هولندا تبدأ الاستشراق الجديد


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 أعلنت جامعة روتردام الإسلامية بهولندا مؤخراً وضع حجر الأساس والبدء في تأسيس أول كلية للدراسات الشرقية بها، وأسند مجلس الجامعة عمادة الكلية للدكتور "محمد حرب" مستشارها لشئون الشرق الأوسط، والعالم التركي، وأستاذ كرسيّ التاريخ الإسلامي، والذي كان أول من أطلق الفكرة ضمن أطروحته لتأسيس استشراق جديد.

التقينا الدكتور حرب، وناقشناه في فكرة الكلية، وتطورات تأسيسها، وأطروحة الاستشراق الجديد.

 

كيف ظهرت فكرة إنشاء كلية للدراسات الشرقية في أوروبا؟

** الفكرة حديثة جداً، أثارتها محاضرة ألقيتها في أوائل شهر يونيو الماضي (1999م) في فيينا بدعوة من الأكاديمية الإسلامية هناكº وكانت بعنوان (نحو استشراق جديد)، وحضرها عدد كبير من الجيل الثالث للمسلمين في أوروبا، تحدثت فيها عن عيوب الاستشراق القديم، وآثاره السيئة على الإسلام، وتأثيره السلبي على الرأي العام العالمي تجاه الإسلام، والقضايا الإسلامية، ودعوت إلى تأسيس استشراق جديد يتجاوز عيوب وسلبيات القديم، ويكون دعامته من الباحثين المسلمين الغربيين والجيل الثالث من المسلمين في أوروبا، أحدثت المحاضرة تأثيراً كبيراً في الحاضرين، ولاقت استحسانهم، واقترح البعض تأسيس كلية في أوروبا لهذا الغرض، فتلقف المسئولون في جامعة روتردام الإسلامية بهولندا الفكرة، وأعلنوا عن قبول الجامعة إنشاء مثل هذه الكلية، وأسندت إليَّ عمادتها، ووضع مقرراتها الدراسية، وإنشاء هيكلها الإداري، وبالفعل تم ذلك في أوقات وجيزة، وكانت البداية باسم الدراسات العثمانية على أن تستكمل بقية الأقسام في وقت لاحق.

 

وما الفكرة الرئيسية لأطروحة الاستشراق الجديد التي تتبناها وتقوم عليها كلية الدراسات الشرقية؟

الفكرة تقوم على نقد الاستشراق القديم، والدعوة إلى تأسيس استشراق جديد يتناسب مع المرحلة الجديدة التي يعيشها، ويتجاوز سلبيات وتجاوزات الاستشراق القديم التي ترجع لأسباب وظروف كثيرة، فالاستشراق منذ ظهوره قبل خمسة قرون تقريباً نشأ في ظروف ولأهداف غير موضوعيةº فقد ظهر مع اشتداد الصراع بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي، ووصوله إلى ذروته مع طرد المسلمين من الأندلس، وسقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين، ووصولهم إلى أبواب فيينا، وانتشار حالة الفزع من الإسلام التي ساهم فيها باباوات الكنيسة الغربية.

فقد بدأت الدراسات الاستشراقية في الظهور والتزايد، وكان هدفها استكشاف ذلك الخطر الذي يسمى بالإسلام، واختراقه داخلياً في محاولة للتغلب عليه، خاصة بعد إدراك الأوروبيين لاستحالة القضاء عليه عسكرياً وبالمواجهة المباشرة، فنشأ الاستشراق في المدارس الكنَسيّة، فتحمل بكل سلبيات نظرتها غير الموضوعية للإسلام، ثم في مرحلة لاحقة تحمل بسلبيات ومساوئ أخرى لا تقل خطورة بعد ارتباطه المباشر بالاستعمار، وتحولت الدراسات الاستشراقية لخدمة الاستعمار، ولعب المستشرقون دوراً مؤثراً في السيطرة على الشعوب الإسلامية والشرقية أيضاً، وإحكام قبضة الاستعمار الغربي عليها، وهو دور يخالف كل أخلاقيات العلم والمعرفة، وكانت المحصلة النهائية أن الاستشراق مارس تأثيراً سلبياً على الإسلام والمسلمين، وظهر ذلك واضحاً في سيل الدراسات والكتابات الاستشراقيةº فمعظمها يرسم صورة بالغة السوء عن الإسلام والمسلمين، بجهالة أو سوء نية، لكنها ساهمت في إفساد الرأي العام الأوروبي والغربي في كل ما يتعلق بالإسلام، بل وأفسدت أيضاً تصورات كثير من المسلمين أنفسهم عن الإسلام خاصة المثقفين والأكاديميين، فأي باحث مسلم يعتمد بصفة أساسية على الكتابات الاستشراقية في كل ما يتصل بالدراسات والكتابات المتعلقة بالإسلام أو التاريخ الإسلامي باعتبارها رائدة في هذا المجال، ومن ثم يتحمّل بكثير أو قليل مما تحمله من أكاذيب أو مغالطات، وعلى سبيل المثال لا أعتقد أن باحثاً لا يستعين بدائرة المعارف الإسلامية التي أعدها مستشرقون أوروبيون التي صدرت بثلاث لغات أوروبية (ألمانية/ إنجليزية/ فرنسية)، وترجمت إلى كل اللغات الإسلامية، وتتضمن تشويهاً للعقيدة والتاريخ والفكر الإسلاميº إذ خضع فيها الإسلام للدارسة وفق مناهج ورؤى غربية متباينة (مسيحية، يهودية، علمانية، استعمارية)، كلها بعيدة عن الإسلام الصحيح، وتحمل جناية بالغة عليه، لذلك كان لا بد من الاتجاه إلى تصحيح مسار الاستشراق، والدعوة إلى استشراق جديد.

 

ولكن ألا يتجاهل ذلك الآثار الإيجابية للاستشراق، والدور البارز لعدد من المستشرقين المنصفين؟

لا بالطبع، أنا أدرك وجود آثار إيجابية لكنها قليلة إذا ما قورنت بالسلبي منها، كما لم تخل أبداً من الغرض، ربما باستثناءات قليلة جداً، كلنا يذكر جيرمانوس وزيجريد هونكة وأناماري شميل وليوبولد فايس وغيرهم، ويذكر لهم إنصافهم وموضوعيتهم، ولكن هذه استثناءات نادرة، أما القاعدة فهي غير ذلك، ومعظم المستشرقين كانوا أصحاب غرض ومتحاملين فطرياً وعقائدياً ضد الإسلام والمسلمين، أو ارتبطوا بأهداف استعمارية بحتة، وللأسف هؤلاء كانوا الأكثر إنتاجاً وتأثيراً في الوقت نفسه، حتى إن معظم الأكاديميين والمثقفين العرب والشرقيين تتلمذوا عليهم، وتأثروا بأفكارهم ومناهجهم، التي ما زالت مسيطرة على الدراسات الإنسانية والاجتماعية في بلادنا، خاصة وأنهم نجحوا في فرضها على جامعاتنا ومناهجنا العلمية الحديثة منذ إنشائها، لذلك فما زال كاردايفو وكازانوفا وسانتيلانا وجولدتسيهر وكارلونالينير وبروكلمان وأربري... وغيرهم من كبار المستشرقين المعروفين بتعصبهم وأهدافهم الاستعمارية هم المعروفين والمؤثرين في حقل الدراسات الإنسانية في عالمنا العربي والإسلامي.

 

وكيف سيتجاوز الاستشراق الجديد هذه العيوب والسلبيات؟

الفكرة تقوم على إعداد وتأسيس جيل من الباحثين والأكاديميين الذين تتوافر فيهم الشروط الموضوعية للقيام بالدور الاستشراقيº وأهم هذه الشروط:

البعد عن الغرض، وعدم التحامل أو التعصب، مع توافر الإمكانات اللازمة للعمل في الحقل الاستشراقي.

وأعتقد أن المسلمين الغربيين، وخاصة أبناء الجيل الثالث من المسلمين هناك أفضل من يمكنه القيام بهذا الدور، وتتحقق فيه الشروط اللازمة لهº فهم بعيدون عن التعصب ضد الإسلام أو التحامل عليه، وأقدر على فهمه وإدراك معانيه من الغربيين غير المسلمين، كما أنهم أكثر قدرة أيضاً على تكوين ثقافة إسلامية، وإجادة لغات العالم الإسلامي، بالإضافة إلى قدرتهم على الاستفادة من الإمكانات والمناهج العلمية والغربية، وتمكنهم من اللغات والأدوات الغربية اللازمة للعمل في هذا الحقل نظراً للخبرة الغربية فيه، ومهمة الكلية إعداد هذا الجيل في قلب أوروبا لتحقيق المعادلة الصعبة، والقيام بهذه المهمة، وتصحيح مسار حركة الاستشراق من أجل خدمة الإنسانية التي ستستفيد كثيراً من تصحيح الرؤية السائدة عن الإسلام، وإعادة تصوره على حقيقته.

 

وما حجم الاستجابات لهذه الفكرة؟

كبيرة بالنظر إلى حداثتهاº إذ لم يمر عليها سوى ثلاثة أشهر، فالاستجابة الكبيرة ليست فقط في الترحيب البالغ الذي لاقته من ضيوف المحاضرة - وكلهم من البارزين في الحقل الإسلامي والأكاديمي في أوروبا -، وكذلك الاهتمام الواسع الذي أبدته الصحف الأوربية، بل وفي السرعة التي تبنت بها جامعة روتردام الفكرةº حيث بدأت فعليّاً إجراءات تأسيس الكلية، وأسندت إلىَّ عمادتها والإشراف على وضع هيكلها الإداري والتعليمي، وتحدد لها عام 2001 كبداية للدراسة بها، على أن تبدأ الدراسة بقسم الدراسات العثمانية، ثم تستكمل بقية الأقسام (العربية، الفارسية، المالوية، والأوروبية)، ومدة الدراسة أربع سنوات، وقد بدأت بعض الجامعات استعدادها للاعتراف بالشهادة التي تمنحها الكليةº وكانت جامعة طشقند الدولية أولى هذه الجامعات، حيث وقعنا مع السيد نعمة الله إبراهيموف رئيس الجامعة بروتوكولاً بذلك، وفي انتظار ردود عدد آخر من الجامعات.

 

ولكن لماذا كانت البداية بقسم الدراسات العثمانية غير كونها تمثل تخصصك الأكاديمي؟

لأن الدولة العثمانية ليست فقط أطول الدول الإسلامية عمراً، وأكثرها اتساعاًº ولكن لأنها كانت نقطة الالتماس المشتعلة للإسلام مع الغرب منذ نشأتها وحتى سقوطها، فمنذ دخول العثمانيين مدينة القسطنطينية وحتى انهيار دولتهم بعد الحرب العالمية الأولى كان هناك صراع مع الغرب امتد إلى داخل أوروبا نفسها، وحمل معه بذوراً للصراعات المستمرة إلى الآن كما هو الحال في البلقان، وكثير من الأوروبيين لا يعرفون الإسلام إلا مقترناً بالعثمانية، لذلك فتشويه الإسلام والتحامل عليه في الأدبيات الأوروبية والغربية عموماً مرّ ببوابة الدولة العثمانية التي صارت أكثر دول الإسلام - ربما في التاريخ كله - التي تمثل نموذجاً لجناية الاستشراق، وتجسيداً لعيوبه وسلبياته، حتى إننا لا نجد مستشرقاً واحداً منصفاً لها طوال تاريخها، لذلك كان لا بد أن تبدأ عملية تصحيح المسار الاستشراقي من الدولة العثمانيةº خصوصاً أننا نعيش في هذا العام ذكرى مرور سبعمائة عام على تأسيسها (1299م- 1999م)، وأعتقد أنها مناسبة لتأسيس هذا القسم والبداية به، بالإضافة إلى أننا كنا نمتلك تصوراً واضحاً عنه، ولدينا إمكانيات البدء فيه فعلياً بعكس بقية الأقسام التي ما زلنا بصدد البحث في تشكيل هياكلها ومقرراتها الدراسية، بل واختيار أعضاء هيئة التدريس بها.

 

هل كان ذلك سبباً في تأجيل بدء الدراسة بالكلية إلى عام 2001 بدلاً من عام 2000 الذي سبق الإعلان عنه؟!

أبداً السبب الرئيسي هو أننا فضلنا انتظار تخرج أول دفعة من جامعة روتردام الإسلامية لتكون النواة الرئيسية لكلية الدراسات الشرقية، لأنهم أفضل من تتوافر فيهم الشروط المطلوبة لها.

 

ولكن هل بدأ فعلياً الإعداد للأقسام الأخرى؟

نعم بدأنا الاتصال بعدد من الأكاديميين في أنحاء متفرقة من العالم الإسلامي، خاصة مصر وتركيا وبعض دول آسيا الوسطى وشرق آسيا، ووصلتنا ترشيحات لعدد كبير منهم، ولكننا ما زلنا في مرحلة الدراسة والتقديم تمهيداً لاختيار أكفأ المرشحين، وهذا ربما يستغرق بعض الوقت، خاصة وأننا نحتاج لمتخصصين غير تقليديين، ولديهم القدرة على استيعاب الفكرة وتطويرها والإفادة فيها، ولكننا نتوقع أن ننجز ذلك في موعده - بإذن الله -. 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply