بسم الله الرحمن الرحيم
مات ميلوسوفيتش... وعمّا قريب سيموت شارون... هل يبدو ذلك خبراً مفرحاً، ومبهجا؟!
في نظر 99% منا (وأنا منهم)، لا شيء مفرح أكثر من أن ترى انتقاماً إلهياً عياناً بياناً من أناس سربلوا وجه التاريخ بالدم والقباحات والأمور السوداء...
والاتحاد الأوربي -مثلاً- لم تكن فرحته بموت السفاح تماماً كما كانت فرحتنا، فكما قرأت كانوا قد استبشروا خيراً بأن وفاة الإرهابي العنصري ميلوسوفيتش ستكون فاتحة خير لحياة وتفكير الشعب الصربي للبدء بحياة لا تعصّب فيها، ولا شقاق، ولا عرقية، ولا مزيد من الآلام التي مزّقت البلقان طويلاً... ولا أحقاد تاريخية، ولا قطع للرؤوس، ورسم للصلبان على الأجساد بالسكاكين...
وكأن ميلوسوفيتش كان شيطان التعصّب الأول الأكبر... بقرنين وشوكة وذيل طويل…كل ما عليه هو أن يموت لينتهي الألم والحقد والكراهية من قلب شعبه الطهور…
أنا كنت في الثالثة عشرة من عمري حين اندلعت حرب البوسنة والهرسك... وكل واحد منا يتذكّر كيف كان نطق اسم البوسنة والهرسك مثيراً للحزن والبكاء والأناشيد الراثية، وكان نطق اسم صربيا يعني شيئاً لا يُطاق من اللّظى واللعنات، وتداعيات صور فظيعة من التوحّش الإنساني بدوافع تعصّبية بحتة...
كل واحد منا يتذكّر ماذا كان يعنيه اسم ميلوسوفتش... كما عنى ويعني اسم شارون... ومن قبله إسحق شامير... ومناحيم بيغن... كل واحد من هؤلاء كانت وفاته في نظرنا (نصراً) جديرا بالحمد والتكبير والتهليل والاستبشار..
في الوقت الذي نعرف في دواخلنا أنه كلما مات منهم متعصّب قام متعصّب... تعددت الأسماء والتعصّب واحد...
وقائمة الجريمة تطول.... وبيغن وهتلر وقيصر وفرعون لم يُخلقوا من التعصّب لا هم ولا شارون ولا ميلوسوفيتش... وإنما خُلِقوا من طين وماء مثلنا تماماً قبل أن تمسخهم جمرة التعصب التي لم تنطفئ بموتهم... وتحوّلهم إلى شياطين مرعبة بذيول وأشواك وقرون…كتبها التاريخ كقروح ودمامل…
وكأن جمرة التعصّب والكراهية روح خبيثة تطير من يد سفّاح إلى يد سفّاح... ومن قلب سياسي إلى عقل آخر...
أفهم أن فرحتنا بموت المجرمين أمر فطري... أشبه بتنهيدة خلاص وانتقام.. والعبرة أن كل قوة لابد لها من آخر... وكل متعصّب لابد له من نهاية... وكل جبروت لابد له من قاصم...
لكن أن نفرح بموت الطاغية شيء... وأن نجعل فرحتنا بموته مصدراً لأمل قادم بزمن أخضر شيء آخر...
هل نظن ونحن نفرح بموت السفاحين أن دفننا لهم يردم معهم التعصّب والكراهية إلى غير رجعة... ؟!
وهل موقفنا من نهاياتهم موقف كافٍ, وواعٍ,؟!
أعني …بعد أن يكونوا رميماً لم نجتر قصصهم كنوع من التشفّي لا الاعتبار.. ولم نتذكّر صورهم كنوع من اجترار الكراهية، بدلاً من أن نعرف ما هو الشيء الذي مكّنهم أن يفعلوا بعباد الله ما فعلوه؟
حتى أخرّب فرحتنا قليلا بموت السفّاحين …فإن ميلوسوفتش (أنموذجاً) وقبل أن يُقبض عليه قبل سنوات كان بطل صربيا القومي بلا منازع... والمجازر التي قاد فيها قومه إلى إدانة تاريخية وورطة لم تنته إلا بتدخّل خارجي صفع وجه التعصّب العرقي بعنف ورده على عقبيه خاسئاً وهو حسير... كانت تلك المجازر في حقيقتها (بطولات) وأمجاداً في العقل الصربي، تستحق التضحية والموت في سبيلها تماماً، كما يفعل كل متعصّب لفكرته.. كما هو في عقل كل شخص يؤمن بالقتل المقدّس... من عصر الحروب الصليبية... وحتى حرب الإرهاب الأمريكية المقدّسة...
مادام أن الفكر المتعصّب موجود... مادام أن فكرة القتل لم تُجرّم بعد في كثير من القلوب في هذا العالم.. إن لم تكن مقدّسة ووسيلة لدخول الجنات والخلود في صفحات التاريخ..
مادام أن التعصّب وثارات خيبر والجثث العثمانية المختبئة في الغابات الصربية لم تمت.. ففيم يفرح أحدنا بموت طاغوت ما... أو انتظار آخر لمحاكمته في لاهاي... أو سقوط نظام الآخر، والآخر والآخر... ونحن نعلم علم اليقين أن الموت والمحاكمة لا يحلان مشكلة... ولا بموت أحدهم ولا بإعدامه أو سجنه مؤبداً تنتهي آلام البشرية، ولا تنقلب مفاهيمها إلى ما هو خير وأبقى...
في كل وجه مسحوق وذكي ومضطرب... تكاد ترى كيف تشتعل ميلوسوفيتشات وشارونات، ربما ستفعل ما لم يفعله فرعون وهامان وقارون...
أتذكّر أن نبي الله - عليه أفضل الصلاة والسلام - تنبأ أنه في آخر الزمان يكثر الهرج وهو القتل... ولربما كان من ضمن تفسير ذلك أن أمامنا ملايين الميولسوفيتشات والشارونات من كافة الجنسيات، تختبئ في الأرحام والأصلاب، تولد لتحقنها مواد الكارتون والألعاب والقصص الملوّنة بفكرة الأخيار الذين يقضون على كواكب الأشرار بأسلحة الليزر والرشاشات الضوئية، والحق الذي لا يُؤخذ إلا باليد غلاباً..
ويكبرون قليلاً ليجدوا قنوات إخبارية تضخ جرائم البشر ضد البشر... صوراً وأخباراً وإحصائيات...
لا أشياء وردية في حياة الجيل القادم من أبنائنا حين يكبر التعصّب، ويولّد تعصبات، وملايين الناس الذين يرى كل واحد منهم أنه نبي أجدر أن يُتّبع، وأن يكون قائداً وصانعاً للنصر والبطولة...
حين يصبح الموت والقضاء على الأرواح أمراً اعتيادياً لا يهزّ قلباً، ولا يبلّ جفناً فانتظر أجساداً تحلّ فيها روح من فرحنا بموتهم، وقمنا نراهن على السلام والخضرة اللذين سيعمّان البشرية بعدهم...
والشر روح.. وغراب ينعق في الأرواح المحقونة بتاريخ أظلم من الأحقاد والتراكمات والثارات...
الشرّ ليس جسداً يُوارى التراب فيبلى...
وإنما قد أفلح من زكاها…وقد خاب من دسّاها…
وليس بأمانيِّكم ولا أمانيِّ أهل الكتاب..من يعمل سوءًا يُجزَ به..ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد