المنهج الاستشراقي عند المتغربين فكرياً


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الاستعمار الغربي استغل ظاهرة الاستشراق في تمرير سياسته في الشرق، وإلغاء ثقافة الآخرين، واتهامها (بالضحالة، والرجعية، والجمود)، لهذا لم يفرق كثير من الباحثين بين الاستشراق القديم والاستشراق الجديد الذي وصف نفسه بـ(العلمي)، وهذا يدعونا للتأمل بشأن العلاقة بين (السياسة الغربية والاستشراق)، ويدعونا كذلك للوقوف طويلاً على موضوع استغلال اطروحات المستشرقين لصياغة سياسة غربية متعنتة تطبق في الشرق الأوسطº مع اتباع موقف إشكالي إزاء الإسلام، وإلغاء ثقافة الآخرين، واتهامها بالإرهاب.

ويوضح هذه الحقيقة أدوارد سعيد في كتابه (الاستشراق) ص 89 قائلاً بصراحة وموضوعية: (لم يصبح الإسلام رمزاً للرعب، والدمار والشيطاني، وأفواج من البرابرة الممقوتين بصورة اعتباطية، فبالنسبة لأوروبا كان الإسلام رجة مأساوية دائمة).

وهكذا فإن الاستشراق ببحوثه، وتوجهاته، وحقده على الإسلامº سهل الاختراق الأوروبي والأمريكي للشرق، وقد لعبت الإرساليات دوراً بارزاً في ذلك، إضافة إلى تشجيعها للسياسة الأوروبية لكي تصب في خدمة الصهيونية العالمية، وإقامة دولة لها في فلسطين.

وكان طبيعياً ضمن هذا التوجه أن تشوّه صورة الإسلام والمسلمين، ولعب المستشرق الأوروبي (غوستاف فون) دوراً كاملاً في قلب الحقائق، خصوصاً بعد أن هاجر إلى (أميركا)، وعمل في جامعة شيكاغو، وصاغ نظرياته الاستشراقية الجديدة من وحي الاستشراق الديني القديم، ولم يتورع (فون) من اعتبار المسلمين في (أدنى السلم الإنساني، ومن الواجب عدم الاعتراف بحقوقهم ومصالحهم)!!

أما المشرع البريطاني (ستيوارت ميل) فيلغي من جانبه كل الحقوق والمصالح من الأساس، ويعتبر أن بعض الشعوب التي يسميها بـ(الهمجية) لابدّ أن تحكم بالقوة وبالقوانين الوضعية، مع عدم الاعتراف لها بأي التزام قانوني!!

ويرسم ادوارد سعيد ملامح العلاقة بين الغرب والإسلام بصورٍ, من خلال تقييمه للظاهرة التلفيقية الاستشراقية التي جعلت (أبسط التصورات للعرب والإسلام قضية مشينة إلى درجة عالية، بل تكاد تكون خشنة:

أولاً تاريخ التمييز الشعبي ضد العرب، وضد الإسلام في الغرب، الذي ينعكس مباشرة في تاريخ الاستشراق.

ثانياً: الصراع بين العرب والصهيونية الإسرائيلية، وتأثير هذا الصراع على اليهود الأمريكيين، بالإضافة إلى تأثيره على كلا الثقافة التحررية، والكيان عامة).

أما الدكتور محمد النقوي في كتابه (الاتجاه الغربي) ص 158فيوضح تلك العلاقة المتشنجة من خلال بحوث المستشرقين التي تهدف إلى (إيجاد الشعور بالحقارة لدى المسلمين أمام الثقافة والحضارة الغربيتين، لكي لا يستفيدوا من شخصيتهم الثقافية والرسالية، ويتسببوا في انحطاطهم تجاه الأمم الغربية، ويعترفوا بحقارتهم، ويصدقوا بأنهم شعب منحط)، فالمستشرقون (عزموا على الإلقاء في روع الشرقيين أن الرجل الشرقي نبغ في مجال العرفان فقط، وأنه ذو عقل عاطفي، وأنه لابد له من الاعتماد على الغرب في الصناعة، والعلم، والتقنية، والحضارة).

وقد قرأت لـ(زكي نجيب محمود) نفس هذه المقولات الاستشراقية في كتابه (المعقول واللامعقول)، حيث أكد على موضوع (العقل العاطفي والشاعري للإنسان الشرقي)، وأن حضارة الشرق حضارة شعر وخيال، أما (حضارة الغرب) فهي (حضارة علم، وعقل، وإبداع) منذ القدم!!، وللأمانة والموضوعية نقول: إن الدكتور (زكي نجيب) تراجع عن كثير من أفكاره في كتابه (عربي بين ثقافتين).

وهكذا فإن (مثقفي التغرب) من العرب والمسلمين قد رددوا مقولات استشراقية دون وعي وإدراك، لأنهم قد انبهروا بالغرب، ومنهجه، وثقافته، وتقدمه التكنولوجي إلى درجة أفقدتهم مصداقيتهم، وموضوعيتهم، ومنهجيتهم، وكانوا بحق أذرع الغرب في المجتمع الإسلامي، يحاولون إنجاح ما عجز عنه المستشرقون، وتهيئة الأرضية ليسهل تشويه الإسلام، الذي يعد أكبر خطر تواجهه أوروبا قديماً وحديثاً، وهذا ما يؤكد عليه (لورانس براون) قائلاً بأن:

(الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام، وفي قدرته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته، إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي).

وليس غريباً إذا عرفنا ذلك أن نجد بيننا من يستغل الثغرات لافتعال ضجة غايتها إبعاد الإسلام والحركة الإسلامية عن ساحة الصراع، وفصل الدين عن السياسة، وجعله طقوساً تنشط في التكايا والمحاريب.

ونتساءل لماذا يربط مثقفونا منهجهم وتحليلهم بمنهج وتحليل الغرب؟!

لا أعرف!! ولا أريد هنا أن أتهمهم بشيء، كل ما أريد قوله أن عملهم هذا يحمل للأمة الأسى والمرارة، ويكرس الإحباط والانكسار، خصوصاً وأنهم وقفوا ضد الصحوة الإسلامية، واتهموها بالإرهاب، مرددين نفس مقولات المثقفين الأوروبيين الذين يعرفون جيداً أن الحركة الإسلامية تهديد خطير لمصالح الغرب وأطماعه في منطقة (الشرق الأوسط).

ويعد (محمد عابد الجابري) من المثقفين العرب المبدعين لكنه للأسف الشديد متغرب فكرياً في أطروحاته، ويؤمن بوهم (المعجزة اليونانية) التي يعتبرها (عقلية خالصة)!! فيما يهاجم باستحياء الأصالة الإسلامية ويعتبرها رجعية!! ويدعو إلى (تأصيل الأصول) من خلال عملية تغيير شاملة، وهذا معناه (تغيير الأصول) وليس تأصيلها.

ولكي لا تأخذنا تداعيات القول بعيداً نعود إلى صلب الموضوع، ونؤكد على أن هناك نوعاً من الاستشراق يتسم ببعض الموضوعية والعلمية، لكنه يتلبس بالحقد على الإسلام، ويخلط الحق بالباطل، فـ(كارل بروكلمان) مثلاً كتب في تأريخ الأدب العربي بصورة موسعة، جعلت الباحثين العرب يعتمدون كتابه لما يحتويه من مادة أدبية جمعت كل ما كُتب باللغة العربية، ويقول الدكتور المرحوم عمر فروخ في كتابه (تاريخ الأدب العربي) ج 1 ص 18عن هذا الجهد:

(إن كتاب بروكلمان جريدة إحصاء لكل من كتب، ولجميع ما كُتب باللغة العربية، ومن هذه الناحية لن يستطيع الباحث العربي أن يستغني عن ذلك الجهد الجبار).

ولكن (بروكلمان) في مناسبات عديدة لم يتخلص من عقدة الحقد على الإسلام، وتشويه الحقائق، واعتقد أن ذلك هو السبب غير المعلن الذي دعا عمر فروخ إلى تجنب المنهجية التي أسماها (افرنجية) في وضع كتابه القيم (تاريخ الأدب العربي).

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply