بسم الله الرحمن الرحيم
عاجزةٌ عن إحصاءِ أعدادهم.. مئات الضحايا.. ومئات الثكالى..
تذكرتها.. كانت تقول.. وتدعو الله: أن لا تفقد ولداً من أولادها ما دامت حية..
استجاب الله دعاءها.. هي الآن جثة هامدة، توسطت أجساد أولادها الشهداء أيضاً.. لم يبق منهم أحد..كلهم رحلوا..
تفقدت بقية الجثث الملقاة هنا وهناك.. لم أنتبه لرائحتهم المنتنة.. كنت منشغلة في إحصائهم والتعرف على أجناسهم..
تلك القنبلة العنقودية لم تبق من ملامحهم شيئاً.. بعضهم استحال إلى رماد.. والبعض الآخر تبدد قطعاً متناثرة حاولوا جمعها.. لكنها بقيت ناقصة.. كنت واثقة من أنني لن أستطيع تذوق أي شيء لفترة طويلة بعد هذا المنظر..
لا أدري لماذا نحزن؟!.. أهو نوع من أنواع الخوف من المستقبل؟!.. أم هو تفكيرنا بأنهم منذ ساعات كانوا يجهلون مصيرهم هذا!!.. لا أدري بماذا نفكر.. ولماذا نفكر.. وكيف نفكر؟!.. كل ما أعرفه أننا لا نتوقف عن التفكير..
إنسان وحيد فقط نجا من بينهم.. كان طفلاً في الثانية من عمره.. سبحان الله"من له عُمر لا تقتله شدة".. ذهبت إلى حيث الملجأ الذي انتهى إليه.. نظرت في عينيه العسليتين البريئتين.. هه (الحمد لله أنه لا يعي شيئاً.. ابتسمت شفتاي بينما بكت عيناي، وأسقطتا دمعتين حارتين.. همست:"قدر الله وما شاء فعل".
حملته بين ذراعي.. ضممته بشدة إلى صدري.. كان مذهولاً بي.. فهو لا يعرفني.. استسلم في البداية لحضني الذي ذكَّره ربما بحضن أمه.. تلك التي لا يعرف كيف يسأل عنها.. ليس لديه سوى أن يبكي.. يظن أنه سيجدها بهذه الطريقة المزعجة.. إلا أن بكاءه ذلك لا ينتهي به إلا إلى النوم.. يشفق عليه صديقه النوم.. ويأخذه رحلة إلى أمه عبر الحلم..
عدت لأنظر إليه وهو ما يزال بين ذراعي.. كان يحاول أن يتخلص مني.. فقد كتمت أنفاسه المسكِـيَّةَ بضمتي القوية.. كأنه يقول:"ليس هناك حضن برائحة كرائحة أمي.. ابتعدي عني"..أخذ يحاول دفع نفسه عن صدري بيديه الصغيرتين..أنهيت جهاده.. لأضعه في سريره..
اقتربت من وجهه، وطبعت قبلة على خده.. ثم جلست على الكرسي أنتظر الحاضنة المسؤولة عنه:
"سيكبر.. سيصبح من أطفال الحجارة يوما ما.. سيمسك بيده الناعمة هذه حجراً من أرضك يا فلسطين.. لتستحيل خشنة بخشونة الحجر.. متشققة كداخله.. سيدافع عنك.. وربما سينتهي إليك وقد فشلت محاولاته في إخراج المحتلين"..
انخرطت في نواح ونحيب أصاب أعماق أعماقي.. أخرجت منديلاً ومسحت دمعي.. دخلت الحاضنة الغرفة.. استدرت نحوها بفزع.. فراحت تبدي أسفها من إفزاعي..
جلست معها بضع دقائق أوصيتها به.. ثم تركته معها وخرجت..
كل أسبوع أذهب لزيارته.. أسميته صلاح الدين.. ربما لأني أتوق لقدس حرة.. وأقصىً شريف طاهر لا تطأه قدم نجسة.. كنت في كل مرة أجده يكبر.. سيصبح رجلاً يوماً ما .. لكنه لن ينسى أنه كان طفلاً محروماً يتيماً في يوم من الأيام..
يجب أن أبقى بجانبه..
كلما نظرت في عينيه.. ومضت صورة أنقاض منزل أهله وجثثهم أمامي.. وفي كل مرة أجدني أحوقل وأسبح..
مهمة الصحافة صعبة.. تجعلني أعيش وسط كم هائل من الأحداث الجسام المؤلمة القاسية.. تلك التي يكتفي العرب برؤيتها على الشاشة التلفزيونية.. بينما أراها حية.. بألوانها ورائحتها وعبق مأساتها.. "متى سأتقاعد؟؟"..
سؤالٌ غبي طرق مخيلتي.. وأعقبته إجابة أكثر غباءً منه:
"في يوم ما"..
محاولة مشجعة.. ونظرة متفائلة أحببت استخدامها.. ففي يوم ما سأترك ميدان البحث عن حدث صحفي يترأس الصحيفة.. وأرحل بعيداً عن الأنقاض.. والجثث.. والقبور.. ربما لأستقر في إحداها أنشد السلام..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد