المؤامرة على المرأة في مصر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لا نقصد بالعنوان تبني فكرة "المؤامرة" بمعناها الشائعº حيث إن هناك يداً خفية توجه الأحداث من وراء ستار لتحقيق أهداف ومقاصد خاصة ضد الذين تقصدهم المؤامرة، لكننا نقصد بالمؤامرة هنا مجموعة من الإجراءات والعمليات التي تجري في وضح النهار، يستند القائمون على هذه الإجراءات والعمليات إلى مراكزهم في السلطة والتي تعطيهم الصلاحية في مباشرتـها. والمؤامرة تأتي من أن القائمين على تدبير هذه العمليات لا يعبِّرون عن تاريخ الأمة أو مصلحتها أو احترام خصوصيتها ودينها، إن المؤامرة تأتي من فكرة الاغتصاب، سواء على مستوى تولي مواقع السلطة أو الانخراط في مجموعة من الإجراءات التي لا تعبر عن دين الأمة أو نظامها الاجتماعي، وإنما هي تعبير صريح عن رغبة كاذبة في الالتحاق بالمنظومة الفكرية والثقافية للغرب من ناحية، وتعبير - أيضاً - عن إرادة ضعيفة بل ومسلوبة تجاه الاكتساح الغربي - المنظم - للنظام الاجتماعي الإسلامي عبر ما نطلق عليه "عولمة القيم الثقافية والاجتماعية للغرب".

ويستند الغرب في ذلك إلى مجموعة من المعاهدات ذات الطابع الدولي والتي تفرض التزاماً دولياً على من يوقع عليها.. تختفي هذه المعاهدات في الواقع وراء ما يطلق عليه الغرب "حقوق الإنسان".. وتأتي حقوق المرأة في مقدمة هذه الحقوق بحيث تكون مدخلاً لإعادة بناء النظام الاجتماعي الإسلامي بما يحوله في النهاية إلى صورة مشوِّهة للنظم الاجتماعية الغربية.

الانتقال من السياسة إلى المرأة:

في الفترة الاستعمارية كانت حركات التحرر في العالم الإسلامي ومصر تتبنى هدفاً وحيداً وهو الاستقلال والتحرر من الاستعمار، بينما كان يروِّج للأفكار والنظم الغربية مجموعة من المثقفين والمفكرين اللادينيين (العلمانيين) الذين رأوا أن نـهضة العالم الإسلامي تتحقق عبر تبني قيم العالم الغربي.. أي أن إجابتهم عن السؤال "كيف تتحقق النهضة؟ " كانت تتمثل في اتباع ما سار عليه الغرب حذو القذة بالقذة شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب دخلناه وراءهم.

الفكرة الأساسية هنا هي أن الحكومات - في الفترة الاستعمارية - كانت تتبنى المطالب السياسية، بينما كان المثقفون من خارج السلطة - وغالبهم تعلم في الغرب وتشرب قيمه - كانوا يدعون إلى نمط الحياة الغربية أي أن الثقافة كانت تعمل في فضاء مختلف عن السياسة، ومع انتهاء الفترة الاستعمارية ومجيء ما نطلق عليه "دول ما بعد الاستعمار"، فإن النظم السياسية الجديدة بدأت في تبني بعض البرامج الاجتماعية والثقافية والسياسية، وبينما كانت السياسة - فيما يبدو - تناطح الغرب، فإن القيم الثقافية والاجتماعية لهذه النظم كانت غربية، لذا دفعت هذه النظم المرأة المسلمة للخروج إلى العمل على نمط المرأة الغربية.

ففي الفترة الناصرية - مثلاً - لم يكن أجر الغالبية العظمى من الرجال يمكنهم من الاستقلال وحدهم بالإنفاق على بيوتـهم، ومن ثم كانت الفكرة الرائجة وقتها ضرورة خروج المرأة للعملº لكي تساند في تحمل عبء الإنفاق على الأسرة، وأدى الاستقلال الاقتصادي للمرأة إلى تمردها وفرديتها ومن هنا تراجعت فكرة قوامة الرجل في بيته، كما بدأت ظواهر مجتمعية جديدة تتسلل إلى المجتمع المصري، ومنها: تزايد نسب الطلاق، ارتفاع نسبة جنوح الأطفال، إقامة علاقات خارج نطاق الزواج الشرعي، نبذ الحجاب وتحطيم الحواجز في العلاقة بين الرجل والمرأة بسبب الاختلاط. لقد كان النظام الناصري نظاماً لا دينياً (علمانياً) يتبنى قيم الغرب المجتمعية والثقافية.. باسم الحداثة التي لم تكن تعني في الواقع - لدى النخبة الحاكمة - سوى التغريب.

في هذه المرحلة كان الغرب قد استطاع أن يكوّن زمراً ثقافيةً تتبنى قيمه بحيث أصبحت هذه الزمر وكيل الغرب الثقافي في مصر والعالم العربي والإسلامي.. لم يكن النظام الناصري ليجرؤ على أن يقدم نموذج المرأة المسلمة في مواجهة الغرب الذي زرع في عقول النخبة السياسية والثقافية أن الحضارة والحداثة لها منطقها الذي لا يقاوم وأن المعيار لها هو المعيار الذي وضعه الغرب.. وهذا المعيار هو تقديم المرأة على نمط المرأة الغربية بلا حجاب ولا حياء.. بل إن المبالغة في الالتحاق بالحداثة جعل المرأة في العالم الإسلامي وفي مصر تسرع بخطوات أكثر من المرأة الغربية فبدت الحداثة لديها شكلية متمثلة في المكياج ومقص الخياط والكوافير.. هنا النظم السياسية انتقلت تدريجياً في فترة ما بعد الاستعمار لتتبنى البرامج الاجتماعية التي تعكس القيم الغربية بحيث لم يعد الاستقلال - الذي تحقق - هدفاً، وإنما أصبح الهدف هو تمثل قيم التغريب والحداثة في الجانب الاجتماعي والثقافي كجزء مما يصوره الساسة والنخبة أنه معاصرة.. وإذا كنا نقاوم الغرب سياسياً، فلسنا أقل حق في الاجتماع والسياسة.. وليس نساؤه بأفضل من نسائنا.. ومن هنا كان دفع المرأة دفعاً حتى لو لم تكن راغبةº لتكون شهادة للنظام لدى العالم على العصرنة والحداثة.

وكما هو معلوم، فإن القيم تأخذ وقتاً طويلاً في تغييرها بأكثر مما تأخذ الأشياء الحادثة.. لكنه في العالم الإسلامي وفي مصر، على وجه الخصوص، فإن القيم الاجتماعية المتصلة بترتيب أوضاع المرأة في المجتمع قد تغيرت على نحو صارخ ومذهل، بحيث لم تأت ستينات القرن إلا وقد تحققت آمال قاسم أمين.. بل إن قاسم نفسه لو رأى ما انتهى إليه حال المرأة في مصر لفزع.. لقد أصبحت المرأة في شوارع القاهرة لا تختلف عن مثيلتها في شوارع باريس ولندن وبرلين وواشنطن.. ولم يكن الأمر فقط أمر ترويج للأفكار الثقافية، وإنما كان أمر تبني النظم السياسية لهذه الأفكار ووضعها موضع التحقيق والتنفيذ. عمل النظام الناصري في هذه الفترة على إلغاء المحاكم الشرعية والتي كانت تقوم بالفصل في المسائل المتصلة بالزواج والطلاق والإرث والنفقة والمتعة وغيرها، وكان القصد من وراء ذلك إثبات علمانية النظام الذي يسعى إلى جعل المرجعية للقانون الوضعي والنظر إلى المواطنين جميعاً باعتبارهم مواطنين متساوين في دولة يحكم علاقتهم بـها نظام قانوني موحد.

لقد كانت المحاكم الشرعية مؤسسة تشير إلى وجود بقايا نظام قانوني واجتماعي إسلامي يستند إلى الشريعة وينظر في الفصل فيه قضاة متخصصون في الفقه والأحكام الشرعية، وأحسب أن المحاكم الشرعية كانت المؤسسة الأخيرة ضمن النظام السياسي الناصري والتي كانت تشير إلى المرجعية الإسلامية. وظلت لائحة ترتيب المحاكم الشرعية ضمن قوانين لا دينية أخرى تمثل القانون الذي يرجع إليه القاضي في المحاكم للفصل في قضايا الأحوال الشخصية. وفي عهد السادات حدثت ضجة ضخمة حول قانون تبنته "جيهان السادات" وقتها للأحوال الشخصية كان أشبه بالقوانين اللادينية التي أقرها بورقيبة في تونس، ووقف الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر - بقوة - ضد هذا القانون اللاديني الذي أباح الزنى ومنع الزواج الشرعي بأخرى.. ووقتها وضع الشيخ "عبد الحليم محمود" قانوناً بديلاً للأحوال الشخصية يستمد كل مواده من الشريعة الإسلاميةº لأن الرجل رأى أن هناك نية من النظام السياسي للتلاعب بالنظم الاجتماعية ليس على مستوى القيم والثقافة، وإنما على مستوى القوانين.. وتم إجهاض مشروع قانون الأحوال الشخصية الذي تبنته "جيهان" إبان الفترة الساداتية.

وفي الواقع كان مشروع "جيهان" استجابةً لرغبة النخبة السياسية المتغربة وأفكارها، كما كان استجابةً للمعاهدات الدولية التي تم توقيعها في إطار الأمم المتحدة والتي استهدفت تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة فيما يتصل بمنع الرجل من الزواج بأخرى باعتباره تمييزاً ضد المرأة.. وإعطاء المرأة الحق في السفر بدون إذن الزوج باعتباره تقييداً لحرية المرأة. والنظم السياسية انتقلت من المطالبة بالاستقلال السياسي إلى التلاعب بالنظم الاجتماعية عبر تسميات غامضة، مثل التنمية، وتم إخراج المرأة إلى الشارع وإلى العمل وتم نزع حجابـها وتم امتهانـها بشكل قاس في وسائل المواصلات والمؤسسات العامة وأصبح معيار "المواطنة" بالنسبة للمرأة هو أن تكون "عاملة" لا "ربة بيت"º لأن المرأة العاملة تقبض أجراً في مقابل عملها، بينما ربة البيت لا تتلقى مقابلاً.. بل وفق هذا المنظور المادي الإجرامي، فإن المرأة المواطنة هي التي تقبض أجراً مقابل عملها حتى لو كانت داعرة.. بينما المرأة التي تبقى في منـزلها لا تعد مواطنةº لأنـها لا تأخذ مقابلاً.

مبارك والإجراءات الجديدة:

شهدت فترة حكم مبارك سقوط الاتحاد السوفيتي والانتصار النهائي للغرب عليه، وبدأ مفكرو الغرب يتحدثون عن "نـهاية التاريخ" بمعنى توقف الجدل الإنسانيº لأن للتاريخ والتقدم طريقاً واحداً هي طريق التحررية (الليبرالية) الغربية، وعلى العالم كله أن يتبع طريق الغرب فليس هناك طرق بديلة.. وفي الواقع، فإن مقولة "نـهاية التاريخ" التي أطلقها الأمريكي "فوكوياما" هي تعبير عن قمة الغزو الفكري الذي أصبح يُعبر عنه الآن بالعولمة. ورغم أن العولمة تركز على الأبعاد الاقتصادية، إلا أن جوانبها الفكرية والاجتماعية والثقافية لا تقل خطراً وأهمية.. وطرح "هنتجتون" مقولة "صراع الحضارات"، كما طرح مفكرون كثيرون - في الغرب - أطروحة "العدو البديل" والخطر الإسلامي" والخطر الأخضر وقوس الأزمات.. المهم أن انفراد الغرب بقيادة النظام الكوني جعله ينتقل من الصراع السياسي وصراع المصالح مع العالم الإسلامي إلى "صراع الأفكار والنظم والقيم".

وجاء في مقدمة "مناطق الصراع" إعادة الهندسة الاجتماعية للعلاقة بين الرجل والمرأة. وإعادة تعريف الأسرة "والحقوق والواجبات داخلها"، أي التدخل في الشئون الداخلية للمجتمعات وفرض نمط اجتماعي من العلاقات والقيم عليها بالقوة. ويمثل مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية - الذي عقد في سبتمبر 1994، ثم مؤتمر المرأة في بكين الذي عقد عام 1995 بعنوان "المساواة والتنمية والسلم" - يمثل آلية دولية ملزمة للدول الموقعة على وثائق المؤتمرين بضمان فرض النمط الاجتماعي الغربي على مصر والعالم الإسلامي. وكنوع من التزام القاهرة بمقررات بكين والقاهرة قامت بتغيير قانون الأحوال الشخصية في مصر، حيث أعطت المرأة المصرية حق الخلع من زوجها بدون رضائه وموافقته، كما كان مقرراً إعطاء المرأة حق السفر بدون إذن زوجها، لكنه تم إحباط هذه المادة.

وكان تغير قانون الأحوال الشخصية جزءاً من الاستجابة لجدول عمل (أجندة) دولي يفرض على الأنظمة عدم التمييز ضد المرأة ومساواتـها بالرجل ومنحها الحرية الشخصية في العلاقة مع الأصدقاء ومنحها الحق الإنساني في التصرف بجسدها باعتباره حقاً ذاتياً لها، كما شهدت القاهرة قبل انصرام القرن الماضي مؤتمراً بعنوان "مائة عام على تحرير المرأة". هذا المؤتمر أعده المجلس الأعلى للثقافة (وهو أعلى هيئة ثقافية في وزارة الثقافة) وفيه تجمع شذاذ الآفاق ممن يطلقون على أنفسهم "دعاة الاتجاه النسوي"، وطالبن بحرية المرأة المطلقة في السيطرة على جسدها، كما طالبن بالتمرد على الرجل حتى فيما يتصل بالعلاقة الجنسية به وبناء علاقة جنسية إما مع الذات أو مع المثيل.. ودعاة هذا الاتجاه يطلقن على أنفسهن المبدعات.

لقد كن أكثر تطرفاً في مطالبتهن التسوية مع الاتجاه النسوي في الغرب. ويتم هذا داخل مؤسسة في الدولة.. كان هذا المؤتمر - المجرم - قبل معركة قانون الأحوال الشخصية. ومع مطلع القرن الجديد فُوجئ الناس في مصر بصدور القرار الجمهوري بإنشاء مجلس قومي للمرأة يتبع رئيس الجمهورية وتكون له الشخصية الاعتبارية ويكون مقره القاهرة، ويتكون المجلس من ثلاثين عضواً من الشخصيات العامة وذوي الخبرة في شئون المرأة والنشاط الاجتماعي، ومدة عضويته ثلاث سنوات قابلة للتجديد، وللمجلس اختصاصات عديدة، أخطرها وأهمها: اقتراح السياسة العامة للمجتمع ومؤسساته الدستورية في مجال تنمية شئون المرأة وتمكينها من أداء دورها الاقتصادي والاجتماعي وإدماج جهودها في برامج التنمية الشاملة، ثم إبداء الرأي في مشروعات القوانين والقرارات المتعلقة بالمرأة قبل عرضها على السلطة المختصة والتوصية باقتراح مشروعات القوانين والقرارات، التي تلزم النهوض بأوضاع المرأة، ثم إبداء الرأي في جميع الاتفاقيات المتعلقة بالمرأة وتمثيل المرأة في المحافل والمنظمات الدولية المعنية بشئون المرأة، وللمجلس لجان دائمة لممارسة اختصاصاته، منها: لجنة الصحة والإسكان ولجنة المنظمات غير الحكومية واللجنة التشريعية.

وفي أول جلسة للمجلس القومي للمرأة تم اختيار "سوزان مبارك" رئيساً للمجلس، بينما تم اختيار مرفت التلاوي أميناً عاماً للمجلس، وحضر "مبارك" جانباً كبيراً من الجلسة الأولى لهذا المجلس، وقالت سوزان مبارك: "إننا سنكون على قدر المسئوليةº حتى يكون هذا المجلس نقطة تحول حقيقي في تاريخ المرأة المصرية وتطور المجتمع". ويتساءل المرء: إلى أين يريد هؤلاء النسويون الاتجاه بالمرأة؟ ألا يكفيهم ما أحدثوه من تدمير في حياتـها حتى الآن ويطمعون في إجراء المزيد.. وفي الواقع، فقد كان إنشاء المجلس القومي للمرأة جزءاً من الاستعداد المصري على المستوى الرسمي لقبول ما يفرضه جدول العمل الدولي الجديد فيما يتصل بترتيب أوضاع المرأة في المجتمع المصري، والذي يؤكد ذلك هو عقد المجلس القومي للمرأة قبل أعمال الدورة الاستثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة بعنوان "المرأة عام 2000" المساواة بين الجنسين والتنمية والسلم في القرن الحادي والعشرين، حيث تمت الموافقة على إصدار تقرير سنوي عن وضع المرأة في مصر على غرار تقرير الأمم المتحدة، حيث سيكون هذا التقرير بمثابة الصك الذي تقدمه مصر للأمم المتحدة والعالم الغربي لتأكيد الرضوخ للمقررات الدولية بشأن أوضاع المرأة، وهو يعني حقيقة أن الكارثة الكبرى بشأن أوضاع المرأة المصرية سوف تأتي في السنوات القادمة، حيث سيكون هذا المجلس هو غرفة العمليات التي تتلقى ما يطلب من مصر لتحويله إلى واقع قانوني واجتماعي.

 فقد تمت الموافقة على تشكيل مجالس إقليمية للمجلس في أربع عشرة محافظة، ورُصدت ميزانية للمجلس تبلغ خمسة عشر مليون جنيه. وترأست "سوزان مبارك" الوفد المصري في أعمال الدورة الاستثنائية التي عرفت باسم (بكين + 5) وحضرها وفود مائة وسبع وثمانين دولة وهي أكبر تجمع دولي لبحث أوضاع المرأة في العالم منذ المؤتمر الدولي الرابع للمرأة، الذي عقد في بكين عام 1995، وقدم الوفد المصري خلالها تقريراً وضعه المجلس القومي للمرأة من ثلاثة أجزاء حول تنفيذ خطة عمل مؤتمر بكين، وتتمثل في: جهود تحقيق المساواة بين الجنسين للنهوض بوضع المرأة المصرية، والتدابير التالية والمؤسسية من خلال تبني الحكومة لسياسات إدماج المرأة في التنمية، وأخيراً ما حققته مصر من تقدم في تنفيذ خطة عمل مؤتمر بكين بوجه عام، وتزامناً مع انطلاق أعمال الدورة الاستثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة حول قضايا المرأة أعد البنك الدولي مشروع تقرير حول سياسته المتعلقة بالمرأة، وأكد أن تحالف حركة المجتمع المدني في مصر والحكومة بإشراف رجال القضاء والشريعة الإسلامية نجح في إصدار قانون يمثل إنجازاً كبيراً للمرأة المصرية وهو قانون تيسير إجراءات التقاضي في مسائل الأحوال الشخصية.. أي أن البنك الدولي - كمؤسسة اقتصادية دولية - يراقب عن كثب تطور الأوضاع القانونية للمرأة في مصر ويمنح شهادة رضى عما تقوم به الدولة ونخبتها بما في ذلك النخبة الدينية.

فليس تغير قانون الأحوال الشخصية استجابة لمشاكل داخلية حقيقية للمرأة في مصر، وإنما هو بالأساس استجابة لإكراه عجيب من قبل المؤسسات الاقتصادية والسياسية والحقوقية الدولية، التي تروج لنظام الاجتماع الغربي وقيمه لفرضه كمرجعية كونية جديدة يجب على كل العالم أن يلتزم بـها ولا يحيد عنها.

وفي كلمتها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قالت "سوزان مبارك" إننا لسنا هنا لنستأنف المناقشات أو للتراجع عن الاتفاقيات والقرارات الجماعية التي صدرت في كل من بكين والقاهرة، وإنما نحن هنا لنمضي قدماً ونمهد الطريق لتمكين المرأة من ممارسة حقوقها.. ومضت تقول إن المشاركة هي أكثر القنوات فاعلية لتحقيق إجماع عريض بشأن الأولويات الاقتصادية والاجتماعية، غير أنه من الصعوبة بمكان صياغة مشاركة فاعلة وهو أمر حقيقي خاصة - خلال فترات التحول السريع. وانتهت إلى أنه يجب أن تتلاءم سرعة التغيير مع الحقائق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لكل دولة، "أي أن سوزان مبارك تؤكد الالتزام بمقررات القاهرة وبكين، بل وتسعى للمضي قدماً لتمكين المرأة من المساواة، بيد أنـها تنبه المشاركين في تحقيق التحول الاجتماعي والقيمي بشأن المرأة إلى ضرورة المواءمة بين التغيرات وحقائق الاقتصاد والاجتماع والسياسة في البلدان التي يتم السعي لتغييرها. وهنا يبدو لنا كشف لذلك الخطاب المراوغ والخفي الذي يتبناه دعاة التسوية الجديدة في العالم الإسلامي، حيث لا يعبرون عن حقائق مراميهمº لأنـها تتصادم بعنف مع واقع الناس، ومن ثم فإنـهم يستخدمون خطاباً مخالفاً ومخادعاً تمهيداً لحرث التربة لأفكارهم ومشاريعهم.

وقال مندوب مصر في الأمم المتحدة - أحمد أبوالغيط في الاجتماع الذي عقده "كوفي عنان" مع سوزان مبارك قال: إن مصر تسعى جدياً من أجل تنفيذ البرامج المتفق عليها وتطوير التشريعات المصرية، بينما أكدت "سوزان مبارك" أن مصر من أوائل الدول التي تلتزم بتعهداتـها فيما يتصل بالقضاء على جميع أشكال العنف والتمييز ضد المرأة. وفي مصر الآن يثور جدل حول اللائحة التنفيذية لقانون الأحوال الشخصية الذي تم إقراره بمصر مطلع هذا القرن، حيث بدأت مشاكل التنفيذ في الظهور.

كما أن هناك وثيقة زواج جديدة أصدرتـها وزارة العدل يلتزم فيها الزوج بعدم الاقتران بزوجة أخرى إلا بإذن كتابي من زوجته الأولى، وتفويض الزوج لزوجته بتطليق نفسها وعدم توثيق الزواج إذا كان سن الزوج دون 18 سنة والزوجة 16 سنة، وتحديد من يكون له حق الانتفاع بالمنقولات ومسكن الزوجية في حالة الطلاق أو وفاة الزوج وإدراج وثيقة تأمين باسم الزوجة وعدم الاعتداد بالطلاق إلا إذا كان مطابقاً لوثيقة الطلاق الجديدة.. فمن الواضح - الآن - أن مسألة المرأة هي من المسائل الملحة التي وضع الغرب يده عليها ويريد فرضها على النظم الاجتماعية في البلدان الأخرى خاصة في بلدان العالم الإسلامي.

وهكذا يمكننا القول إن صراع الغرب مع العالم الإسلامي انتقل إلى ما يمكن أن نطلق عليه المناطق الحساسة والخطرة المتصلة بالوجود والهوية وهي عصب حياة الناس ووجودهمº لذا، فإن إصرار الغرب على طرح جدول أعماله الداعي للمثلية الجنسية وحق الإجهاض وحق ممارسة الجنس المسمى بالآمن للمراهقات واعتبار الفروق الجنسية بين الذكر والأنثى هي فروق اجتماعية تتصل بالدور الذي يمارسه الإنسان وليس بطبيعة الخلق التي خلق الله الناس عليها ومن ثم يمكن للذكر أن يغير دوره ونظرته، كما يمكن للأنثى أن تفعل هي الأخرى، فالفروق ليست بيولوجية ولكنها اجتماعية، كما أن جدول أعمال (أجندة) الغرب المتصل بإعادة تعريف الأسرة وإعادة تعريف الحقوق والواجبات والمسئوليات فيها - والذي يريد أن يفرضها على العالم - تم وصفها في اجتماعات الدورة الاستثنائية الأخيرة للجمعية العامة بأنـها نوع من "الاستعمار الجنسي".

فالغرب الآن يسعى لفرض قيمه وهو يتبنى نظرية جديدة لا تعتبر أن الاقتصاد أو الفروق الاقتصادية هي المسببة للتفاوت الطبقي، كما كانت النظرية الشيوعية تفعل، ولكنه يعتقد أن إزالة الفروق بين الرجل والمرأة هي التي تحقق نوعاً من الأهمية الجديدة عابرة القارات وهي الوعاء أو الإطار الذي يوجد بين البشر. إنـها ماسونية جنسية جديدة يسعى الغرب من خلالها للسيطرة على العالم الإسلامي وتخريب نظمه الاجتماعية والثقافية.

النتائج المرعبة:

للغرب مصالحه الضخمة في العالم الإسلامي، وهو يسعى - منذ وقت مبكر - إلى إخضاع العالم الإسلامي، وقد أيقن أنه لا يمكنه كسر هذا العالم عبر مواجهة عسكرية، خاصة بعد انتهاء الحروب الصليبية، ومن ثم ابتدع وسائل أخرى هي التي نطلق عليها الغزو الفكري. المثير الآن أن الغزو الفكري قبل انـهيار الاتحاد السوفيتي لم يكن وسيلة يرفعها الغرب بشكل سافر وعلني، حيث كان يَعتبِر أن الصراع مع العالم الإسلامي صراع مصالح وسياسات، وليس صراعاً حول القيم والأفكار ونظم الاجتماع والثقافة.. لكنه يعتبر أن أسلوب مواجهته مع العالم الإسلامي يتم عبر صراع اجتماعي وقيمي وفكري ممتد، وأنه، لكي يحقق الغرب هيمنته الفكرية والثقافية، فإن لديه فرصة تاريخية باعتباره القوى المطلقة المتربعة على قمة النظام الكوني.. وهي الفرصة السانحة التي لا يجب أن يضيعها من خلال فرض قيمه ونظمه الاجتماعية باعتبار أن وجود نظم اجتماعية وثقافية وفكرية مختلفة في بلدان أخرى تعوق دون اكتساحه هذه البلدان.

إن العولمة لها أبعادها المختلفة على الرغم من أن التركيز على البعد الاقتصادي فيها أكثر من غيره. فللعولمة أبعادها الاجتماعية والثقافية والفكرية وهي ساحة صراع كبيرة وهائلة بحيث لا يمكن تحقيق الانتصار النهائي للغرب في هذه المعركة، إلا عبر تحطيمه للنظم الاجتماعية والثقافية والفكرية في البلدان الأخرى وخاصة بلدان العالم الإسلامي. من هنا، فإن الإجابة على التساؤل: لماذا يهتم الغرب بالتدخل في شئون بلدان العالم الإسلامي الخاصة، في قضية مثل الختان وجرائم الشرف أو إعادة ترتيب أوضاع العلاقات الاجتماعية. إن الغرب يعتقد أن العالم الإسلامي - على وجه الخصوص - لا يزال يملك مقومات قوة حقيقية تتمثل في النظم التي صاغت تاريخه وهويته ووجوده، وإنه - لكي يحول هذا العالم إلى سوق كبيرة مستهلِكة لمنتجاته - لا بد له من تحطيم هذه النظم المتصلة بوجوده وهويته وتاريخه وثقافته، لذا فإن المعركة الجديدة بين الغرب والعالم الإسلامي مختلفة عن المعارك التي سبقتهاº لأنـها متصلة بالهوية والوجود والحضارة.. ولهذا فهي معركة البقاء والوجود.

((والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)). وصدق القوي العزيز: ((فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)).

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply