وصلت الأزمة السياسية والإنسانية في إقليم دارفور في أقصى غرب السودان إلى مراحل خطيرة من تطورها، تبدت في ارتفاع وتائر العمل المسلح، واستهدافه المدنيين، مما أدى إلى نزوح أكثر من مليون مواطن من سكان الإقليم إلى دولة تشاد المجاورة، ووجودهم في معسكرات اللاجئين البائسة التي ملأت صورها وسائل الإعلام المختلفة، ومعاناتهم تحت ظل ظروف قاسية من انعدام أبسط الضروريات، بل مواجهة العديد منهم - وخصوصا الأطفال والعجزة - خطر المجاعة هناك، وكأنهم كانوا يهربون من خطر الموت بالسيف إلى موت آخر بطيء لانعدام ما يسد الرمق.
كما تتحدث الأخبار عن ممارسات التطهير العرقي، وحرب الإبادة التي تنسب للحكومة وحلفائها من مليشيات جنجويد ضد بعض الإثنيات من سكان الإقليم، وعلى خلفية كل هذه المأساة يطل التدخل الأجنبي برأسه سعياً لحل المشكلة من قبل بعض أطرافه، أو استغلالها لمصلحة بعض المتدخلين الآخرين، فيما تبدو النخبة السياسية والاجتماعية للإقليم والسودان عاجزة عن التعامل مع هذه الأزمة التي انفجرت بقوة لم تكن في الحسبان.
فما حقيقة ما يدور بإقليم دارفور؟ وهل الصراع فيه لا يزال صراعاً عسكرياً سياسياً بين أطراف معارضة والحكومة المركزية كما كان في مبتداه؟ أم تحول إلى حرب أهلية طاحنة يختلط فيها الصراع حول الموارد المحدودة بالنزاع حول هوية السودان وتوجهه القومي؟ ومستقبل العلاقات الإثنية فيه في ظل مكبوتات العلاقات المتخلفة، وترسبات الصراعات القديمة بالجيوبوليتيكا الحديثة، مما يهدد بقيام محرقة عرقية تتراجع أمامها أهوال رواندا وبوروندي.
جذور الأزمة وأيدلوجية الصراع:
” يكاد معظم المحللين يتفقون على أن إقليم دارفور قد عانى تهميشاً واضحاً من قبل الحكومات المركزية في الخرطوم على مدار تاريخ السودان المستقل، رغم إسهامه الكبير في الدخل القومي السوداني بثرواته الحيوانية والنقدية.
ويبدو نمو دارفور معتقلاً حيث أن حصة الإقليم من المشاريع الحديثة الصناعية والزراعية تكاد تساوي صفراً، وما يدخله من الميزانية العامة لا يتناسب مع إسهام الإقليم فيها، كما أن مستوى التعليم والخدمات الصحية والاجتماعية في دارفور متدن للغاية.
ويشكو العديد من مواطني دارفور من تعرضهم للتمييز السلبي تجاههم من بعض المواطنين في وسط السودان، وذلك رغم اشتراكهم في الإسلام، وتعزو الأطراف المختلفة ذلك التمييز لواقع سحنتهم الأفريقية وثقافتهم المتميزة، ولكونهم يشغلون في الغالب أعمالاً يدوية وخدمية بسيطة، مما يتعالى عليه أبناء الوسط، ويجد الكثيرون مثالاً على هذا الاستعلاء في المقولة الدارجة المنتشرة في وسط السودان والتي تقول "البجي من الغرب ما بسر القلب".
ويمكن أن تكمن بعض أسباب التوتر في علاقة بعض نخب ومواطني الوسط مع أهل دارفور في كون الأخيرين كانوا السند الأساسي للثورة والدولة المهدية التي ناضلت وحكمت في أواخر القرن التاسع عشر.
وقد شهدت العلاقة بين الدولة المهدية بقيادة الخليفة عبد الله التعايشي الذي ترجع أصوله لغرب السودان وبعض تكوينات الوسط القبلية توتراً حاداً ألقى بظلاله على حساسية العلاقة بين بعض مجموعات الوسط المعروفة بـ"أولاد البحر" أي النيل وأبناء دارفور وكردفان المعروفون بـ"أولاد الغرب".
وقد شهد الإقليم في تاريخه الحديث ظاهرة الصراعات القبلية على موارد الأرض والماء المحدودة في ظل الانفجار السكاني، وتزايد أعداد المواشي، وانعدام أي شكل من أشكال تنمية الموارد، وتحقيق الخدمات، ورفع الوعي العام.
وقد اكتسب صراع الموارد هذا شكل النزاع بين القبائل الرعوية المترحلة ذات الأصول العربية في مجملها، والقبائل الزراعية المستقرة ذات الأصول الأفريقية متخذاً بذلك شكلاً عرقياً مما سيسميه البعض لاحقاً صراع الهوية.
كل هذه العوامل أدت إلى تأزيم الأوضاع الاجتماعية والسياسية في دارفور، وإشاعة ثقافة العنف والحرب، والتي وإن كانت جزءاً من الثقافة السائدة في المجتمعات التقليدية القبلية فإن انفجارها بهذا الشكل اليوم يعلن سقوط مختلف المشاريع التنويرية، والرجوع القهقرى إلى جيوش وحروب القبائل بعد حوالي 60 عاماً من استقلال البلاد.
خريطة القوى الحزبية والأيديلوجية:
لقد كان إقليم دارفور موالياً تقليدياً لحزب الأمة وذلك لانتماء الغالبية من أهله لطائفة الأنصار التي تقودها أسرة المهدي، وقد كان الإقليم بمثابة منطقة مغلقة لنفوذ ذلك الحزب حتى منتصف السبعينيات، رغم محاولات اختراقه من طرف القوى والأحزاب العقدية والإصلاحية التي ركزت في دعايتها على إهمال الحكومات المركزية، وقيادة حزب الأمة لقضايا تطوير الإقليم، فكان أن قامت فيه جبهة نهضة دارفور كتنظيم جبهوي نهض به المثقفون أساساً، واهتم بأبناء الإقليم كذلك الشيوعيون، والإخوان المسلمون من جناح حسن الترابي.
ويبدو أن الحركة الإسلامية قد استطاعت أن تحقق اختراقات مميزة للإقليم، وخصوصاً وسط الشباب والمتعلمين، وذلك بعد نشاطهم المشترك في إطار الجبهة الوطنية المعارضة لنظام نميري.
وقد سجل الإسلاميون انتصاراً كبيراً لهم، بإدخال ثلاثة نواب لهم إلى البرلمان من دارفور في انتخابات عام 1986 في أول كسر لاحتكار حزب الأمة لدوائر الإقليم من قبل القوى العقدية الجديدة.
وقد دعم الإسلاميون من أبناء دارفور انقلاب 30 يونيو/ حزيران 1989 الإسلامي، وانخرطوا في مؤسساته، ولكن عدم وجود أي مشروع تنموي لدارفور، وأسلوب القبضة الحديدية الذي استخدمته الحكومة في التعامل مع دارفور، والصراعات بين أطراف النظام، وتبلور الصراع بين الإسلاميين كصراع بين أولاد البحر والغرب، قد أدى إلى ابتعاد أغلب الدارفوريين عن الحكم، بينما انضم من تبقى منهم لجناح الترابي، وانفض الشارع الدارفوري عن الجانبين.
وفي ظل انحسار النفوذ التقليدي لحزب الأمة بدارفور، وتضعضع نفوذ الإسلاميين فيها، بدأت في الظهور تيارات جديدة أكثر ثورية، إذ بدأت مجموعة موالية للحركة الشعبية لتحرير السودان بالنشاط في دارفور بقيادة المهندس داود يحي بولاد، والتي انهزمت في أوائل التسعينيات وأعدم قائدها.
” كما نظم أحمد إبراهيم دريج وشريف حرير حزب التحالف الفدرالي الديمقراطي السوداني الذي اعتمد بصورة رئيسية على أبناء دارفور وكردفان، وانضم للتجمع الوطني المعارض في منتصف التسعينيات.
بالمقابل فقد كانت تختمر تحت السطح نزعات عرقية تقوم على أساس الصراع القديم بين القبائل الرعوية والزراعية، أو العرب والزرقة وقد أسفرت تلك النزعات عن تكوين تنظيم التجمع العربي في الثمانينيات، وتنظيم قريش الغامض في التسعينيات.
من ناحية أخرى أدت تلك الصراعات القبلية، والتحيز الحكومي، ودعاية الحركة الشعبية الرامية إلى مخاطبة المهمشين والأفارقة إلى تمترس مقابل وسط بعض أبناء القبائل الزنجية في دارفور فتهيأت بذلك كل الظروف لانفجار الأوضاع.
القوى الأساسية في التمرد المسلح:
انطلقت العمليات العسكرية في دارفور في فبراير/ شباط من العام الماضي باستيلاء مجموعات مسلحة مجهولة على حامية قولو في جبل مرة، ثم انطلقت العمليات العسكرية بسرعة فائقة إلى مدن كتم والفاشر وغيرها، وهو ما أذهل كل المراقبين واللاعبين بمن فيهم الحكومة السودانية التي تعرضت قواتها لهزائم ماحقة علي يد المتمردين طوال شهور العام السابق.
ورغماً عن التكهنات المختلفة، ومحاولات العديدين تصنيف القوى المسلحة حسب موقعهم من الصراع، فقد أتضح أن المجموعات المقاتلة متعددة، وذات قيادات مختلفة، ظهرت من بينها حركة تحرير السودان بقيادة أمينها العام مني أركوي ميناوي، وحركة العدالة والمساواة بقيادة خليل إبراهيم، ومجموعة متمردة من أبناء القبائل العربية ممن لم يتفقوا مع قادة التمرد الآخرين، وانضموا لاحقاً للحكومة لكي يشكلوا النواة لما عرف لاحقاً بمليشيات "الجنجويد".
وقد كان التمرد معزولاً في البداية عن القيادات الدارفورية القديمةº ويبدو أن تنظيمه الأساسي وهو حركة تحرير السودان، قد أسس من قبل شباب لهم تجربة سياسية ضعيفة، وعلاقات عالمية محدودة، ولكن لهم خبرة عسكرية، وموارد مالية قوية، بينما اتجهت أصابع الاتهام للمؤتمر الشعبي، وحسن الترابي بالوقوف خلف حركة العدالة والمساواة، وأفلحت الحكومة في تحييد المتمردين من القبائل العربيةº وجرهم إلى صفوفها.
الحكومة من جانبها تعاملت مع التمرد باستخفاف في البدايةº وأصرت على أنه هجمات من قبل قطاع الطرقº وهي بهذا قد أغلقت الأبواب أمام أي حل سياسي في بداية الصراع، وفي المراحل اللاحقة ركزت الحكومة على أن حركة تحرير السودان مدعومة من قبل الحركة الشعبية لتحرير السودان وإريتريا وأطراف خارجية أخرى ذكرت منها بعض عناصر الجيش والمخابرات الليبية والتشادية، وأن حركة العدالة والمساواة إنما هي من بنات أفكار وتنفيذ خصمها العنيد حسن الترابي.
من المعارضة السياسية إلي الحرب الأهلية:
بعد حوالي عام ونصف من اندلاع العمليات المسلحة في دارفور تدهور الوضع في هذا الإقليم تدهوراً مريعاً، حيث تكاد العمليات العسكرية بين قوات الحكومة والمتمردين تكون قد توقفتº بينما ازدادت وتوسعت العمليات ضد المدنيين والقائمة على أسس عرقية وقبلية.
وتنسب معظم العمليات ضد المدنيين إلي مليشيات الجنجويدº وهي مليشيات تضم عناصر من القبائل العربية الدارفورية والوافدةº وتتحرك علي ظهور الخيل والجمال، وقد دعمت من قبل دوائر نافذة في الحكم لمحاربة التمرد، وإن كان يبدو أنها تتحرك وفق حسابات خاصة بها.
ويرجع بعض المحللين أهداف هجمات الجنجويد المريعة إلى طرد العناصر الزنجية من أراضيها، وإحلال قبائل وافدة من خارج السودان مكانها، بينما نسبت بعض الانتهاكات لحركات التمرد وخصوصاً حركة تحرير السودان على هامش بعض عملياتها العسكرية.
” ويبدو واضحاً من خلال ذلك انخراط عناصر إقليمية مختلفة في الصراع الدائر في دارفور، حيث نسبت أقوال لمسؤولين بالحكومة السودانية يتهمون فيها عناصر من المخابرات التشادية والليبية ودولة إريتريا بدعم التمرد، بينما تتهم حركات التمرد الحكومة التشادية بمحاباة الخرطوم، وتتردد أقوال عن مشاركة عناصر من دول أفريقية شتى في الصراع المسلح بدارفور بينها عناصر من مالي والنيجر وبوركينا فاسو وأوغندا.
إن كل هذه العوامل أدت إلى تحويل الصراع من طابعه كمعارضة مسلحة لحركات سياسية ضد الحكومة المركزية إلى كونه حرباً أهلية يتصارع فيها في المقام الأول أبناء دارفور من عرب وأفارقة، وتلعب فيها أياد أجنبية دوراً خفياً، ويدفع ثمنها الفادح المواطن الدارفوري البسيط.
ويبدو المجتمع الدولي متحركاً في اتجاه حل الأزمة في دارفور، وذلك بعد فشل الأطراف السودانية في وقف الاقتتال والانتهاكات تجاه المدنيين، ومواجهة اللاجئين لظروف حياة قاسية حركت ضمير العالم، وبعد فشل الأطراف الإقليمية ومن أهمها تشاد في إيصال الأطراف المتقاتلة إلى اتفاق.
وقد دخلت الإدارة الأمريكية بكل ثقلها لدفع الأطراف المتقاتلة للتفاوض، والضغط على الحكومة لحل الجنجويد وتقييدهم، والوصول إلى حل شبيه بما تم التوصل إليه في نيفاشا، آملة أن تقدم هذا الجهد كنجاح عالمي يحسب لها في الانتخابات القادمة في مقابل فشلها في العراق، بينما دخلت الأمم المتحدة من باب المساعدة الإنسانية حينما عجزت عن تقديم حل عادل وناجع للأزمة تلتزم به كل الأطراف.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد