الغرب والإسلام.. قراءات في رؤى ما بعد الاستشراق


بسم الله الرحمن الرحيم

 

يرى الدكتور رسول محمد رسول في كتابه الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر والموسوم «الغرب والإسلام.. قراءات في رؤى ما بعد الاستشراق» أن الأديان تعود اليوم قوة أكثر فاعلية في التاريخ عامة، وفي تاريخ تصارع القوى خاصة، ومنذ نحو نصف قرن تقريباً عاد الإسلام كأحد الأديان الأكثر مزاحمة بين الأديان الأخرى إلى حيز التداخل والتفاعل مع اتجاهين يبدوان في الظاهر متباعدين نسبة إلى الحس العام لدى المسلمين وغيرهم، إذ نلاحظ العودة إلى البعد السياسي المزاحم في الفكر الإسلامي من جهة، والى الانفتاح على واقع الإسلام المعاصر في علاقاته المتبادلة مع الأديان والثقافات الأخرى، ودخوله بطرق جهادية ونضالية مزاحمة مع القوى الحضارية والثقافية من جهة أخرى.

وأشار الباحث إلى أن هذا التداخل الجديد بشكليه كان موضع اهتمام الغرب المسيحي واليهودي المعاصر على السواء، بل ومخاوفه وقلقه، فأخذ تسميات عدة منها: الإسلام السياسي، الأصولية الإسلامية، الإرهاب الإسلامي، واشتقاقات أخرى مثل الإسلاموية، والرهبوية الجديدة، وغيرهما حسب سياقات التعبير اللغوية، والرؤى التأويلية إلى ظاهرة الإسلام المعاصرة.

خلال هذا الاهتمام اعتمد الغرب المعرفة والمؤسسة بكل عطائيهما التداولي لقراءة الإسلام المعاصر، وتعددت أوجه الرؤى منها ما هو سلبي، وآخر ايجابي، كان الأول هو الغالب على مدى عقود طويلة، إلا إن متغيرات العصر حتمت ظهور رؤى جديدة كان منها أن تعيد المركزية الغربية النظر في مواجهاتها بإزاء الإسلام المعاصر.

فالذي جرى في الأدبيات الغربية التي تدرس الظاهرة الإسلامية المعاصرة إنها غالباً ما تسقط مفاهميها الخاصة بالمزاحمات الدينية اليهودية والمسيحية في دار الغرب على الديانة الإسلامية، فمصطلح «الأصولية» هو نتاج للماكنة المعرفية الأمريكية حين ظهوره مطلع القرن العشرين، كما أن ما ساعد على ولادة رؤى ايجابية نطلق عليها رؤى ما بعد الاستشراق هو وجود الجاليات الإسلامية الوفيرة في عددها داخل الدول الأوروبية والغربية الأخرى، حيث تبين عن كثب للغرب أن حدة الإرهاب عند المسلمين هي أقل مما يتصورون في الماضي، عندما عزت المؤسسة الاستشراقية هذا التصور رغم وجود إحصائيات ترى أن 10% من الإرهابيين في العالم هم من المسلمين.

ويرى الباحث أن توصيف الأسباب التي أدت إلى تحول الرؤية الغربية إلى الإسلام يتطلب جهداً كبيراً، فأسباب الواقع تجاورها أسباب فكرية وفلسفية فهناك من سعى إلى تفويض المركزية الغربية مثل الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا الذي نقض المركزية الغربية، ودعا إلى فك المركز باتجاه الأطراف، لكن هذا اليهودي أراد فك المركز لفرض خلق مراكز أخرى تتحكم في مصير جغرافية ما، ومثال إسرائيل وجودها في قلب الوطن العربي هو أنموذج لدعوته، كما أن دعوة الرؤية البنيوية إلى إحلال العلاقة تتضمن دعوة صريحة للتفكير بالآخر كما هو دون مسبقات رؤيوية، إلى جانب ذلك هناك رؤية ميشيل فوكو الفيلسوف الفرنسي الذي اقترح تجاوز المناطق المعرفية التقليدية التي انكب عليها الفكر منذ أكثر من ألفي عام إلى غيرها، وهي دعوة ضمنية إلى دراسة الهامش والأطراف الحضارية والثقافية على ضوء منهجيات استقرائية، وفي أمريكا ومنذ الستينات دعا مارشال هودغسون إلى ضرورة إعادة النظر بالإسلام المعاصر، واللجوء إلى مفاصله برؤية مختلفة.

وفي فصول الكتاب نستقري الرؤى الجديدة في نظرتها إلى الإسلام من خلال اتجاهاتها الثلاثة، وبالتالي المواقف الأمريكية في نظرتها إلى الإسلام المزاحم، أو الإسلام السياسي والأصولي، فهناك رؤى ايجابية نجدها في الرؤية الأمريكية العامة تجاه الإسلام لدى مارشال هودغسون، ووليم زارتمان، وصاموئيل هنتنجتون (كدالة سلبية تفرض المقارنة بين المواقف السلبية والايجابية)، ثم ديل ايكلمان، وتيموثي ميتشل، وجون ايسبوسيتو، وغراهام فولر.

وفي الفصل الثاني حرص المؤلف على استقراء مواقف أوروبية جديدة ومختلفة في نظرتها إلى الإسلام المعاصر بدأت بالرؤى الألمانية لدى جيرنوت روتر، ثم فريدمان بوتنر، وليس بعيداً عن ألمانيا استقرأت رؤية مختلفة قادمة من السويد هذه المرة مع انجمار كارلسون وهو يدرس الإسلام المعاصر على ضوء جدلية الخوف المتبادل بين الغرب والإسلام بعد ذلك التوقف عند واحدة من أهم رؤى الاختلاف في المنظور الفرنسي إلى الإسلام المعاصر، تلك هي مساهمة الباحث الفرنسي الكبير برتراند بادي الذي دعا إلى نقض الحداثة الشمولية، والالتفات إلى الحداثات الهامشية، ومنها تجربة الحداثة في البلدان الإسلامية الحديثة والمعاصرة.

ويلاحظ المؤلف أن هذه الرؤى مجتمعة تعبر عن رؤى جديدة لدى الأمريكيين والأوروبيين في دراسة الإسلام المعاصر اسماها «ما بعد الاستشراق» كونها تنحو إلى الاختلاف في قراءة الظاهرة الإسلامية، وبقدر ما تستند إلى منزع تأويلي نراها تركن إلى الاستقراء والمعاينة المباشرة لمعطيات هذه الظاهرة، إيماناً بأننا مثلما ننزر أيضاً ونتابع بجد وبإخلاص الرؤى المغايرة للرؤى السلبية لا بد أن نفيد منها، ونستخلص ما يمكن أن يسوغ لنا الحوار مع الغرب على أساسها ضمن منطلقات التعارف البشري والحضاري والثقافي.

ويشير المؤلف إلى أن القصد من هذا الكتاب ليس الاحتفال بهذه الرؤى، ولا التبشير مجدداً بالفكر الغربي حول الإسلام - مع أن هذه مهمة ذات قيمة ثقافية، وفكرية ضرورية - إنما القصد هو المتابعة لفكر الاختلاف، ومعطيات المثاقفة الجديدة لا أكثر.

ويختتم الكتاب بفصل ثالث يتضمن قراءات أخرى في فكر المثاقفة عن الإسلام، وحداثة الغرب الأولى، ثم العلاقة بين الإسلام والعولمة في ضوء جدلية الاجتهاد والتنافذ مع العصر، وقراءة في موضوع الإسلام والمثاقفة الجديدة بشيء عن عولمة الهوية، ومخرج لازمة العلاقة بين العقل والتاريخ.

ويؤكد المؤلف أن هناك افتراقاً داخل الولايات المتحدة الأمريكية في نظرتها الكلية إلى الإسلام المعاصر، وهذه الرؤية بطبيعتها قائمة على أساس سياسي وهو شأن النظرة الأمريكية إلى الإسلام منذ نشأت حتى اليوم، إذ نجد هناك فئة من الأكاديميين الأمريكيين تنضر أراء تجاه الإسلام غير التي تنضرها فئة أخرى ممن يضعون استراتيجية ما للإدارة الأمريكية بإزاء الإسلام، والملاحظ في هذا الصراع أنه يوماً بعد آخر يتسع في فجواته، ويبدو أن كل طرف محق في ما يرى في الاتهامات المتبادلة بينهما، فالأكاديمي يكتسب فكره قدراً من الوضوح والصحة الفكرية، ورجل السياسة وصانعها يؤكد أهمية تحقيق نجاحات على أرض الواقع قائمة على أساس الفلسفة النفعية أو (البراجماتية) كما هو المصطلح، على العكس من ذلك حيث يسعى الأكاديمي ورجل المعرفة المنظمة القائمة إلى إحلال النظرية على العدالة والمساواة الإنسانية. 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply