الاستشراق الجديد


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لقد تعرَّف الغرب بالشرق عبر قرون طويلة عن طريق عدد كبير من الكتاب والرحالة والجغرافيين والمؤرخين، والشرق الذي عرفته أوروبا قديماً يمتد من سواحل البحر المتوسط غرباً إلى البحار الشرقية النائية، وقد اختلفت وسائل اتصال أوروبا بالشرق باختلاف أهدافها وبواعثها من وراء هذا الاتصال.

وكانت بداية هذه العلاقات ترجع إلى أيام الكنعانيين، وكانت علاقات تجارية، ثُمَّ تلتها علاقات حرب واحتلال، إذ قامت الحرب الفارسية اليونانية (499 - 449ق. م)، وكانت الغلبة في البداية للفرس ثُمَّ أخرجهم اليونان من بلادهم.

وفي أواخر القرن الرابع "قبل الميلاد" قام الإسكندر المقدوني باحتلال آسيا الصغرى، وبعض أواسط آسيا، واستمر في حربه حتى وصل أبواب الصين، وقد عاجلته المنية، ولم يتعد عمره ثلاثين عاماً، وتوفي عام 323ق. م، وعندما اجتاح الإسكندر المقدوني الشرق فكَّر في احتلال الجزيرة العربية، بعدما تمَّت له الغلبة على مصر والهلال الخصيبº إذ كان وقتها في بابل، فأرسل بعثة استطلاعية تتسقط له المعلومات اللازمةº تمهيداً للاستيلاء على هذه الأصقاع المليئة بالغموض والأسرار الصعبة الاختراق، فبنى أسطولاً قوياً، واتخذ مدينة بابل قاعدة للانطلاق، وأمَّر على أسطوله قائده "أرخياس "Archias الذي عبر الخليج العربي، وصل إلى جزيرة البحرين الحالية، وكان يطلق عليها في ذلك الوقت اسم "أيلوس" وقدَّمت البعثة البحرية وغيرها من البعثات الأخرى تقارير وافية عن المناطق التي وصلت إليها، تناولت السكان، والإنتاج، والمبادلات التجارية، والوصف "الطبوغرافي" للأرض، والطرق السهلة التي يمكن لجيش جرار المرور منها في صحراء قاحلة خالية من الماء، ومن كل الوسائل المريحة التي يحتاج إليها جيش مقبل على احتلال أصقاع لم يخترقها أحد قبل ذلك التاريخ، فأخذ المهتمون بهذه الحملات تسجيل العديد من المعلومات عن الأرض الشرقية التي احتلوها، ودَّونوا كثيراً من الروايات الشفهية والسماعية عن أرض أخرى كان في نية الإسكندر ابتلاعها.

 

بداية الاستشراق:

من وجهة نظري فإن بداية الاستشراق كانت من عهد الإسكندر المقدوني، وكما رأينا فإنه قام لأهداف السيطرة والاحتلال، ومنذ هذا التاريخ كان المستشرقون المهتمون بالدراسات الشرقية مبعث اهتمامهم بهذه الدراسات يعود في المقام الأول إلى خدمة أهداف بلادهم في السيطرة على الشرق، وعند ظهور الإسلام أضيف إلى هذا الهدف هدف آخر هو محاربة الإسلام بتشويه صورته، وصورة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في الشرق والغرب، وتاريخ الاستشراق الطويل يشهد بهذا.

 

كشف حقيقة الاستشراق:

وقد كشف القناع عن حقيقة الاستشراق بعض الباحثين العرب مثل الأستاذ "أنور عبد الملك" الذي نشر مقالة له بعنوان " الاستشراق في أزمة"، ونشر بالفرنسية في مجلة "ديوجين" سنة 1963م في العدد رقم 44، ومن المستشرقين الذين ردَّوا عليه المستشرق الإيطالي "فرانسيسكو جابوبيلي" في مقالة نشرت له في مجلة "ديوجين" العدد "50" سنة 1965م كما رد عليه المؤرخ الفرنسي اليهودي "كلود كاهين" في نفس المجلة والعدد، وكذلك المستشرق الفرنسي اليهودي "مكسيم ردونسون"، حيث رد عليه ضمنياً في كتابه "جاذبية الإسلام".

ثُمَّ أعقبه كتاب الاستشراق للدكتور "إدوارد سعيد" أستاذ الأدب الإنجليزي والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في نيويورك، وقد صدر بالإنجليزية عام 1978م، وكانت له أصداء واسعة، وقد ردَّ عليه كل من المستشرق اليهودي الفرنسي مكسيم ردونسون، وكلود كاهين، والمستشرق اليهودي البريطاني الأمريكي "برنارد لويس"، وكذلك " ألان ردسون"، كما كان لبحوث عبد النبي أصطيف، وهو يعمل بكلية سانت أنتوني بجامعة أكسفورد، وممن عقَّب على كتاباته "ألان ردسون".

هذه البحوث والدراسات والمقالات قد زلزلت الأوساط الاستشراقية وجعلتهم يقررون في المؤتمر الدولي التاسع والعشرين للمستشرقين الذي عقد في باريس بمناسبة الذكرى المئوية لأول مؤتمر دولي للمستشرقين في صيف عام 1973م أن يقذفوا بمصطلح "مستشرق " في مزبلة التاريخ على حد تعبير " برنارد لويس"، ولكن في الوقت نفسه أعلنوا عن تمسكهم بمناهجهم التي اتبعوها في دراساتهم، وأنَّهم لن يتخلوا عنها لإرضاء العرب.

 

الاستشراق الأمريكي الجديد:

وهكذا نجد أنَّهم قد تخلوا عن المصطلح، ولكنهم لم يتخلوا عن المنهج والأهداف والأغراض، لذا نجدهم استبدلوا كلمة "استشراق" "بمراكز المعلومات"، أو "دراسات الشرق الأوسط"، وهذا هو الثوب الجديد للاستشراق الجديد، ولا سيما الاستشراق الأمريكي.

ومن هنا نجد بعض الباحثين المسلمين قد انخدع بهذا المصطلح الجديد وهو الأستاذ "مرسي سعد الدين" الذي يرى أنَّ هذا النوع من الاستشراق يدخل في إطار جمع المعلومات، وهو ناتج عن رغبة حقيقية في البحث نابعة من ذات المستشرق، وليس بإيعاز من أجهزة المخابرات، ويرى أنَّ هذا النوع من الاستشراق يمثله الاستشراق الأمريكي الجديد، ويضيف قائلاً: " وإن كانت هذه الدراسات تساعد أمريكا مثلاً على رسم سياستها تجاه دول المنطقة، ويؤكد على أنَّ دراسات المستشرقين الأمريكان الجدد عن مصر الفرعونية، ومصر الإسلامية، وعن الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الظروف الحالية، وعن الحركة العمَّالية، والمجتمع الريفي، ووضع المرأة والطبقة الوسطى أنَّها لم تكتب لغرض استعماري، وإنَّما هي بحوث نتيجة لتجارب كتابها.

وقد كتب هذا في مقال نشر في الأهرام في 24/8/1999م، بعنوان "الاستشراق الجديد" والأستاذ "مرسي سعد الدين" متفائل جداً، فهو يجزم أنَّ هذه الدراسات بإيعاز من أجهزة المخابرات، وليس لأغراض استعمارية، مع أنَّ ما ذكره من نوعية الدراسات يؤكد لنا أنَّ الغرض استعماري.

 

أهداف الاستشراق:

فالاهتمام بمصر الفرعونية هذا من أهداف الاستعمارº إذ يسعون لإحياء القوميات الجاهلية القديمة في العالم الإسلامي، فقد نبَّش المستشرقون خاصة في النصف الأول من القرن العشرين في الحضارات الجاهلية القديمة، وإحياء معارفها لسلخ المسلمين من دينهم، من ذلك بعث الفرعونية في مصر، والفينيقية في سوريا، والآشورية في العراق، والفارسية في إيران، والقومية الطورانية في تركيا، أمَّا الجزيرة العربية فلقد بحثوا في آثار السابقين، وأسموا دراساتهم "التاريخ الحضاري للعرب قبل الإسلام"، وذلك ليطفئوا نور الإسلام، وأنَّ الإسلام ليس وحده هو الذي قدم الحضارة الإنسانية، وليقطعوا صلة الأمة الإسلامية بماضيها الحقيقي الذي بدأ بظهور الإسلام.

أمَّا دراساتهم عن العصور الإسلامية فهي لا تخلو من الدس والتشويه، وأمريكا تريد القضاء على الإسلام والسيطرة على البلاد الإسلامية، ففي شهر مايو سنة 1992م صرَّح نائب الرئيس الأمريكي في حفل الأكاديمية البحرية الأمريكية بولاية ماريلاند أنَّهم قد أخيفوا في هذا القرن بثلاثة تيارات هي: الشيوعية، والنازية، والأصولية الإسلامية، وقد سقطت الشيوعية والنازية، ولم يبق أمامهم سوى الأصولية الإسلامية، وما حملتها الآن على ما تسميه إرهاباً ومحاربتها له إلاّ للقضاء على الإسلام، وبسط نفوذها وهيمنها على الشعوب والدول الإسلامية ولا سيما العربية.

أمَّا عن الدراسات المعاصرة للأحوال الاجتماعية والاقتصادية فمعروف أنَّ المستشرقين المعاصرين في الولايات المتحدة قد أولوا عناية فائقة بدراسة الأوضاع القائمة في المنطقة العربية منذ قيام إسرائيل وحتى الآن، وذلك في إطار تجنيد هؤلاء المستشرقين والعملية الاستشراقية الأمريكية إجمالاً لتلبية احتياجات وتطلعات السياسة الأمريكية في هذه المنطقة، واحتل الاهتمام بإسرائيل مكانة خاصة في الاستشراق الأمريكي المعاصر، انطلاقاً من الدور الوظيفي الذي تؤديه إسرائيل في تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية، فانصبت غالبية نشاطات المستشرقين الأمريكان في مجالات الأبحاث الصراعية باتجاه تعزيز المواقع الإسرائيلية على جبهة المواجهة مع العرب، ومن المستشرقين الأمريكان الذين يسعون لخدمة الصهيونية "برنارد لويس" وهو يهودي بريطاني الأصل، ومنذ سنة 1973م انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكيةº إذ أصبح عضواً دائماً في معهد الدراسات المتقدمة، وفي الجمعية الفلسفية الأمريكية، وشغل منصب أستاذ الدراسات الشرق أوسطية في جامعة برنستون، وانتقال "برنارد لويس" إلى الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنة 1973م يبين لنا أنَّ هذا المستشرق انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية لهدف يسعى إلى تحقيقه من خلال الدور الأمريكي في الدعم الصهيوني، خاصة بعد حرب أكتوبر عام 1973م التي قلبت موازين الاستراتيجية الصهيونية والأمريكية، إضافة إلى إدراكه أنَّ الدور البريطاني في الدعم الصهيوني قد ضعف أمام قوة الاستراتيجية الأمريكية، وأنَّ الصهيونية قد حصلت من بريطانيا ما تريده منها، فلقد أدت بريطانيا دورها، والدور الآن على الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق بقية الحلم الصهيوني باعتبارها أكبر دولة في العالم، وإسرائيل هي الدولة المدللة لديها.

ولم يتوقف الاستشراق الأمريكي على خدمة الأهداف الصهيونية، بل نجده قد تعاون مع المخابرات المركزية الأمريكية لخدمة مصالح أمريكا في الشرق الأوسط، وذلك من خلال "مركز دراسات الشرق الأوسط " في جامعة هارفارد، ومن المستشرقين اليهود الأمريكان الذين تعاونوا مع جهاز المخابرات الأمريكية " ندَّاف سفران" الذي عمل مديراً لمركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة "هارفارد" حتى إقالته عام 1985م حيث تمَّ كشف النقاب عن تعاون "ندَّاف سفران" مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وكان هذا الكشف فضيحة في الأوساط الأكاديمية حيث قبض سفران مبلغاً وقدره 45 ألف دولار من المخابرات الأمريكية لتمويل ندوة في جامعة هارفارد حول " نمو المشاعر الإسلامية في الشرق الأوسط"، وتبين كذلك أنَّ المخابرات الأمريكية قد دفعت 107 ألف دولار مقابل قيام سفران بتأليف كتاب عن المملكة العربية السعودية، ويتضمن هذا الكتاب الذي تعهد سفران بتنفيذه دراسة عن حجم القوى الإسلامية في هذا البلد بهدف الإجابة عن سؤال مهم هو: كيف يمكن السيطرة على هذه القوى؟ وكيف يمكن أو هل يمكن لهذه القوى أن تسيطر على زمام الحكم هناك؟

وقد كلَّف سفران أحد أساتذة الجامعة العبرية في القدس "البروفسور آفير" بإجراء بحوث ميدانية بالتعاون مع الطلبة العرب، ودراسة الصحف الصادرة في البلد المعنية بالدراسة المتوفرة في معهد "ترومان" لأبحاث الشرق الأوسط التابع للجامعة العبرية، إلاَّ أنَّ الطلاب العرب في الجامعة المذكورة رفضوا التعاون مع البروفسور الإسرائيلي، وبعد افتضاح الأمر أجرت جامعة "هارفارد" تحقيقات مع سفران، وأقيل على إثرها، لكن سفران ادعى أنَّه هو الذي قدَّم استقالته بسبب الحساسية التي سببتها تحقيقات الجامعة معه، وأخذ يدافع عن ارتباطه بوكالة المخابرات المركزية مؤكداً أنَّ علماء كثيرين جداً يعملون في جامعة هارفارد، ويقيمون علاقات وطيدة مع الوكالة يتلقون منها المساعدات المالية، وأنَّ الجامعة لا تكتفي بإجازة هذه العلاقات بل تشجعها، ولم تنف جامعة هارفارد هذا الأمر.

وهذه المؤشرات في قضية سفران تبرهن خلاف ما ذهب إليه الأستاذ "مرسي سعد الدين" بأنَّ دراسات الاستشراق الأمريكي الجديد بعيدة عن أجهزة المخابرات الأمريكية والأغراض الاستعمارية، وهذه وقائع حدثت لم آت بها، وإنَّما واردة مصادرها في الهوامش، وبالإمكان الرجوع إليها.

 

تعريف الاستشراق:

والذي أريد قوله: إنَّه علينا ألاَّ ننخدع بالمصطلحات الجديدة، فالاستشراق حديثه مثل قديمة لا يخرج عن كونه مؤسسة غربية بالغة القوة، قائمة على دراسة الشرق بشتى جوانبه، مع التركيز على الجزء الإسلامي منه برؤية غربية قائمة على التفوق العرقي والثقافي بهدف سيطرة الغرب على الشرق، وتشويه الإسلام في الشرق والغرب. 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply