الإساءة الدانمركية الجديدة .. قراءة تحليلية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

ما إن أعلنت السلطات الأمنية الدانمركية عن توقيف مواطن دنمركي من أصل مغربي وتونسيان في مخطط مزعوم لقتل فيستر جارد، رسام الكاريكاتير في صحيفة يولاندس بوستن الدنمركية التي نشرت رسوم مسيئة للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في سبتمبر 2005، حتى بادرت سبعة عشر صحيفة دنمركية وبشكل جماعي بدا منظما وسريعا إلى إعادة نشر تلك الرسوم الكاريكاتورية والتي ظن الكثير أن صفحتها قد طويت إلى غير رجعة.

رد الفعل الجماعي الصحفي الدانمركي مستغرب ومستهجن، ذلك لأنه يصب الزيت على النار وهو رد فعل لا يليق بالجهلة فما بالك بمن يدير أدوات المعرفة والإعلام، فلماذا يساء إلى أمة كعقوبة جماعية إن أخطأ افتراضا- ثلاثة منها؟

ولأن القضية لم تثبت على المتهمين بل وعلى العكس فالذي يرجح أن الاستخبارات الدانمركية وقعت بخطأ مخجل، فقد أفرجت السلطات الدانمركية عن مواطنها الدنمركي ليواجه اتهامات لاحقة، فيما أعلنت عزمها على ترحيل التونسيين وبموجب قوانين مكافحة الإرهاب الدنمركية التي أقرت في أعقاب هجمات سبتمبر 2001 على الولايات المتحدة يمكن طرد الأجانب دون مراجعة قانونية كاملة، مما أثار موجة من الاحتجاجات الحقوقية والقانونية.

هناك عوامل وأسباب أدت إلى ردة الفعل الدانمركية غير العقلانية، منها أن الشعب الدانمركي كغيره من الشعوب الغربية يتعرض لحملات إعلامية مستمرة من التشويه والتزييف والتي تطال الإسلام ومعتنقيه.

فالدانمرك والتي لا تسمح لمسلميها بتشييد المآذن لمساجدهم تنتصب في قلب عاصمتها مجسم على شكل مئذنتين تستخدمان في مدينة الألعاب الشهيرة تيفولي هازئة بمشاعر المسلمين.

قبل شهور من ظهور الأول للكاريكاتير المسيء نشرت ملكة الدانمرك كتاب مذكرات حمل اسم "مارغريت" قالت فيه أنه من الضروري "اخذ التحدي الذي يشكله الإسلام على محمل الجد، على الصعيد المحلي والعالمي".

وحذرت في الكتاب من "تحد نحن مرغمون على أخذه على محمل الجد. لقد تركنا هذه المسألة قائمة لفترة طويلة جدا لأننا متسامحون ويسيطر علينا الخمول". وتابعت "يجب التصدي للإسلام ويجب من حين لآخر أن نواجه مخاطر أن نوصف بأننا اقل مجاملة، لأن هناك بعض الأمور التي لا يمكن التسامح حيالها".

الأجواء في الغرب محتقنة بشكل عام ضد المسلمين، ويزيد من أوراها خروج تحذيرات من سلطات أمنية في دول غربية بين حين وآخر محذرة من خطر أصولي إسلامي محتمل أو من إفشال مخطط إرهابي مزعوم.

السياسيون الغربيون يتخذون مواقف متطرفة من الوجود الإسلامي في أوربة ضمن محاولاتهم لاجتذاب الأصوات الانتخابية للتيار اليميني. رصد ردود الفعل البريطانية على تصريحات أسقف كانتربري حول تطبيق بعض قوانين الشريعة على المسلمين، تظهر مدى الحساسية الكبيرة لكثير من القطاعات الغربية في كل ما يمس الشأن الإسلامي.

في الصيف الماضي حذر جورج جاينزفاين السكرتير الخاص للبابا بنديكت السادس عشر في مقابلة له مع مجلة سودويتشه تساينتوج الألمانية بموقعها على الإنترنت مما وصفه بـ"أسلمة الغرب"، مشددا على أنه يتعين على أوروبا ألا تتجاهل جهود إدخال القيم الإسلامية في الغرب، وهو ما يمكن أن يهدد هوية القارة.

قائلا: "لا يجب إغفال محاولات أسلمة الغرب"، محذرا أوروبا من تجاهل جهود إدخال القيم الإسلامية في الغرب، وهو ما يمكن أن "يهدد هوية القارة" على حد زعمه.

الجاليات الإسلامية في أوربة ما عادت تتمتع بالحرية والتسامح والذي اشتهر بهما الغرب فيما مضى قبل أن يتخذ بعضا من سياسيه الإسلام عدوا بعد انتهاء الحرب الباردة مع المعسكر الشيوعي.

الحجاب أصبح محظورا في مدارس فرنسا وفي ساحات العمل في أكثر ولاية ومدينة أوربية، بناء المساجد وتشييد المآذن أصبح من الأمور الساخنة والتي يشحن فيها عواطف الغربيين وأحيانا غرائزهم.

 

الاتحاد من أجل مستقبل النمسا، وهو حزب يميني بقيادة جورج هيدر تقدم بمشروع قانون لبرلمان ولاية كارينثيا يقترح فيه "منع تشييد المباني غير المتماشية مع نمط البناء التقليدي"، سعيا لمنع بناء المساجد.

كما أن هناك ضجة مستمرة منذ قيام الجالية المسلمة في مدينة كولون الألمانية بوضع حجر الأساس لمسجد ضخم قيد الإنشاء له حسب يضم منارتين كل واحدة منهما بارتفاع 55 متراً وفناء يتسع لألفي مصلي، في حين صوّت مجلس محلي ضد بناء مسجد في ميونيخ.

في لندن أرسل التماس ضد بناء "المسجد الكبير" بالقرب من المكان الذي سيستضيف دورة الألعاب الاولمبية في لندن عام 2012، ووقع على الالتماس أكثر من 275 ألف شخص.

في سويسرا قدّم حزبان يمينيان التماساً يطالبان فيه بإجراء استفتاء لحظر المآذن في البلاد. أما في إيطاليا، فقد دعت الرابطة الشمالية المناهضة للهجرة ذات مرة إلى إغلاق كل المساجد لإجراء تفتيشات أمنية.

مجلة "التايمز" الأمريكية كتبت حول موضوع الرسوم الدانمركية المسيئة تقول: "لقد أضحت هذه الأزمة واحدة من أكثر الفصول حرارة فيما أطلق عليه كثيرون مسلسل الصراع الحضاري والأيديولوجي بين الغرب العلماني والعالم الإسلامي".

ونقلت المجلة عن أحد خبراء الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط اعتقاده بأن ردود الفعل على هذه الرسوم لن تكون بنفس الحدة التي كانت عليها في المرة الماضية، قائلاً: "لا أعتقد أن هناك نيةً لدى الدول العربية لتصعيد هذا الحدثº فإستراتيجية المرة الماضية لم تفلح في شيء".

الدانمرك والغرب لا يأخذون مآخذ الجد دعوات المقاطعة العربية والإسلامية، والتي تبدأ بحماس كبير ثم تخبو بعد فترة من الزمان بل تكاد تموت.

لم تعتذر الصحف الدانمركية عن تعديها على الرسول في المرة الأولى، بل قدمت وبعض السياسيين الدانمركيين تبريرات سطحية، تلقفتها جهات عربية إعلامية ورسمية بلهفة كبيرة. في الصيف الماضي تبادلت وفود تجارية كبيرة من دول إسلامية كبرى مع الدانمرك زيارات لتشجيع التعاون التجاري بين البلدين.

في المحصلة النهائية استفادت الدانمرك من حملتها الصحفية الأولى على الرسول من خلال الاتصالات والحوارات التي رافقت القضية مع رفضها للاعتذار- في توثيق العلاقات التجارية والاقتصادية.

فهل نستغرب بعد ذلك أن تتجرأ الصحف الدانمركية وبشكل جماعي علينا وعلى رسولنا - صلى الله عليه وسلم -؟

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply