الحروب الصليبية ومناهج الاستشراق


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

شغلت الحروب الصليبية حيزاً واسعاً من التأليف والتدوين والتأريخ، فكتب فيها من عايشها من المؤرخين العرب والمسلمين كابن شداد، وأسامة بن منقذ، واستند على تدوينهم معظم المؤرخين العرب القدامى كابن الأثير، والطبري، ومن عايشهم في عصور انحدار الدولة العربية.

ولما لم تكن هذه الحروب محلية أو محصورة، فإنها في وقتها وما بعده من سنين فتح الباب على مصراعيه ليكتب عنها المستشرقون الغربيون على شتى مناهجهم وتوجهاتهم، وتصل إلى أيدينا مادة ضخمة حول هذه الحروب وآثارها على كافة المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية.

وبطبيعة الحال فإن الإنصاف والحيادية لم يكونا بعيدين كثيراً عن التحيز والتعصب، وخاصة أن المستشرقين الذين يدعون تلك الحيادية والموضوعية ظلت تشدهم جذورهم الدينية والتاريخية ليقعوا في مطب الهوى، وتصوير الأحداث تصويراً مخالفاً للحقيقة.

ومع ذلك كله فقد جاء القرن الماضي أي القرن العشرين ليفرز نوعين من المستشرقين في العالم الغربي، وبرز المؤرخون السوفيات كطرف، والمؤرخون الأوروبيون الغربيون كطرف آخر، والحقيقة أن الحروب الصليبية بشكلها العام كانت ذات توجه أوروبي غربي تقوده الكنيسة البابوية، ويجمع تحت ظلها غالبية أبناء أوروبا الغربية كالفرنسيين والطليان والإنجليز والهولنديين وغيرهم.

ومن الطبيعي أيضاً أن المؤرخين السوفيات الذين ينتمون تاريخياً إلى الكنيسة الأرثوذكسية رأوا أن الكنيسة البابوية الكاثوليكية كانت تنظر نحو الأرثوذكس نظرة دونية، ويعتبرون الكنيسة الأرثوذكسية خارجة عن المسيحية، ولهذا السبب اكتوى المنتمون لهذا المذهب بنار المذهبية، وقدموا ضحايا كثيرين بسبب التعصب الصليبي الكاثوليكي، بل إن الحملات الصليبية الغربية هاجمت مئات القرى والمدن في أوروبا الشرقية، وقتلت المئات من أبنائها، صحيح أن ذلك حدد الرؤية التاريخية للمستشرقين السوفيات، ولكن علم التاريخ الذي خاض فيه المستشرقون فتح آفاقاً كبرى لمن يريد الكشف عن حقائق الحروب الصليبية وأهدافها، ولعل في التناقض الصارخ بين منهجين استشراقيين غربيين ما يفتح الأبواب على دراسة طبيعة الاستشراق، وغاياته، وأهدافه من ناحية، ويحقق للقارئ الكشف عن دقائق الأمور في الصراع بين الشرق والغرب في القرن العاشر وما بعده.

ومن المعروف لدى المهتمين بالحروب الصليبية ووقائعها أن المستشرق الفرنسي رينيه كروسيه يعتبر من أهم الباحثين الفرنسيين المتخصصين في تأريخ الحروب الصليبية، وهو بالمحصلة يمثل تياراً غربياً استشراقياً عمل في تدوين وقائع تلك الحروب في ثلاثة مجلدات تعتبر أهم مراجع البحث في الموسوعات الفرنسية التاريخية، ومرجعاً لكل طالب يدرس التاريخ في الجامعات الفرنسية، ولما كان كثير من الطلاب العرب الذين يدرسون التخصص ليحصلوا على شهادات الدراسات العليا مضطرين للعودة إلى المراجع الأولى في الجامعات الفرنسية فإنهم يقعون فريسة الأفكار التاريخية التي وصفها كروسيه وغيره من المستشرقين، والأخطر من ذلك أنهم يعودون إلى بلدانهم العربية يحملون هذه الأفكار، وينقلونها إلى طلبة الجامعات، مما يؤدي بالتالي إلى تغيير حقائق الحروب الصليبية، وحرفها عن واقعيتها، وإيقاع قارئيها في مطب التشوّش التاريخي، وعدم الثقة بالمؤرخين العرب الذين عايشوا تلك الحروب وكتبوا عنها.

ومنذ البداية تظهر كتابة كروسيه عن الحروب الصليبية على اعتبارها حروبه هو وحروب الغربيين ضد الشرق الإسلامي، دون النظر إلى طبيعة تحرك هذه الحروب على اعتبارها غزواً واستعماراً لهذا الشرق.

يقول كروسيه: ينبغي لنا نحن الأوروبيون الاعتراف بحق لهؤلاء الأباطرة الأشداء الذين حكموا في تلك الظروف الصعبة بفضلهم في إنقاذ معقل الحضارة الأوروبية، فإن أيام القسطنطينية المشهودة في عام 717 ـ 718م التي صد فيها ليون الإيسوري زحف الهجوم الإسلامي في الشرق لا تقل أهميتها بشيء عن معركة بواتيه (بلاط الشهداء) عام 732م الذي أوقف فيه قائدنا الفرنسي شال مارتل هجوماً آخر مشابهاً في الغرب.

ويرى كروسيه أن الحروب الصليبية بدأت فعلياً منذ عصر بني أمية، واشتدت زمن بني العباس، حتى إنه يعتبر معركة عمورية التي قادها المعتصم من أشهر الحروب الصليبية باعتبارها حرباً دفاعية ضد المسلمين الذين غزوا بلاد الإمبراطورية البيزنطية.

ونلاحظ أن كثيراً من الحقائق يغيبها كروسيه حيث يتحدث مثلاً عن وقعة عمورية، ويبدي حزنه الشديد لأنه حسب ما يكتب يرى في أبعاد المعركة انتهاكاً لحقوق الصليبيين الدينية، يقول: في عام 1838م اقتحم المسلمون مدينة آموريوم الواقعة في قلب فيريجيا، وانتهبوها، وأما قادة حاميتها البيزنطية فقد أبقوا في الأسر مدة طويلة، ثم صدر الأمر بإعدامهم لرفضهم اعتناق الديانة الإسلامية عام 845م، وقد اشتهر هؤلاء باسم شهداء أموريوم الاثنين والأربعين، وتوضح هذه الحادثة بجلاء كيف أن تلك الحروب القديمة بين المسلمين والبيزنطيين يمكن اعتبارها بشكل أو بآخر بمثابة حروب صليبية باكرة، وهنا يبدو التعصب التاريخي المنحاز للغرب، فالحقائق تُخفى وتجرد الحوادث التاريخية من أسبابها.

فمدينة أموريوم ( عمورية ) التي عرفت رداً إسلامياً قاسياً من قبل المسلمين على انتهاك حرماتهم وأراضيهم، فالرومان هاجموا مدينة زبطرة العربية واستباحوها، ووقعت في أسرهم النساء، ومنهن امرأة هاشمية صرخت وامعتصماه، ولما وصل الخبر الخليفة العباسي رد على الرومان بأن غزا عمورية بجيش قوامه ستون ألفاً.

أما قصة إعدام الحامية البيزنطية وعدد أفرادها اثنان وأربعون عنصراً لأنهم لم يعتنقوا الدين الإسلامي فهي قصة تفتقد إلى دقة الخبر وصحته، فهذه الحامية كما تذكر كتب التاريخ لم تكن سوى ضباط وجنود رومان ظلوا سبع سنوات وهم معتقلون، وجرت مفاوضات لتبادلهم مع بعض الأسرى المسلمين الذين ظلوا في السجون البيزنطية سنوات، وقد حاول الرومان التأثير عليهم لتنصيرهم حتى لو كان عن طريق القوة، ولما لم يستجيبوا نفذ حكم الإعدام ببعضهم، ولما علم المسلمون بذلك نفذوا حكم الإعدام ببعض أفراد تلك الحامية الرومانية.

وجرياً على عادة تغيير الحقائق فقد قال كروسيه عن أحداث 1009 ـ 1010م إن كنيسة القبر المقدس (أي القيامة) بالقدس هُدمت وسويت بالأرض بأكملها تقريباً وذلك من قبل الخليفة الفاطمي، وتغافل كروسيه أن كنيسة القيامة كانت تخص المسيحيين العرب وليس المتنصرين الغربيين، وهذه الحادثة لم تحدث قط، ولكن كروسيه الذي يمهد للحروب الصليبية يضع منذ البداية حكايات غير واقعية مبرراً من خلالها ما قام به الصليبيون عندما اقتحموا مدينة القدس، وفتكوا بأهلها.

وحين يغوص في التبريرات يرى أن الحملات الصليبية المتتالية ليست إلا رداً على اقتحام المسلمين بعض السواحل الإيطالية، والجزر الغربية القريبة منها، فيقول مثلاً "وقامت إحدى فرق المسلمين بعملية اتصفت بجرأة واجتراء خارقين، تمكنوا فيها من الإغارة على كنيسة مار بطرس الكبرى في قلب روما عام 846م".

وبمعنى آخر لم تكن الحروب الصليبية سوى رد دفاعي على المسلمين خاصة المسلمين الذين انطلقوا من تونس والجزائر لغزو السواحل الجنوبية الإيطالية، وجزيرة صقلية، وسردينيا وغيرها حسب قول المؤرخ المستشرق كروسيه، فإذا كانت الحروب الصليبية رداً دفاعياً فلماذا ظل الصليبيون قابعين حوالي مائتي عام في بعض المدن والمناطق العربية؟ كطرابلس، والرها، وأنطاكية، ولماذا ظلوا في القدس محتلين أكثر من تسعين عاماً؟ لماذا أقاموا ممالك وإمارات في المناطق التي احتلوها، وأبادوا سكانها؟ فالحروب الصليبية لم تكن حروباً دفاعية، إنما هي حروب هجومية احتلالية، همجية دموية.

وحينما ننظر إلى منهج آخر من مناهج المستشرقين نرى ميخائيل زابوروف يتصدر المستشرقين السوفيات في تناوله للحروب الصليبية.

رينيه كروسيه يصور الصليبيين بالأبطال كونهم تصدوا في البدايات للجيوش الإسلامية، وأوقفوا زحفها كما يقول، أما زابوروف فيصورهم على حقيقتهم منطلقاً من موقف إنساني موضوعي واقعي صحيح، فيقول مثلاً عند تقدم جيوش الصليبيين حول أسوار القدس:

"إن حمامات الدم، وعمليات النهب الشاملة المقترفة في القدس قد حجبت المآثم والوحشيات المقترفة في أنطاكية".

ويصف المشهد قائلاً: "والمجازر وعمليات النهب والسلب تخللتها الصلوات المحمومة أمام قبر السيد المسيح، ومن الصلوات كان الفرسان ينتقلون في الحال إلى الأعمال الدموية، كانوا يقتلون الجميع من رجال ونساء، وأطفال وشيوخ، وأصحّاء ومقعدين، وفي المسجد الأقصى ذبح الصليبيون ما لا يقل عن عشرة آلاف شخص، وهذا العدد يذكره على كل حال شهود العيان اللاتين"، "ولم يكن ثمة مكان كان بوسع المسلمين أن يتحاشوا فيه القتلة، وكانوا يسحقون رؤوس الرضع على الحجارة".

أما منطق رينيه كروسيه فهو منطق الغرب الذي خبرناه على مدى الزمن الاستعماري الذي حلّ في بلادنا العربية.

فيقول كروسيه في وصفه لاحتلال القدس: "وهكذا تم سقوط القدس بأيدي الصليبيين إثر اقتحام مروّع بذل فيه كودمزواري بديون كل قواه، وعرض نفسه للموت بجسارة، ولكن أعقب ذلك - مع الأسف - مذبحة بشعة لسكان المدينة من المسلمين، وكانت آثار هذه المذبحة لا إنسانية وفاسدة سياسياً، فإن مسلمي القدس كانوا من النوع الذي يشكل عقبة كأداء أمام الفاطميين لاحتلال باقي مدن الساحل الفلسطيني".

فرينيه كروسيه يمجد بطولة قائد الحملة، ويصف عمله بالجسارة، ثم يحلل المذبحة واحتلال القدس فيقول: إن المعركة خاسرة لأن أهل القدس كانوا معارضين للفاطميين في مصر، ولم يتحدث عن المجزرة المروعة إلا بهذا الاقتضاب العابر.

ويرى زابوروف أن مؤرخي هذه الأحداث من الغربيين يصفون هذا الحدث بقدر متفاوت من الإسهاب والتفصيل، ويتحدثون بتفاصيل طبيعية عن أعمال جنود الرب التي تبدو لهم جديرة بالمديح والثناء.

ويوضح زابوروف غاية من غايات الحروب الصليبية حيث يقول: "فبعد فتح الرملة التي صارت أسقفية أخذت ترتفع بينهم أصوات تطالب بالتوجه إلى مصر وبابل، وينقل مدونو الأخبار هذه المشاريع الخيالية التي تزاحمت في رؤوس أشد جند المسيح جشعاً وغروراً، وكأنهم نسوا مساعدة الإخوان المسيحيين، ولم يكونوا يفكرون إلا بإمكان فتح كثير من الممالك".

وحين يتحدث المستشرقون عن موقعة حطين، وتحرير بيت المقدس على يد صلاح الدين والجيش الإسلامي تبرز بعض الموافقات والتطابقات في الرواية، إلا أن الاختلاف يقع في النظرة الاستراتيجية للحدث برمته.

فرينيه كروسيه اعتبر معركة حطين كارثة، وأن تحرك صلاح الدين كان عبارة عن اقتناص للمدن الفرنجية على حد قوله.

أما لغة زايوروف فإنها تجاري الحق والواقع حيث قال: "كان انتصار صلاح الدين في حطين مقدمة للنجاحات التي أحرزها المسلمون فيما بعد".

وفي الحديث عن صلاح الدين ومعاملته للناس عندما فتح مدينة القدس واستعادها من أيدي الصليبيين فتتقارب الآراء كثيراً، ويبدو أن معاملة صلاح الدين التي شهدها الأعداء قبل الأصدقاء لم يكن بمقدور أحد أن يخفيها.

فرينيه كروسيه يقول: "ولقد سمح صلاح الدين بأريحية كريمة تنم عن روح الفروسية العالية لسكان القدس من المسيحيين بمغادرة المدينة المقدسة، والجلاء عنها بحرية وسلام، كما أنه رفض رفضاً قاطعاً تهديم كنيسة القبر المقدس".

أما زابورف فيقول: "برهن صلاح الدين أنه رجل دولة حكيم، فعامل القدس وسكانها معاملة أرق وأخف بكثير مما عاملهم الغزاة الصليبيون حين انتزعوا المدينة من حكم مصر قبل ذلك بنحو مئة عام، فلم تقع قساوات لا معنى لها، ولم تحدث تدميرات".

في هذا الإطار يمكن لنا أن نتعرف على منهجين استشراقيين تناولا الحروب الصليبية، ولكلٍ, منهما وجهة نظر مختلفة، وهذا الاختلاف يتجلى في الموقف من هذه الحروب، ومن أهدافها، وعليه فإن اختلافاً يقع في التسميات والمصطلحات، وكذلك في وصف الأمور من خلال الهوى النفسي أحياناً، ومن خلال الخلفية الفكرية والتاريخية لكل منهج. 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

تصحيح

-

خالد

20:45:07 2016-05-19

ابن جرير توفي قبل الحروب الصليبية فكيف يستند الى اسامه بن منقذ والعماد أصلا ؟