بسم الله الرحمن الرحيم
لم تتعرف إفريقيا على عقيدة النصارى قبل السنوات الأخيرة التي شهدت نهاية الإمبراطورية الرومانية في شمال إفريقيا على يد المسلمين.
ومع أول عهد انتشار الإسلام في هذه المنطقة، لم يكن للنصارى غير مملكة قبطية في بلاد النوبة (شمال أم درمان بالسودان) كانت تسمى مملكة ميروي (Meroe) رفضت دعوة التوحيد، وظلت على شركها في ظل الدولة الإسلامية، حتى عام 1405م نصرانية، عندما هاجمتها قبائل الفونج الوثنية فقضت عليها، لتعود إفريقيا مرة أخرى بين وثنية تجذرت بجهالاتها وبين عقيدة إسلامية تنتشر كنسمات الربيع التي يفوح عبقها مع موجات الهواء البارد لترطب من حرارة خط الاستواء في قلوب الأفارقة المهتدين، بدون إرساليات طبية أو بعثات تعليمية أو خطط تنصيرية أو احتلال أرض أو عبودية بشر، أو جيوش لا تعرف غير الظلم وسفك الدماء.
كانت إفريقيا بالنسبة للنصارى عندما هجموا عليها كقطعة لحم جافة تسابقت إليها الكلاب لتنهش منها ما يسد نهمها، لم تكن الغاية هي المسيح، ولا رب المسيح، ولا المسيح الرب (عندهم)، إنما كانت توسيع رقعة النفوذ في مواجهة الصراعات السياسية والعقدية التي سيطرت على كل أنحاء أوروبا، وممارسة حياة البلطجة وقطع الطرق والسرقة التي كانت تجتاح كل بلاد الغرب، إلى أن بدأت سياسة احتلال البلاد في إفريقيا و آسيا، ونهب ثرواتها واستعباد شعوبها، فيما يعرف بالحملات الاستكشافية أولاً، ثم الحملات الصليبية بعد ذلك.
وتحت ظل هذه الحملات تحركت الكنيسة الكاثوليكية من فرنسا ثم من بلجيكا و البرتغال و ألمانيا و إيطاليا و أسبانيا، كما تحركت الكنيسة البروتستانتية الإصلاحية من إنجلترا ثم فرنسا و سويسرا وألمانيا و إسكندناوا و أمريكا، جاعلة لنفسها مقراً دولياً في منطقة جنوب إفريقيا.
ومن أشهر طوائف البروتستانتية الذين نشطوا في قارة إفريقيا عموماً هم الإنجيليكان، والميثودست، والبرزبيتاريان ثم اللوثرية وجمعيات الباتست Baptistes والأدفنتست Adventistes وبرج المراقبة Watch Tower المعروفة بجماعة شهود يَهوَه وهي الجماعة الوحيدة التي حالت الكنائس البلجيكية وحكوماتها دون السماح لها بالدعوة في منطقة الكونغو حتى اليوم.
وقد أدت هذه التعددية اللامحدودة في مذاهب وملل واعتقادات النصارى التي هرعت إلى الأرض الجديدة، إلى إثارة الفتن والعصبية وإشعال الحروب الضارية بين القبائل الإفريقية على مستويين:
ففي الداخل بين من ترك الوثنية إلى النصرانية أو اعتنق مذهباً نصرانياً يخالف مذهب الآخر، لا داخل القبيلة فحسب، إنما داخل الأسرة الواحدة وداخل العشيرة الواحدة، بين الأب وأبنائه، وبين الأشقاء، وبين الزوج وأصهاره.
وفي الخارج: بين القبائل بعضها مع بعض لارتداد بعضها عن الوثنية، أو لاختلاف المذاهب والملل التي اعتنقوها مجدداً من النصرانية.
وهكذا سالت دماء المئات والألوف من أبناء إفريقيا بأيديهم ثمن هذه الفتنة، إلى أن لجأت كل الإرساليات النصرانية إلى أسلوب جديد، يحافظ على الطقوس والعبادات الوثنية التي تربط بين القبائل بعضها ببعض، والإبقاء عليها إلى جانب طقوس النصرانية وعباداتها، وإن اختلف ذلك عن أصولهم العقدية، وهو ما وصفوه بالنسبة للنصراني الزنجي الجديد بكلمتي « الموت الذاتي » أو « الاحتضار المعنوي » للدلالة على خطورة ذلك الانقلاب في حياة الرجل الإفريقي.
ولكن برغم الجهود الجبارة التي بُذِلَت، والأموال الطائلة التي أنفقت، وعشرات الأرواح التي أُزهقت بين المنصرين بسبب الأمراض التي كانت تنتشر في البلاد الإفريقية، فإن حصاد النصرانية كان شيئاً لا يذكر ولا يتناسب مع الجهود والأموال والتضحيات التي خسرتها الكنائس وإرسالياتها، حتى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
إذ مع الحرب العالمية الأولى على وجه الخصوص، ولأسباب سياسية وعسكرية واقتصادية متعددة، يمكن القول إن النصرانية بدأت تجني ثمار كل السنوات السابقة، وأن تعيد الحيوية إلى البذور التي تناثرت هنا وهناك وحافظت على بقايا طقوس تنتمي إلى عقيدة النصارى بشكل مباشر أو غير مباشر.
مع بداية القرن العشرين تنبهت الكنائس الغربية إلى أخطائها في أساليب الدعوة على سواحل إفريقيا، ففرضت على أعضاء البعثات والإرساليات اتباع خطط مرسومة تقضي بدراسة تلك البيئات دراسة شاملة، وتَفَهٌّم نظمها الاجتماعية وعاداتها وتقاليدها ولغاتها.
كما فرضت على الأعضاء ضرورة الاختلاط بالسكان وقبول بعض طقوسهم الدينية الوثنية وتقديرها بما يرضي الوثنيين، بل ومحاولة إيجاد مساحة لذلك القبول في العقيدة النصرانية، وعدم العمل على محوها، إنما التغلغل فيها والاستفادة من أي بذور صالحة بها، وقبول بعض العادات الوثنية واعتبارها عادات نصرانية تحتفل بها الكنيسة.
كما تنبهت الكنيسة الغربية إلى ضرورة إعداد وتدريب وتعيين قسس من الإفريقيين، وإنشاء مدارس ومعاهد لهذا الهدف بدعم مباشر من بابا روما بيوس الحادي عشر، ثم بيوس الثاني عشر.
لكن كلمات هوبير ديشان [1] ما زالت تحفر حروفها في عقل الكنيسة الغربية يوم أن قال: « لكن كسب الإسلام لأقوام جديدة ما زال يندفع كالسيل يكتسح ما أمامه، وامتداده في المناطق العريضة نحو الشمال وإلى الشرق رائع حقاً، أما مطاياه إليها فكانت اللغات الواسعة الانتشار في التفاهم، وهي لغات قبائل أولوف و بيل و ماندانج و هوزا و السواحلية.
ثم يقرر ديشان قائلاً: « وسوف تظل المواجهة بين الإسلام والنصرانية في إفريقيا، وسوف تظل أيضاً مصائر هذه القارة متوقفة على إجابة السؤال: ترى أيهما ينتصر؟ الإسلام الشرقي أو المسيحية الغربية » [2].
الإرساليات الأولى على سواحل إفريقيا:
في العام 1491م أعلن أول ملك من ملوك إفريقيا اعتناقه للعقيدة النصرانية وهو ملك الكونغو، الذي مات بعد تنصٌّره مباشرة، وخلفه على العرش ابنه، فعمّدته إحدى الإرساليات التنصيرية باسم « ألفونسو » وزَّوجته واحدة من بناتها، فلما أنجب « ألفونسو » ولداً منحه منصب أسقف عام الكونغو، وأصدر قراراً بتغيير اسم العاصمة من بانزا كونغوا Mbanza Congo إلى اسم ساو سلفادور إحدى المناطق الشمالية بأنجولا الآن، وأعد مجموعة من أهالي البلاد للدعوة إلى دين النصرانية ومنحهم رتبة القساوسة.
في العام 1610م أسس البرتغاليون أسقفية نصرانية في مدينة لواندا Loanda على ساحل أنجولا الشمالي، لكنها لم تحرز أدنى نجاح في أداء مهمتها فأغلقت أبوابها على من فيها لعدة سنوات، ثم بيعت بعد ذلك.
في العام 1630م اعتنق زعيم مومباسا Mombaz (ممبسة) على الساحل الشرقي لكينيا عقيدة النصرانية، لكنه سرعان ما رجع عنها واعتنق دين الإسلام.
في العام 1651م أعلن مونوموتابا Monomotapa ملك موزمبيق تركه للوثنية واعتناقه للنصرانية، استجابة لدعوة إرساليتين إنجيليتين كانتا قد استقرتا في حوض نهر زامبيزي، إحداهما يسوعية والأخرى دومينيكانية، أغدقا عليه الأموال، وسارا معه في استخدام الأرواح التي كان يعتقد بها في وثنيته.
وفي العام 1665م أتت هجمة تنصيرية بروتستانتية من هولندا إلى سواحل جنوب إفريقيا، فقامت بتدمير جميع المؤسسات والكنائس والإرساليات التي كان قد أسسها البرتغاليون من قبل، ثم وضعوا أيديهم على منطقة رأس الرجاء الصالحº حيث نزل على أرضها أول قسيس بروتستانتي، لا ينافسه قسيس آخر من أي ملّة نصرانية أخرى.
وهكذا، منذ بداية القرن الحادي عشر حتى نهاية القرن السابع عشر النصراني وبداية القرن الثامن عشر، بقيت الدعوة السائدة بين وثنيات إفريقيا الجنوبية، هي دعوة الإسلام، لإخراج الناس من ظلمات الجهل والجاهلية وعبادة الأمطار والأنهار والجن والأحجار إلى عبادة الواحد القهار، وبقي الوجود النصراني محصوراً ومحاصراً في بقع محدودة للغاية.
ويعلن هوبير ديشان مؤلف كتاب الديانات في إفريقيا السوداء [3] قائلاً: « لكن تلك الجهود كلها، قضى عليها اضطراب الأحوال السياسية، والثورات، والجيوش التي كان يستعين بها تجار الرقيق، وارتداد الكثيرين إلى عقائدهم الوثنية القديمة، ولم يبق من كل ذلك إلا علامة الصليب التي اندمجت في المراسيم الوثنية ».
مائة عام بلا حصاد:
مع بداية القرن الثامن عشر دخل الأسبان ميدان التنصير، بعد ما سمي بثورة الإصلاح في فرنسا عام 1769م ثم في أوروبا كلها، ورحلت عدة بعثات تنصيرية كقوافل طبية وتجارية إلى عدة مناطق، ولاقت إقبالاً كبيراً من بعض الملوك الوثنيين، وبقايا من النصارى والمتنصرين.
فقد وجه الملك ألادا Allada ملك داهومي (بنين) الدعوة إلى إحدى هذه البعثات، لتنشيط حركة التجارة في بلادهº فلما استوضح غرض البعثة وهي التنصير طردها من بلاده وأوقف كل نشاط مع الهيئات الأوروبية.
فلجأت بعثة تنصيرية فرنسية إلى أسلوب آخر، وهو دعوة الملوك أو أبنائهم لزيارة فرنسا، فدعت أنيابا Aniaba ابن أمير ساحل العاج، لزيارة الكنيسة الفرنسية الكبرى، بمدينة سايل، حيث أعلن الابن نصرانيته وخضع للتعميد الذي قام به القس الشهير بوسيويه Bossuet، فكان لذلك الحدث رد فعل كبير لدى السلطة الكنسية الفرنسية، التي استضافته في قصر الملك لويس الرابع عشر، حيث أعلن الابن اتخاذ الملك أباً روحياً له، فلما عاد أنيابا إلى بلاده ساحل العاج، أعلن ارتداده عن النصرانية والعودة إلى الوثنية دين آبائه.
ومثلما فعل نصارى البرتغال وهولندا وفرنسا، حاولت الكنيسة الألمانية أن تحقق شيئاً في مواجهة المد الإسلامي بإفريقيا، فاختارت العمل بين قبائل تعرف بالهوتنتوت ولكنها لم تحقق أي نجاح.
ويقول هوبير ديشان: « حتى نهاية القرن الثامن عشر كان تعداد النصارى في كل أرجاء إفريقيا عشرين ألفاً من البيض، وبضع مئات من العبيد، ومع بداية القرن التاسع عشر لم يكن للنصرانية قدم ثابتة في مكان ما في إفريقيا السوداء، إذا استثنينا نقطاً ضئيلة على الساحل » [4].
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد