الاستشراق البوسنوي: دراسة الذات البوسنية


بسم الله الرحمن الرحيم

 

 تحتفل سراييفو والبوسنة هذا العام بالذكرى الخمسين لتأسيس معهد الاستشراق (1950-2000) الذي كان تعبيراً عن مرحلة متميزة في الكشف عن التاريخ الثقافي للبوسنة.

وكانت البوسنة قد دخلت في مُنعطَفٍ, جديد في نهاية القرون الوسطى بعد الفتح العثماني لها في 1463مº حيث انتشر فيها الإسلام بسرعة ليصبح دين الغالبيةº ولتبرز فيها عدة مراكز للثقافة الإسلامية (سراييفو، بانيا لوكا، موستار الخ)، ومع هذا المنعطف دخلت وانتشرت في البوسنة لغات جديدة (العربية والتركية والفارسية)، وأخذ يبرز في البوسنة بعد أقل من قرن من الحُكم العثماني الجيل الأول من العلماء البشانقة الذين أخذوا يكتبون بهذه اللغات في مختلف المجالات (اللغة والأدب، التاريخ، الفلسفة والمنطق، علوم القرآن، علوم الحديث، الفقه وأصول الفقه الخ)، كما أخذ الجيل الثاني والثالث يكتب في اللغة البشناقية بحروف عربية.

ومع الاحتلال النمساوي للبوسنة (1878 - 1908) ثم مع ضمها إلى الإمبراطورية النمساوية المجرية (1908 - 1918) شهدت البوسنة بداية الاهتمام بهذا التراث البشناقي من خلال بعض المستشرقين الأوروبيين، ثم مع الجيل الأول من الباحثين البشانقة الذي يأتي على رأسهم د0 صفوت بك باش اغيتش (1870 - 1932)، ومع ضم البوسنة إلى يوغسلافيا في (1918) حيث أصبح المسلمون أقليةً في الدولة الجديدة، وفُتِحَ أول قسم للاستشراق في بلغراد (1924) كان يُفترَض أن يساهم هذا القسم في التعرف على التراث المسلم خاصة وأن أول رئيس للقسم د0 فهيم بايراكتاروفيتش كان من العارفين بهذا التراث، ولكن د0 مايراكتازوفيتش على علمه الغزير كان يمثل النزعة الأوروبية المركزية (الاستشراقية) التي تنظر للاستشراق باعتباره دراسة للآخَر.

ولكن مع قيام يوغسلافيا الجديدة في (1945) التي أصبحت فيها البوسنة واحدة من الجمهوريات الست المكونة للاتحاد الفدرالي تعبيراً عن خصوصيتها، تأسس لاحقاً في (1950) معهد الاستشراق في سراييفو الذي أخذ على عاتقه مهتمين متداخلتين:

أ. جمع تراث البوسنة المكتوب باللغات الشرقية (العربية والتركية والفارسية)، وحفظه حسب الأصول، وتصنيفه.

ب. دراسة ونشر هذا التراث باللغة البشناقية الحديثة (التي أصبحت تُكتَب بالحروف اللاتينية).

وقد أخذت أولى الدراسات عن هذا التراث - الذي لم يَعُد دراسةً للآخَر بل للذات البوسنوية - تُنشَر في المجلة الجديدة التي أخذ يصدرها المعهد (إسهامات في الفيلولوجيا الشرقية)، والتي حظيت مع الزمن بسمعه علمية جيدة نظراً لأصالة الدراسات المنشورة فيها، وبالإضافة إلى هذا فقد أخذ المعهد ينشر الكتب المتعلقة بهذا التراث، وينظم الحلقات النقاشية والندوات حول هذا التراث، وجاءت مناسبة مرور (25) سنةً على تأسيس المعهد فرصةً للاحتفاء بما أنجزه حتى ذلك الحين، فقد تمكن المعهد حتى ذلك الحين من جمع وحفظ آلاف المخطوطات باللغات الشرقيةº التي أصبحت تُعَدٌّ أنفس مجموعة من نوعها في يوغسلافيا، ونشر عشرات الدراسات حول هذا التراث، وقد قام المعهد بهذه المناسبة بتنظيم ندوة "الثقافة العربية الإسلامية" التي نشرت أوراقها في العدد (24) الخاص من مجلة المعهد، وقد خصص العدد اللاحق (25) لنشر أول فهرس عن الإصدارات / الدراسات التي نشرها المعهد حتى ذلك الحين، وفي العدد ذاته نُشِرت أول دراسة عن مجموعة المخطوطات الشرقية في المعهد، التي بلغت حتى ذلك الحين(4850) مخطوطةً، ودراسة أخرى عن أرشيف المعهد وما فيه من وثائق أصلية ومُصوَّرَة من مراكز الوثائق في البلقان.

ولكن كل هذا الإنجاز الكبير للمعهد وما أُضيف إليه خلال الثمانينيات تعرض إلى نكبة خلال الحرب في البوسنةº حيث تعرض المعهد إلى قصف صربي مُتعمَّد طيلة 17- 18 آيار/مايو (1992) مما أدى إلى إحراق مكتبة المعهد الغنية بالمخطوطات الشرقية.

وعلى الرغم من هذا لم يتوقف العمل في المعهد حتى خلال الحرب، وإن انطلق من جديد بحيوية أكبر بعد توقف الحرب في (1995)، وهكذا فقد أصدر المعهد في(1995) الكتاب المهم " الأدب النثري للبوسنة والهرسك باللغات الشرقية " من تأليف د0سليمان غروزدانيتش ود0 أمير لوبوفيتش"، والكتاب الآخر المتفرع من هذا التراث " مؤلفات البشانقة في المنطق في اللغة العربية " لـ د. لوبوفيتش.

أما خلال 1997 فقد أصدر كتابين مهمينº الأول عن تاريخ سراييفو بمناسبة الذكرى الـ (500) لنشوئها، والثاني "فهرس المخطوطات الشرقية للمعهد" من إعداد الباحثين صالح تراكو، وليلى غازيتش.

لا بد أن نشير أخيراً إلى كتاب د0 أسعد دوراكوفيتش " البلاغة العربية في البوسنة، كتاب أحمد بن حسن بشناق حول الاستعارة "، الذي يُعَدٌّ عينةً من هذا التراث الذي تعتز به البوسنة.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply