حين درسوا تاريخ الشرق وأدبه، ولغاته المختلفة، وإنما يلتمس العلم الآن عند هؤلاء الناس، ولابد من التماسه عندهم حتى يتاح لنا نحن أن ننهض على أقدامنا، ونطير بأجنحتنا، ونسترد ما غلبنا عليه هؤلاء الناس من علومنا، وتاريخنا، وآدابنا".

ولا ريب في أن هذا الكلام يمثل دوراً من أدوار العبودية الفكرية التي مررنا بها في مطلع نهضتنا العلمية والفكرية الحديثة، وهذه العبودية تتمثل في كتاب الدكتور طه حسين نفسه (الأدب الجاهلي) الذي كان ترديداً مخلصاً لآراء غلاة المستشرقين المتعصبين ضد العرب والإسلام أمثال (مرجليوث) الذي نقل آراءه كلها في كتابه (الأدب الجاهلي) ونسبها إلى نفسه، وليس له في الكتاب رأي جديد نتيجة بحث علمي قام به، أو تعب في سبيله.

ويمثل هؤلاء أيضاً الأستاذ أحمد أمين في كتابيه (فجر الإسلام) و (ضحى الإسلام) وقد بينت ما في فصل (الحديث) من كتاب (فجر الإسلام) من سرقة لآراء المستشرقين دون أن ينسبها إليهم في كتابي الذي صدر حديثاً (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي).

ومن هؤلاء أيضاً الدكتور علي حسن عبد القادر في كتابه (نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي) وهو ترجمة حرفية لما كتبه جولدزيهر في كتابيه (دراسات إسلامية) و (العقيدة والشريعة في الإسلام)، وكذلك كان كسابقيه غير أمين حين نسب هذه الآراء إلى نفسه ولم ينسبها إلى أساتيذه المستشرقين.

ويقابل هذا الاتجاه المفرط في الثقة ببحوث المستشرقين اتجاه يحمل على المستشرقين واتجاهاتهم المغرضة المفرطة في التعصب، ويمثله قول أحمد فارس الشدياق في كتابه (ذيل الفارياق): "أن هؤلاء الأساتيذ (المستشرقين) لم يأخذوا العلم عن شيوخه، وإنما تطفلوا عليه تطفلاً، وتوثبوا فيه توثباً، ومن يخرج فيه بشيء فإنما تخرج على القسس، ثم أدخل رأسه في أضغاث أحلام، أو أدخل أضغاث أحلام في رأسه، وتوهم أنه يعرف شيئاً وهو يجهله، وكل منهم إذا درس في إحدى لغات الشرق أو ترجم شيئاً منها تراه يخبط فيها خبط عشواء، فما اشتبه عليه منها رقعه من عنده بما شاء، وما كان بين الشبهة واليقين حدس فيه وخمَّن، فرجح منه المرجوح، وفضل المفضول".

وفي الحق أن كلاً من الثناء المطلق والتحامل المطلق يتنافى مع الحقيقة التاريخية التي سجلها المستشرقون فيما قاموا به من أعمال، وما تطرقوا إليه من أبحاث، ونحن من قوم يأمرهم دينهم بالعدل حتى مع أعدائهم (( ولا يجر منكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى )).

وسنحاول في هذه المقالة أن نذكر ما للمستشرقين وما عليهم، من غير تحيز ولا حيف ولا شطط، ممهدين لذلك بنبذة موجزة عن تاريخ الاستشراق وأهدافه، وفئات المستشرقين وأشهر علمائهم، وسنتتبع بقدر ما وسعنا الجهد أخطاءهم فيما انتهوا إليه من أبحاث، نقارع الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، حتى لا يتغاضى معجب عن السيئات، ولا يطمس مبغض صفحة الحسنات.

 

تاريخ الاستشراق:

لا يعرف بالضبط من هو أول غربي عنى بالدراسات الشرقية، ولا في أي وقت كان ذلك، ولكن المؤكد أن بعض الرهبان الغربيين قصدوا الأندلس في أبان عظمتها ومجدها، وتثقفوا في مدارسها، وترجموا القرآن والكتب العربية إلى لغاتهم، وتتلمذوا على علماء المسلمين في مختلف العلوم وبخاصة في الفلسفة والطب والرياضيات.

ومن أوائل هؤلاء الرهبان الراهب الفرنسي (جربرت) Jerbert الذي انتخب بابا الكنيسة روما عام 999م بعد تعلمه في معاهد الأندلس وعودته إلى بلاده، و (بطرس المحترم 1092 1156م Pierrele Venere) و (جيرار دي كريمون 1114 1187م Gerardde Gremone).

وبعد أن عاد هؤلاء الرهبان إلى بلادهم نشروا ثقافة العرب ومؤلفات أشهر علمائهم، ثم أسست المعاهد للدراسات العربية أمثال مدرسة (بادوي) العربية، وأخذت الأديرة والمدارس الغربية تدرس مؤلفات العرب المترجمة إلى اللاتينية وهي لغة العلم في جميع بلاد أوروبا يومئذ، واستمرت الجامعات الغربية تعتمد على كتب العرب وتعتبرها المراجع الأصلية للدراسة قرابة ستة قرون.

ولم ينقطع منذ ذلك الوقت وجود أفراد درسوا الإسلام واللغة العربية، وترجموا القرآن وبعض الكتب العربية العلمية والأدبية، حتى جاء القرن الثامن عشر وهو العصر الذي بدأ فيه الغرب في استعمار العالم الإسلامي، والاستيلاء على ممتلكاته، فإذا بعدد من علماء الغرب ينبغون في الاستشراق، ويصدرون لذلك المجلات في جميع الممالك الغربية، ويغيرون على المخطوطات العربية في البلاد العربية والإسلامية فيشترونها من أصحابها الجهلة، أو يسرقونها من المكتبات العامة التي كانت في نهاية الفوضى، وينقلونها إلى بلادهم ومكتباتهم، وإذا بأعداد هائلة من نوادر المخطوطات العربية تنتقل إلى مكتبات أوربا وقد بلغت في أوائل القرن التاسع عشر مائتين وخمسين ألف مجلداً، وما زال هذا العدد يتزايد حتى اليوم.

وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر عقد أول مؤتمر للمستشرقين في باريس عام 1873م، وتتالى عقد المؤتمرات التي تلقى فيها الدراسات عن الشرق وأديانه وحضاراته، وما تزال تعقد حتى هذه الأيام.

 

ميدان الاستشراق:

بدأ الاستشراق كما رأينا بدراسة اللغة العربية والإسلام، وانتهى بعد التوسع الاستعماري الغربي في الشرق إلى دراسة جميع ديانات الشرق وعاداته وحضاراته وجغرافيته وتقاليده وأشهر لغاته، وإن كانت العناية بالإسلام والآداب العربية والحضارة الإسلامية هي أهم ما يعنى به المستشرقون حتى اليومº نظراً للدوافع الدينية والسياسية التي شجعت على الدراسات الشرقية كما سنذكره فيما بعد.

 

دوافع الاستشراق:

1- الدافع الديني: لا نحتاج إلى استنتاج وجهد في البحث لنتعرف إلى الدافع الأول للاستشراق عند الغربيين وهو الدافع الديني، فقد بدأ بالرهبان كما رأينا، واستمر كذلك حتى عصرنا الحاضر كما سنرى، وهؤلاء كان يهمهم أن يطعنوا في الإسلام ويشوهوا محاسنه، ويحرفوا حقائقه ليثبتوا لجماهيرهم التي تخضع لزعامتهم الدينية أن الإسلام وقد كان يومئذ الخصم الوحيد للمسيحية في نظر الغربيين دين لا يستحق الانتشار، وأن المسلمين قوم همج لصوص وسفاكو دماء، يحثهم دينهم على الملذات الجسدية، ويبعدهم عن كل سمو روحي وخلقي، ثم اشتدت حاجتهم إلى هذا الهجوم في العصر الحاضر بعد أن رأوا الحضارة الحديثة قد زعزعت أسس العقيدة عن الغربيين، وأخذت تشككهم بكل التعاليم التي كانوا يتلقونها عن رجال الدين عندهم فيما مضى، فلم يجدوا خيراً من تشديد الهجوم على الإسلام لصرف أنظار الغربيين عن نقد ما عندهم من عقيدة وكتب مقدسة، وهم يعلمون ما تركته الفتوحات الإسلامية الأولى ثم الحروب الصليبية ثم الفتوحات العثمانية في أوروبا بعد ذلك في نفوس الغربيين من خوف من قوة الإسلام، وكره لأهله، فاستغلوا هذا الجو النفسي، وازدادوا نشاطاً في الدراسات الإسلامية.

وهنالك الهدف التبشيري الذي لم يتناسوه في دراساتهم العلمية وهم قبل كل شيء رجال دين، فأخذوا يهدفون إلى تشويه سمعة الإسلام في نفوس رواد ثقافتهم من المسلمين لإدخال الوهن إلى العقيدة الإسلامية، والتشكيك في التراث الإسلامي، والحضارة الإسلامية، وكل ما يتصل بالإسلام من علم وأدب وتراث.

 

2- الدافع الاستعماري: لما انتهت الحروب الصليبية بهزيمة الصليبيين وهي في ظاهرها حروب دينية وفي حقيقتها حروب استعماريةº لم ييأس الغربيون من العودة إلى احتلال بلاد العرب فبلاد الإسلام، فاتجهوا إلى دراسة هذه البلاد في كل شؤونها من عقيدة، وعادات، وأخلاق، وثروات، ليتعرفوا إلى مواطن القوة فيها فيضعفوها، وإلى مواطن الضعف فيغتنموه، ولما تم لهم الاستيلاء العسكري والسيطرة السياسية كان من دوافع تشجيع الاستشراق أضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوسنا، وبث الوهن والارتباك في تفكيرنا وذلك عن طريق التشكيك بفائدة ما في أيدينا من تراث، وما عندنا من عقيدة وقيم إنسانية، فنفقد الثقة بأنفسنا، ونرتمي في أحضان الغرب نستجدي منه المقاييس الأخلاقية، والمبادئ العقائدية، وبذلك يتم لهم ما يريدون من خضوعنا لحضارتهم وثقافتهم خضوعاً لا تقوم لنا من بعده قائمة.

انظر إليهم كيف يشجعون في بلادنا القوميات التاريخية التي عفا عليها الزمن واندثرت منذ حمل العرب رسالة الإسلام، فتوحدت لغتهم، وعقيدتهم، وبلادهم، وحملوا هذه الرسالة إلى العالم فأقاموا بينهم وبين الشعوب روابط إنسانية، وتاريخية، وثقافية، ازدادوا بها قوة، وازدادت الشعوب بها رفعة وهداية، أنهم ما برحوا منذ نصف قرن يحاولون إحياء الفرعونية في مصر، والفينيقية في سوريا ولبنان وفلسطين، والآشورية في العراق وهكذا، ليتسنى لهم تشتيت شملنا كأمة واحدة، وليعوقوا قوة الاندفاع التحررية عن عملها في قوتنا وتحررنا وسيادتنا على أرضنا وثرواتنا، وعودتنا من جديد إلى قيادة ركب الحضارة، والتقائنا مع إخوتنا في العقيدة والمثل العليا والتاريخ المشترك والمصالح المشتركة.

 

3- الدافع التجاري: ومن الدوافع التي كان لها أثرها في تنشيط الاستشراق رغبة الغربيين في التعامل معنا لترويج بضائعهم، وشراء مواردنا الطبيعية الخام بأبخس الأثمان، ولقتل صناعاتنا المحلية التي كانت لها مصانع قائمة مزدهرة في مختلف بلاد العرب والمسلمين.

 

4- الدافع السياسي: وهنالك دافع آخر أخذ يتجلى في عصرنا الحاضر بعد استقلال أكثر الدول العربية والإسلامية، ففي كل سفارة من سفارات الدول الغربية لدى هذه الدول سكرتير أو ملحق ثقافي يحسن اللغة العربية، ليتمكن من الاتصال برجال الفكر، والصحافة، والسياسة، فيتعرف إلى أفكارهم، ويبث فيهم من الاتجاهات السياسية ما تريده دولته، وكثيراً ما كان لهذا الاتصال أثره الخطير في الماضي حين كان السفراء الغربيون ولا يزالون في بعض البلاد العربية والإسلامية يبثون الدسائس للتفرقة بين الدول العربية بعضها مع بعض، وبين الدول العربية والدول الإسلامية، بحجة توجيه النصح، وإسداء المعونة، بعد أن درسوا تماماً نفسية كثيرين من المسؤولين في تلك البلاد، وعرفوا نواحي الضعف في سياستهم العامة، كما عرفوا الاتجاهات الشعبية الخطيرة على مصالحهم واستعمارهم، ونحمد الله على أن هذا النوع من الاستشراق قد بدأ يفقد أثره منذ آمنت الشعوب العربية والإسلامية بسياسة الحياد وعدم الانحياز، وأصبحت هذه السياسة شعاراً صريحاً لكثير من الحكومات العربية والإسلامية، وفي مقدمتها الجمهورية العربية المتحدة.

 

5- الدافع العلمي: ومن المستشرقين نفر قليل جداً أقبلوا على الاستشراق بدافع من حب الإطلاع على حضارات الأمم، وأديانها، وثقافاتها، ولغاتها، وهؤلاء كانوا أقل من غيرهم خطأً في فهم الإسلام وتراثه، لأنهم لم يكونوا يتعمدون الدس والتحريف، فجاءت أبحاثهم أقرب إلى الحق وإلى المنهج العلمي السليم من أبحاث الجمهرة الغالبة من المستشرقين، بل أن منهم من اهتدى إلى الإسلام وآمن برسالته، على أن هؤلاء لا يوجدون إلا حين يكون لهم من الموارد المالية الخاصة ما يمكنهم من الانصراف إلى الاستشراق بأمانة وإخلاص، لأن أبحاثهم المجردة عن الهوى لا تلقى رواجاً لا عند رجال الدين، ولا عند رجال السياسة، ولا عند عامة الباحثين، ومن ثمة فهي لا تدر عليهم ربحاً ولا مالاً، ولهذا ندر وجود هذه الفئة في أوساط المستشرقين.  

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

منيب

-

عبد المؤمن

19:42:38 2021-12-27

بطاقة تعريفية بالمستشرقين صغيرة نسبيا في مقياس الخط والصفحات ثمانين, تحدث عن أوائل المستشرقين ودوافعهم و وبعض أسمائهم وكتبهم و مناقشته لهم